شرح القواعد الفقهية للسعدي
مقدمة المنظومة

مقدمة المنظومة

الحمدُ للهِ العليِّ الأَرْفَقِ ... وجامعِ الأشياءِ والمفرِّقِ


الحمد هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيمًا، والله عزّ وجلّ هو المألوه المعبود الذي يستحق أنْ يُؤْلَه ويُعبد بجميع أنواع العبادة، وقوله "العليّ": هذا اسم مِن أسماء الله عزّ وجلّ يدل له عدة آيات منها قول الله جلّ وعلا في آية الكرسي: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(1)، ويُشتق منه صفة العلوّ لله عزّ وجلّ، فله العلوّ التام المطلق مِن جميع الوجوه - علوّ الذات، وعلوّ القَدْر، وعلوّ القهر -، وقوله "الأرفق" قال الناظم في شرحه لهذه المنظومة: أي الرفيق في أفعاله، فأفعاله رِفْقٌ على غاية المصالح والحكمة، واسم الرفيق لله جلّ وعلا قد دلّ عليه ما في الصحيحين مِن حديث عائشة رضي الله عنها؛ أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ اللهَ رفيقٌ يحب الرفقَ في الأمر كله»(2)، مِن آثار هذا الاسم أنّ الله عزّ وجلّ خَلَقَ السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام مع أنه جلّ وعلا قادر على أنْ يخلق ذلك في لحظة واحدة، وكذا خَلْقُه جلّ وعلا للإنسان والحيوان والنبات شيئًا فشيئًا يتقلب في أطواره، ولو شاء جلّ وعلا لخلقه كاملًا في لحظة واحدة، لكنه جلّ وعلا رفيقٌ حكيمٌ اقتضت حكمتُه سبحانه ورفقُه بعباده أنْ يخلقهم على هذه الصفة، قال: "وجامع الأشياء والمُفَرّق" أي أنه سبحانه يجمع الأشياء في شيء ويُفَرِّقُها في شيء آخر، فجمع خَلْقَه في كونه خلقهم ورزقهم وفرَّق بينهم في الصور والألسنة والحسن والقبح وغير ذلك مِن الصفات، وهذا كله دليل على كمال قدرته جلّ وعلا، وفي قوله: "وجامع الأشياء" إشارةٌ إلى أنّ هذه المنظومة فيها جمع للمسائل في هذه القواعد، فالقواعد الفقهية تجمع أشتات المسائل الفقهية.

ذي النِّعمِ الواسعةِ الغزيرةْ ... والحِكمِ الباهرةِ الكثيرةْ


"ذي النعم الواسعة الغزيرة" هذا بيان لسعة فضلِ الله عزّ وجلّ على عبده وشمول عطاياه فلا يخلو العبد طرفة عين مِن نعمة مِن نعم الله عزّ وجلّ عليه، ولهذا قال جلّ وعلا: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا(3) والواجب على العبد تجاه هذه النِّعَم أنْ يواجهها بالشكر، والشكر يكون ذلك بالاعتراف بأنّ الله عزّ وجلّ هو المنعم لا منعم سواه، وأيضًا أنْ يتحدث بهذه النعم ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(4)، وأنْ يصرف هذه النعم في طاعة الله ولا يستعملها في معصية الله عزّ وجلّ، قال: "والحكم الباهرة الكثيرة" يعني أنّ حِكم الله عزّ وجلّ كثيرة تبهر العقول وتتعجب منها غاية العجب، وهذا في جميع المخلوقات، ويكفي المرءَ في ذلك النظرُ في نفسه، النظر في بديع صنع الله عزّ وجلّ في الإنسان فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ(5).

ثم الصلاةُ معْ سلامٍ دائمِ ... على الرسولِ القرشيِّ الخاتَمِ


الصلاة مِن الله تعالى هي ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى كما جاء في الأثر المعروف عن أبي العالية رحمه الله(6)، والسلام بمعنى السلامة مِن كل نقص وعيب، فأنت إذا قلتَ: اللهم صلّ على نبيّنا محمد وسلّم، معنى ذلك: اللهم أثنِ على نبيّنا محمد في الملأ الأعلى وسلّمه مِن كل نقص وعيب.

وأُنَبّه هنا إلى أنه يجب العناية بمعاني هذه الألفاظ وهذه الأذكار التي تَمُرّ معنا كثيرًا، لو سألتِ كثيرًا مِن الناس: ما معنى اللهم صلّ على نبيّنا محمد وسلّم؟ كثير منهم لا يعرف المعنى! لو سألتَ بعضهم: ما معنى سبحان الله؟ ما معنى الحمد لله؟ كلمات كثيرة تَمُرّ معنا لكنّ بعضًا مِن الناس لا يفقهون المعنى، وهذا يؤثر في قوة الإيمان، فإنّ العبد كلما ذَكَرَ الله جلّ وعلا مستحضرًا للمعنى كان هذا أعظم لثوابه وأعظم لإيمانه.

قال: "ثم الصلاة مع سلام دائم على الرسول" الرسول هو مَن أوحي إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه، والخاتم الذي ختم اللهُ جلّ وعلا به الأنبياء فلا نبيّ بعده.

وآله وصحبِه الأبرارِ ... الحائز مراتبَ الفِخَارِ


آل النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم هم أتباعه على دينه إلى يوم القيامة، فيدخل فيهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويكون عطفُهم في كلام المؤلف مِن باب عطفِ الخاص على العام، قال: "وآله" هذا يدخل فيه الصحابة، لمّا قال: "وصحبه" فهذا مِن باب عطف الخاص على العام، وعطف الخاص على العام إنما يؤتى به لغرض ومقصد وهو بيان مزية هذا الخاص على العام، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم لهم الشرف والمكانة وهم أهل التقوى والعلم الذي حازوا به مراتب الفخار في الدنيا والآخرة.

اعلمْ هُديتَ أن أفضلَ الْمِنَنْ ... علمٌ يُزيلُ الشكَّ عنك والدَّرَنْ

ويَكشِفُ الحقَّ لذي القلوبِ ... ويُوصِلُ العبدَ إلى المطلوبِ


أي أنّ أفضل مِنَنِ الله عزّ وجلّ على عبده هو أنْ يوفقه للعلم النافع، وعلامة هذا العلم النافع أنه يزيل عن القلب شيئين: الأول: الشبهات، والثاني: الشهوات، وذلك لأنّ الشبهات تورث الشك، والشهوات تورث درن القلب وقسوته وتثبيطه عن الطاعة، إذًا علامة العلم النافع أنْ يزيل عن العبد مرضَ الشبهات ومرضَ الشهوات، أيضًا في مقابل ذلك يُحَصّل شيئين، هما: اليقين والإيمان التام، فاليقين ينفي عنه الشكوك، والإيمان التام يوصله إلى مطلوبه وذلك بالقيام بطاعة الله عزّ وجلّ التي توصل إلى جنة الله ورضوانه، ولَمّا كان العلم بهذه المثابة فينبغي للمرء أنْ يجتهد في تحصيله؛ وأنْ يستعين بالله عزّ وجلّ في ذلك وأنْ يبدأ فيه بالمهم فالمهم، وأهم العِلم هو ما يتعلق بتقعيده وتأصيله، ولهذا قال الناظم:

فاحرِصْ على فهمِكَ للقواعدِ ... جامعةِ المسائلِ الشَّواردِ

فتَرْتَقِي في العلم خيرَ مُرتَقَى ... وتَقْتَفِي سُبْلَ الذي قد وُفِّقَا


فالعلم بالقواعد يسهل العلم على طالب العلم، ويجمع له شتات المسائل المتفرقة، ويُعين على حفظها وفهمها، وقد تقدم معنا في درس الأمس ما يتعلق بفوائد علم القواعد الفقهية.

هذه قواعد نَظَمْتُها ... مِنْ كُتْبِ أهل العلم قد حَصَّلْتُها

جزاهم المولى عظيمَ الأجرِ ... والعفوَ مَعْ غُفرانِه وَالْبِرِّ


هذا مِن الناظم رحمه الله تعالى مِن باب رَدّ الفضل إلى أهله؛ وأنه قد جمع هذه القواعد مِن كلام أهل العلم ثم دعا لهم بهذا الدعاء العظيم، وهذا أقل حق لأهل العلم علينا أنْ نُكْثِرَ مِن الدعاء لهم، لأننا إنما استفدنا هذا العلم مِن طريقهم، فلهم علينا فضلٌ في ذلك بعد الله عزّ وجلّ، ولهذا قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "يا أبتي، أيّ شيء كان الشافعي؟ فإني سمعتُك تُكثر مِن الدعاء له، فقال: كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهذين مِن عوض؟ أو عنهما مِن خَلَف؟"(7)، فانظر كيف كان الإمام أحمد رحمه الله كان يكثر مِن الدعاء لشيخه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.


(1) البقرة: 255.
(2) صحيح البخاري (6927) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.
(3) إبراهيم: 34.
(4) الضحى: 11.
(5) الذاريات: 21.
(6) البخاري (12/ 6).
(7) سير أعلام النبلاء (10/ 45).


 مواد ذات صلة: