شرح أخلاق حملة القرآن
باب أخلاق من قرأ القرآن لا يريد به الله عز وجل

قال المؤلف -رحمه الله: (بَابُ أَخْلاَقِ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لاَ يُرِيدُ بِهِ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ) قال: محمد بن حسين -رحمه الله: (فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلدُّنْيَا وَلأَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ مِنْ أَخْلاَقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ، مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ، مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ، قَدْ أَخَذَ الْقُرْآنَ بِضَاعَةً يَتَأَكَّلُ بِهِ الأَغْنِيَاءَ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ، يُعَظِّمُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا وَيُحَقِّرَ الْفُقَرَاءَ، إِنْ عَلِمَ الْغَنِيَّ رَفَقَ بِهِ طَمَعًا فِي دُنْيَا، وَإِنْ عَلِمَ الْفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ؛ لأَنَّهُ لاَ دُنْيَا لَهُ، يَطْمَعُ فِيهَا، يَسْتَخْدِمُ بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَيَتِيهِ بِهِ عَلَى الأَغْنِيَاءَ، إِنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ وَيُصَلِّي بِهِمْ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِنْ سَأَلَهُ الْفُقَرَاءُ الصَّلاَةَ بِهِمْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ الدُّنْيَا فِي أَيْدِيهِمْ، إِنَّمَا طَلَبُهُ الدُّنْيَا؛ حَيْثُ كَانَتْ رَبَضَ عِنْدَهَا، يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي الْحِفْظِ بِفَضْلِ مَا مَعَهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَزِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ بِالْغَرَائِبِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي لَوْ عَقِلَ لَعَلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَلاَّ يَقْرَأَ بِهَا، فَتَرَاهُ تَائِهًا مُتَكَبِّرًا، كَثِيرَ الْكَلاَمِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، يَعِيبُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَهُ، مُتَكَبِّرًا فِي جِلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا فِي تَعْلِيمِهِ لِغَيِْرِهِ، لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ، كَثِيرَ الضَّحِكِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ، يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ، هُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَنْ يُحِبُّ عَلَيْهِ أَنْ يَِسْتَمِعَ لَهُ، يُرِي أَنَّهُ لِمَا يَسْتَمِعُ حَافِظًا، فَهُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ كَلاَمِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إِلَى كَلاَمِ الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّّ، لاَ يَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلاَ يَبْكِي وَلاَ يَحْزَنُ وَلاَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْفِكْرِ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِ وَقَدْ نَدِبَ إِلَى ذَلِكَ، رَاغِبًا فِي الدُّنِيَا وَمَا قَرَّبَ مِنْهَا، لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى، إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ لاَ يُقَصَّرُ فِي حُقُوقِهِمْ! وَأَهْلُ الْقُرْآنِ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ، يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَقَّ نَفْسِهِ وَلاَ يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا للهِ عَلَيْهَا، يَغْضَبُ عَلَى غَيْرِهِ زَعَمَ للهِ، وَلاَ يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ للهِ، وَلاَ يُبَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ؛ مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلاَلٍ؟ قَدْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ، إِنْ فَاتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ حَزِنَ عَلَى فَوْتِهِ، وَلاَ يَتَأَدَّبُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَلاَ يَزْجُرُ نَفْسَهُ عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لاَهٍ غَافِلٍ عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِ، هِمَّتُهُ حِفْظُ الْحُرُوفِ، إْنِ أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ سَاءَهُ ذَلِكَ لِئَلاَّ يَنْقُصَ جَاهُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ فَتَنْقُصُ رَتْبَتُهُ عِنْدَهُمْ فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ، وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيَنَ اللهِ –تَعَالَى- مِمَّا أُمِرَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ أو نُهِي عَنْهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ، أَخْلاَقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلاَقُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ، لاَ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، إِذَا سَمِعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا(1)، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ طَلَبَ الْعِلْمِ؛ لِمَعْرِفَةِ مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَنْتَهِي عَنْهُ، قَلِيلَ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وبَيْنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ، كَثِيرَ النَّظَرِ لِلْعِلِمْ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا لِيُكْرِمُوهُ بِذَلِكَ، قَلِيلَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ الَّذِي نَدَبَ اللهُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَسُولُهُ؛ لِيَأْخُذَ الْحَلاَلَ بِعِلْمٍ وَيَتْرُكَ الْحَرَامَ بِعِلْمٍ، لاَ يَرْغَبُ فِي مَعْرِفَةِ عِلْمِ النِّعَمِ وَلاَ فِي عِلْمِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، تِلاَوَتُهُ لِلْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى كِبْرٍ فِي نَفْسِهِ وَتَزَيُّنٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِنْهُ، لَيْسَ لَهُ خُشُوعٌ فَيَظْهَرَ عَلَى جَوَارِحِهِ، إِذَا دَرَّسَ الْقُرْآنَ أَوْ دَرَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هِمَّتُهُ مَتَى يَقْطَعُ، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى يَفْهَمُ، لاَ يَتَفَكَّرُ عِنْدَ التِّلاَوَةِ بِدُرُوبِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِرِضَا الْمَخْلُوقِينَ، وَلاَ يُبَالِي بِسَخَطِ رَبَِّ الْعَالَمِينَ، يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ، وَيُظْهِرُ خَتْمَهُ لِلْقُرْآنِ لِيَحْظَى عِنْدَهُمْ، قَدْ فَتَنَهُ حُسْنُ ثَنَاءِ الْجَهَلَةِ مِنْ جَهْلِهِ، يَفْرَحُ بِمَدْحِ الْبَاطِلِ وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ، يَتْبَعُ هَوَاهُ فِيمَا تُحِبُّ نَفْسُهُ، غَيْرُ مُتَصَفَّحٍ لِمَا زَجَرَهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ، إْنَ كَانَ مِمَّنْ يُقْرِئُ غَضِبَ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ، إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِالصَّلاَحِ كَرِهَ ذَلِكَ، وَإِنَ ذُكِرَ عِنْدَهُ بِمَكْرُوهٍ سَرَّهُ ذَلِكَ، يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، يَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ، يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَضَعَ مِنْهُمْ وَيَرْفَعَ مِنْ نَفْسِهِِ  يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، يَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ، يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ لِيَضَعَ مِنْهُمْ وَيَرْفَعَ مِن نَفْسِهِ، يَتَمَنَّى أَنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ مَوْلاَهُ الْكَرِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ شِعَارَ الصَّالِحِينَ بِتَلاَوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ضَيَّعَ فِي الْبَاطِنِ مَا يَجِبُ للهِ، وَرَكَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مَوْلاَهُ الْكَرِيمِ، كُلُّ ذَلِكَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا، قَدْ فَتَنَهُ الْعُجْبُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، إِنْ مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْ مُلُوكِهَا فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ سَارَعَ إِلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ مَرِضَ الْفَقِيرُ الْمَسْتُورُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَخْتِمَ عَلَيْهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَيَتْلُوهُ بِلِسَانِهِ، وَقَدْ ضَيَّعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَحْكَامِهِ، أَخْلاَقُهُ أَخْلاَقُ الْجُهَّالِ، إِنْ أَكَلَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ شَرِبَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ نَامَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ لَبِسَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ جَامَعَ فَبِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِنْ صَاحَبَ أَقْوَامًا أَوْ زَارَهُمْ أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِمْ فَجَمِيعُ ذَلِكَ يَجْرِي بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْفَظُ جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ مُطَالِبٌ نَفْسَهُ بِمَا أَوْجَبَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُؤْبَهُ لَهُ وَلاَ يُشَارُ لَهُ بِالأَصَابِعِ)، قال محمد بن الحسين -رحمه الله: (فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلاَقُهُ صَارَ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ لأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالأَخْلاَقِ الَّتِي لاَ تَحْسُنُ بِمِثْلِهِ اقْتَدَى بِهِ الْجُهَّالُ، فَإِذَا عِيبَ عَلَى الْجَاهِلِ قَالَ: فُلاَنٌ الْحَامِلُ لِكِتَابِ اللهِ فَعَلَ هَذَا، وَنَحْنُ أَوْلَى أَنْ نَفْعَلَهُ! وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِعَظِيمٍ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ، وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ قَبِيحِ هَذِهِ الأَخْلاَقِ نَصِيحَةٌ مِنِّي لأَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَتَعَلَّقُوا بِالأَخْلاَقِ الشَّرِيفَةِ وَيَتَجَافَوْا عَنْ الأَخْلاَقِ الدَّنِيَّةِ، وَاللهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاهُمْ لِلرَّشَادِ، وَاعْلَمُوا -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنِّي قَدْ رَوَيتُ فِيمَا ذَكَرْتُ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى مَا كَرِهْتُهُ لأَهْلِ الْقُرْآنِ، فَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَنِي لِيَكُونَ النَّاظِرُ فِي كِتَابِنَا يَنْصَحُ نَفْسَهُ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ الْقُرْآنِ، فَيُلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، وَاللهُ -تَعَالَى- الْمُوَفِّقُ).


تقدم في الباب السابق ذكر ما ينبغي على قارئ القرآن أن يتحلى به من الأخلاق، وفي هذا الباب ذِكْر ما يترتب على مَن قرأ القرآن لا يريد به وجه الله -تعالى، وقد ساق المؤلف كثيرًا من الأعمال السيئة التي تنتج عمَّن قرأ القرآن لغير وجه الله وأراد به الدنيا، وفي هذا أيضًا تحذير شديد لمن تحمَّل القرآن العظيم ولم يَسِر به في الطريق الصحيح الذي شرعه الله -تعالى- له.

فقد يكون المؤلف -رحمه الله تعالى- قد شاهد هذا في زمانه وأن بعض الناس قد اتخذ القرآن مكسبًا يتكسب به لأعمال الدنيا؛ من المال والجاه والثناء.. وما أشبه ذلك، وأن هذه الأخلاق التي ساقها المؤلف تحصل بمن كانت نيته سيئة أو مخالفة لما أراد الله -تعالى؛ حيث قد تحمل كتاب الله وكان الأولى به أن يكون زاهدًا في الدنيا محبًّا لفعل الخير بعيدًا عن المعاصي مجانبًا للفتن والشهوات آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر كما تقدم لا أن يكون مفتخرًا متعاليًا على الناس، فإذا قرأ القرآن الكريم فإن القرآن يدعوه إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة، ومن الأخلاق الفاضلة عدم الفخر على الناس وطلب الخيلاء، كما قال الله -تعالى- في وصية لقمان لابنه: ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا(2)، وقال -تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(3).

فقد يحصل هذا من إنسان لا يعرف الأدلة الشرعية ولا يعرف الأحكام فيوجه وينصح في هذا، ولكن كيف بمن حفظ القرآن وتحمله ووقع في هذه المنهيات التي جاء فيها النهي ولا تمش ولا تصعر؟! هذا نهي من الله -تعالى- ينبغي الالتزام به والوقوف عنده وهو استجابة لأمر الله -تعالى- وأمر رسوله الذي قال الله -تعالى- فيه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ(4).

وهنا بيَّن المؤلف أن قارئ القرآن الذي لا يريد به وجه الله تظهر على حياته وأعماله الآثار السيئة، ويعرفه الناس ويحكمون على فعله، وأنه لم يرد بهذا وجه الله، وإن كان هذا في القلب وفي النية والمقاصد والسرائر لا يعلمها إلا الله -تعالى، ولكن يظهر أثر ذلك في تعامله وحياته مع الناس، وربما يطلب أيضًا بقراءته للقرآن الفخر بما لديه من الحفظ والإتقان ومعرفة القراءات، وهذا قد ابتلي به كثير من قُرَّاء القرآن على مر الدهور من أزمنة متعددة.

وقد ذكر ابن الجوزي(5) -رحمه الله تعالى- من تلبيس إبليس طرقًا من ذلك منها: أنهم يذهبون ويتتبعون الأسانيد ويقرؤون بها ولا يكتفون بقراءة على قارئ واحد، ويذهب إلى الثاني والثالث حتى يقال: إن فلانًا معه خمسة أو عشرة أسانيد قرأ بها القرآن، وجمع الروايات والقراءات، كما قال هنا: (زِيادةُ المعرفَةِ بالغرائبِ منَ القراءاتِ ولكنَّهُ لو عَقِلَ ما فعلَ ذلِك)، وهذا من تلبيس إبليس على القرَّاء وعلى أهل القرآن.

فإذا مَنَّ الله -تعالى- على قارئ القرآن أن يقرأ على شيخ حاذق ضابط وأجازه بالإسناد ففي هذا خير وبركة، لا أن يفاخر بهذا الإسناد ويشهره بين الناس ويعليه في وسائل الإعلام حتى يشتهر أمام الناس، فهذا داخل في الرياء -نسأل الله السلامة والعافية.

كذلك بعضهم يتتبع الشواذ في القراءات؛ لأن القراءات السبع معروفة ومتواترة، وكذلك الثلاث المتممة فهي عشر قراءات، وهناك قراءة الأربعة عشر، والأربعة شواذ وتكلم فيها أهل العلم وجمعها ابن خالويه(6) في كتابه "المختصر"، وجمعها أبو البقاء العُكْبَرِي(7) في إعراب شواذ القراءات، وهي مبثوثة في كتب التفسير، فيتتبع قارئ القرآن الذي حفظ القرآن وأتقنه وضبطه وقرأ القراءات الشاذة ويقرأها، ثم يذيعها بين الناس ويبين ما فيها من الفوائد والمعاني، وهذه الشواذ لا تجوز القراءة بها في الصلاة، فهي لم تكن في العرضة الأخيرة، ولا يطلب الفخر ولا يتتبع غرائب القراءات، فالغرائب التي في القراءات كثيرة، ولو ذكر لكم كثيرًا منها لما انتهى المقام، ولكن لا ينبغي لقارئ القرآن أن يتتبع هذه الأمور، بل عليه أن يعمل بهذا القرآن ويتلوه ولا يشغل نفسه بأمور ليس مطالبًا بتتبعها والنظر فيها.

كما أن الذي يبتعد عن الإخلاص في طلب القرآن يقع في كثير من المنكرات والمعاصي، ومنها الكبر، كما أشار المصنف أنه يقع في الكبر والتعالي والفخر والخيلاء على غيره، فمَن أعرض عن القرآن وقع في الفتن العظيمة حتى لو كان حافظًا للقرآن، فهو إنما قرأ القرآن وأعرض عنه، قال -تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(8)، فسيعرض في الدنيا للفتن والابتلاءات ويغتر بنفسه ويقع في الشهوات وفي الشبهات؛ لأنه لم يرد بذلك وجه الله -تعالى، كما أنه لا يحصل على الخشوع والخضوع والخوف من الله والبكاء عند تلاوة القرآن والتأثر بقراءة القرآن، وقد قال الله -تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيزِيدُهُمْ خُشُوعًا(9).

فهذا أثره في النفوس المخلصة لله -تعالى، وقد أثنى الله -تعالى- على طائفة من أهل الكتاب الذين تأثروا بالقرآن وعملوا بما فيه كعبد الله بن سلام(10) وغيره، قال الله -تعالى: ﴿مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(11)، وقال -تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(12).

هكذا يفعل القرآن بصاحبه إذا كان مخلصًا لله -تعالى، أما إذا كان للرياء والسمعة والشهرة والتكثُّر بين الناس فإنه يُحرَم لذة الخشوع والحلاوة؛ فضلاً عن أن القرآن سيكون حجة عليه يوم القيامة حينما يلقى ربه -جل وعلا.

ومن الأمور التي يقع فيها البعيد عن الله -تعالى- بالإخلاص أنه يبدأ يتكسب بهذا القرآن، ويطلب به الأموال كما هو الحال والمشاهد الآن في كثير من بلاد المسلمين الذين يأتون يقرؤون القرآن في أماكن قد لا تكون مشروعة ولا القراءة فيها مشروعة، ويطلب أموالاً على ذلك ويشترط، حتى يقرأ في هذا المجلس أو في هذا المحفل، فهذا يتكسب بالقرآن وداخل في الوعيد -نسأل الله السلامة والعافية.

فالتكسب بالقرآن محرم ولا يجوز؛ لأن القرآن كلام الله -تعالى- وكلام الله يتقرب به إلى وجهه سبحانه، ويطلب منه الثواب الأخروي، وقد يأتيه الثواب في هذه الدنيا ويعجل له فيه من السعادة والاطمئنان والخير ودفعه المظالم والمآثم والفتن، كذلك الغفلة أنه أيضًا يقع في الغفلة، ويحرم التذكر بطاعة الله -تعالى، والغفلة هي صفة أهل الدنيا وصفة أهل النار، قال الله -تعالى:  ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾(13)، فحكم عليهم بالغفلة، وأن سبب دخولهم النار أنهم كانوا في غفلة وإعراض عن الله -تعالى، وقد ذكَّر الله -تعالى- نبيه محمدًا -صلى الله عليه وآله وسلم- بذلك وهو المطيع المتذكر فقال: ﴿وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ(14).

فهذا من باب التذكير، وإلا فهو إمام المتذكرين الذاكرين، وإنما ذكَّره ولا يقال حذَّره، فتذكير الله -تعالى- لأنبيائه من باب التذكير لهم، كما قال الله عن داود -عليه السلام: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى(15)، فهو -عليه السلام- ليس متبعًا للهوى؛ لأنه مصطفى من الله، ولكن هذا من باب التذكير للأنبياء والتذكير لأتباعهم أيضًا وتحذير حتى لا يقعوا في مثل هذا.

فالغفلة الأصل فيها أنها مذمومة على الإطلاق إلا ما جاء النص عليه؛ لأن الغفلة قد تكون ممدوحة في حالة من الأحوال كما امتدح الله بها المؤمنات، قال -تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ(16)، فسماهن الغافلات، والغفلة هنا صفة مدح وليست صفة ذم، والمعنى أنهم غافلات عن الفواحش والشر والسوء والإثم؛ لأن ما تقدم سياق في قصة الإفك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ(17).

وقد جاء في الحديث عند أحمد وغيره: «أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ»(18)، والبله هم الغافلون، عن ماذا؟ غافلون عن الدنيا، المتعلقة قلوبهم بالآخرة بعيدون عنها، فهنا صفة مدح وليست صفة ذم، لكن الغالب على الغفلة أنها مذمومة؛ لأن الغفلة تعني الإعراض والانصراف عن أمر الله -تعالى، وهنا قال: (لاهٍ غافلٍ عمَّا يتلوهَا ويُتلَى عليه)، فهو حينما يتلو القرآن يتلو حروفًا وكلمات فحسب، ولا يقف عند الأوامر والنواهي فلا يتأثر بالقرآن، وقد تقدم أيضًا أن أهل الإيمان هم المتأثرون بالقرآن الذين يعملون به، قال الله -تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ(19)، وقال: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا(20).

فلا يكون غافلاً، فقارئ القرآن هو الذي يحرص على أن يكون من المتذكرين المتأثرين، ويبتعد دائمًا عن الغفلة؛ لأن الغفلة إذا سيطرت على القلب أبعدته عن الله، وهي جند من جنود الشيطان أيضًا يسلطها الله -تعالى- على بعض عباده؛ ليصرفهم عن الطاعة والعبادة، ويصرفهم عن قراءة القرآن الكريم، كما أن الذي لا يريد به وجه الله لا يريد به الإخلاص لا يقبل الحق، فإذا أخطأ في حرف من الحروف أو في أية من الآيات لا يقبل أن يرد عليه، فيدخله العناد والاستكبار، ولا يقبل الحق، ويرى أنه أحفظ الناس، فتراه يعيد الآية ويكررها إذا أخطأ فيها حتى يصحح الصواب بنفسه، فهذا قد تكبر واستنكف عن قبول الحق، وما علم أنه بشر يصيب ويخطئ ويذنب فيقبل الحق ولا يحتقره ممن جاء منه.

وكذلك فهو يبتعد عن العلم بالقرآن الكريم فلا يتدبر ولا يتبع القرآن، وقد تقدم من الآيات أن الله -جل وعلا- قد مقت قومًا يسمعون القرآن ولا يتدبرونه كالمجانين، قال: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(21)، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ(22)، وقال: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ(23)، فهذا هو المعرض عن القرآن الذي قرأ القرآن وأعرض عنه، وهذه حال المنافقين -نسأل الله السلامة- الذين يقرءون القرآن ولا يعملون به أو يسمعون به ولا يتأثرون به، وكما تقدم في سورة القتال أنهم كانوا يجلسون مجلس النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستمعون القرآن والمواعظ والحكم والآثار فإذا خرجوا قالوا ماذا قال آنفًا: ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي: الذين استفادوا وتأثروا، قالوا ﴿مَاذَا قَالَ آنِفًا(24)، ولكن ألم تكونوا حاضرين وتستمعون؟!

إذن هو لا يتأثر ولا يسمع ولا يعظم هذا الكلام الذي يسمعه، فضلاً عن أن يكون قد حفظه ووعاه في قلبه، إنه لا يتأثر به ولا يحافظ عليه، فمثل هذا تجده قليل المعرفة بما دل عليه القرآن الكريم، كما قال المصنف: (فهوَ يأكلُ بغيرِ علمٍ، حلال أو حرام أو شبه، وهو أيضًا ينام بغيرِ علمٍ)، بمعنى أنه لا يلتزم بالأذكار والأدعية، بل بعضهم -نسأل الله السلامة- لا ينام إلا على الموسيقى الأغاني، وقد علمت هذا من بعض الأشخاص -نسال الله السلامة العافية.

وهذا مما يبتغى به غير وجه الله أنه تأتيه المصائب والفتن والحسرات من الشيطان، فهو حينئذ لا يعلم ماذا دل عليه القرآن لا في حلال ولا في حرام ولا في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا مركب ولا منظر ولا مشي ولا حديث، وكذلك يطلق لسانه في الكلام مع الناس، وتمر عليه الأمثلة في القرآن الكريم في تلك الأمثلة التي ضربها الله لعباده -وقد آتاهم الله القرآن- ماذا كانت؟! قال الله -تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(25)، فإذا قرأ مثل هذه تعود أن يكون مثل هذا؛ لأن يتعبه ويكون مثله آتاه الله القرآن فضربه وراء ظهره، وبدأ يخالف ما دل عليه القرآن فيترك التفكر في الأمثال التي ضربها الله؛ لأن الأمثال التي في القرآن الكريم لا يعقلها إلا من تفكر وتدبر وعقل، قال -تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَ الْعَالِمُونَ﴾(26) أي: الذين يعلمون.

بل إنه يطلب حب الثناء والشهرة بين الناس، ويتظاهر بأنه يختم القرآن بعدد كذا وكذا، ويتظاهر أيضًا بأنه أحسن المقرئين وأنه الذي يفتتح الحفلات دائمًا، وأنه أفضل المتقنين والضابطين، وإذا سمع أحدًا يقرأ عليه القرآن ينتقد ويتتبع السقطات ولا يذكر الحسنات حتى لا يعلو عليه؛ ولهذا يقول بشر بن الحارث(27): "هلك القراء في اثنتين؛ في العجب والكبر"(28)، العجب إعجاب بالنفس فلا يرى أحدًا أفضل منه، وهذا على مر العصور والدهور وقع فيه كثير من أهل القرآن كما ذكره الذهبي(29) في كتاب التراجم، وذكره ابن الجزري(30) وغيره أنهم يتفاخرون فيما بينهم، هذا يفتخر على هذا بما لديه من القرآن، بل إن بعضهم يقول: إن قراءة هذا لا تصح ولا يجوز أن يقرأ بمثل هذا، وما ذلك إلا حسد وبغض وكراهية، ولكن إذا كانت قراءته ضعيفة فعلمه القراءة الصحيحة إن كنت تستطيع، ألم تعلم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ»(31)؟ فأنت تقول هذا حرام ولا يجوز فتنتقده بمثل هذا، فهو يريد أن يمدح نفسه ولو بالباطل، ويريد أن يذم غيره ولو كان محقًّا.

هذا لا يكون إلا ممن لا يريد به وجه الله -تعالى، والحسد قد يكون متمكنًا في قلبه، مثل هذا الإنسان الذي يقرأ القرآن ويباهي به الناس فيتمكن الحسد من نفسه؛ فيغبط أهل الخير ويغبط أهل الصلاح، ويرى أنه المقدم عليهم ويطلب حوائجهم بالقرآن الكريم فإذا لم تقضى حاجته يقول: أهل القرآن هم أولى بأن يُساعَدوا وأن تقضى حوائجهم، وأنا من أهل القرآن، فأنا أحق الناس بالمساعدة! فهو يتطلب بهذا الدنيا -نسأل الله السلامة والعافية- وهو قد وقع في الفتنة وفي العجب بما في قلبه من هذا القرآن الذي لا يريد به وجه الله؛ ولهذا قال -تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا(32)، يعجبك كلامه وحسنه وهو قد تعلم القرآن الكريم لكنه لم يرد به وجه الله -تعالى.

وكذلك فهو لا يصحب الصالحين؛ لأن قارئ القرآن إذا صحب الأخيار والصالحين يعلم أنهم سوف ينصحونه ويدلونه على الخير ويذكرون بأخطائه وعيوبه، بل يسعى إلى مصاحبة مَن هو أقل منه علمًا أو فيه جهل كجهله؛ حتى يتعالى عليه ويترفع، وهذا خلاف السنة وخلاف الفطرة الصحيحة، فالإنسان يجالس الأخيار ويجالس الصالحين ويجالس العلماء ويستفيد منهم، وإذا جالس مَن هو دونه عليه أن يذكرهم وينصحهم ويدلهم على الخير لا أن يتباهى بما لديه.

ثم بعد ذلك يقوم بفعل الأوامر التي جاء النهي عنها، ويقلده عامة الناس من الجهال وأهل الغفلة، فإذا سئلوا عن هذا الفعل قالوا: أهل القرآن يفعلون هذا ويستحلون هذه الأمور، ويتحلون بهذه الأخلاق، فنحن نقتدي بهم، كما ذكر المؤلف هنا أن حامل القرآن يفعل هذا، ويقولون: نحن أولى أن نفعله، إذن فهي قدوة سيئة ونصيحة لا تصح، فالأمر خطير جدًّا، وعلى مَن قرأ القرآن الكريم أن يبتغي وجه الله -تعالى، وأن يجاهد نفسه فيه، وأن يحسن العمل والاتباع للقرآن الكريم كما كان الصحابة والسلف الصالح من التابعين وغيرهم، فكانوا حريصين على الاتباع والتدبر أكثر من حرصهم على كثرة القراءة وكثرة الحفظ، وكما تقدم من الآثار أنهم كانوا لا يتجاوزون الخمس الآيات ولا العشرة الآيات حتى يتعلموها ويتعلموا ما فيها من الأحكام والأوامر، فإذا أتقنوا ذلك انتقلوا إلى غيرها.

فاللهَ اللهَ في الاتباع والاقتداء بما في هذا القرآن الكريم والإخلاص لله -تعالى- فيه؛ حتى تقع البركة ويكثر الخير من قارئ القرآن.


(1) الحشر: 7.

(2) لقمان: 18.

(3) الإسراء: 37 - 38.

(4) الأنفال: 24.

(5) عبد الرحمن بن علي بن محمد. جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزي الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر، شيخ الإسلام، مفخرة العراق.التيمي البكري البغدادي، الحنبلي، الواعظ، صاحب التصانيف. له مؤلفات جياد؛ منها: زاد المسير، وفنون الأفنان. ولد سنة تسع -أو عشر- وخمس مئة، وتوفي سنة سنة سبع وتسعين وخمس مئة. انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 365 ترجمة 192)، والذيل على طبقات الحنابلة (2/ 458 ترجمة 227).

(6) الحسين بن أحمد بن خالويه بن حمدان، أبو عبد الله النحوي الهمذاني الشافعي. أدرك أجلة العلماء ببغداد؛ مثل ابن الأنباري، وأبي سعيد السيرافي، وكان ينتصر له على أبي علي الفارسي. انتقل إلى الشام وصحب سيف الدولة ابن حمدان، وأدب بعض أولاده. له تصانيف جياد؛ منها: "إعراب القراءات السبع وعللها"، و"إعراب ثلاثين سورة". مات سنة سبعين وثلاث مئة. انظر: إنباه الرواة (1/ 324 ترجمة 216)، وطبقات الشافعية الكبرى (3/ 269 ترجمة 174).

(7) الشيخ الإمام العلامة النحوي البارع محب الدين أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري ثم البغدادي الأزجي الضرير النحوي الحنبلي الفرضي صاحب التصانيف. ولد سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة. قرأ بالروايات على علي بن عساكر البطائحي، والعربية على ابن الخشاب، وأبي البركات بن نجاح. وتفقه على القاضي أبي يعلى الصغير محمد بن أبي خازم وأبي حكيم النهرواني، وبرع في الفقه والأصول، وحاز قصب السبق في العربية. وتخرج به أئمة. كان ثقة، متدينا، حسن الأخلاق، متواضعا. وكان ذا حظ من دين وتعبد وأوراد. له مؤلفات حسان؛ منها: "التبيان في إعراب القرآن"، و"إعراب الحديث النبوي". مات في ثامن ربيع الآخر سنة ست عشرة وست مئة. انظر: (2/ 116 ترجمة 325) وسير أعلام النبلاء (22/ 92 ترجمة 64).

(8) طه: 124.

(9) الإسراء: 107 - 109.

(10) عبد الله بن سلام بن الحارث، أبو يوسف من ذرية يوسف النبي -عليه السلام- حليف القوافل من الخزرج الإسرائيلي، ثم الأنصاري. كان حليفا لهم وكان من بني قينقاع. يقال: كان اسمه الحصين، فغيره النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عبد الله، وجزم بذلك الطبري. أسلم أول ما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وقيل: تأخر إسلامه إلى سنة ثمان. مات سنة ثلاث وأربعين. انظر: الاستيعاب (ص: 437 ترجمة 1493)، والإصابة (4/118 ترجمة 4728).

(11) آل عمران: 113.

(12) المائدة: 83.

(13) الأعراف: 179.

(14) الأعراف: 205.

(15) ص: 26.

(16) النور: 23.

(17) النور: 23.

(18) ضعيف: أخرجه البزار في مسنده (6339)، الطحاوي في شرح المشكل (2982)، من حديث أنس، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (6154): ضعيف. وفي الباب عن جابر بن عبد الله وهو ضعيف جدا.

(19) الزمر: 23.

(20) الأنفال: 2.

(21) محمد: 24.

(22) المؤمنون: 68.

(23) النساء: 82.

(24) محمد: 16.

(25) الأعراف: 175.

(26) العنكبوت: 43.

(27) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة، شيخ الإسلام، أبو نصر المروزي، ثم البغدادي، المشهور بالحافي، ابن عم المحدث علي بن خشرم. ولد سنة اثنتين وخمسين ومئة. ارتحل في العلم، فأخذ عن: مالك، وشريك، وحماد بن زيد، وعدة. حدث عنه: أحمد الدورقي، ومحمد بن يوسف الجوهري، ومحمد بن مثنى السمسار، وخلق سواهم. قال ابن حجر في التقريب: ثقة قدوة. مات سنة سبع وعشرين ومئتين. انظر: تهذيب الكمال (4/ 99 ترجمة 682)، وسير أعلام النبلاء (10/ 469 ترجمة 153).

(28) أخرجه البيهقي في "الشعب" (6782)، ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/210) بنحوه.

(29) محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. الإمام، المحدث، مؤرخ الإسلام، صاحب العبارة الرشيقة، والجملة الأنيقة. من شيوخه: ابن دقيق العيد، وابن تيمية. مولده في سنة ثلاث وسبعين وست مئة، ووفاته سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. له من مؤلفات حسان جياد؛ منها: "سير أعلام النبلاء"، و"معرفة القراء الكبار". انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 100 ترجمة 1306)، وانظر مقدمة الدكتور/ بشار للجزء الأول من كتابه السير.

(30) محمد بن محمد بن محمد بن على بن يوسف الدمشقي ثم الشيرازي المقرئ الشافعي المعروف بابن الجزري. نسبة إلى جزيرة ابن عمر قرب الموصل. كان أبوه تاجرا، فمكث أربعين سنة لا يُولد له ولدٌ، ثم حج فشرب ماء زمزم بنية أن يرزقه الله ولدا عالما، فولد له صاحب الترجمة في ليلة السبت الخامس والعشرين من رمضان سنة إحدى وخمسين وسبع مئة بدمشق، فنشأ بها، فأخذ القراءات عن جماعة. واشتد شغفه بالقراءات حتى جمع العشر ثم الثلاث عشرة، وتصدى للإقراء بجامع بنى أمية. له تصانيف كثيرة نافعة؛ منها: "النشر في القراءات العشر"، و"التمهيد في التجويد". توفي بشيراز يوم الجمعة خامس ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وثمان مئة. انظر: الضوء اللامع (9/ 255 ترجمة 608)، والبدر الطالع (ص: 812 ترجمة 515).

(31) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب عبس وتولى كلح وأعرض (4937)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه (798)، واللفظ له، من حديث عائشة -رضي الله عنها-.

(32) البقرة: 204.


 مواد ذات صلة: