شرح القواعد الفقهية للسعدي
قاعدة: الأمور بمقاصدها وتفريعات عليها

قاعدة: الأمور بمقاصدها وتفريعات عليها

النيةُ شرطٌ لسائِر العملْ ... بها الصلاحُ والفسادُ للعملْ


هذا البيت يتعلق بقاعدة "الأمور بمقاصدها" وسوف تُفَرّع عليه مسائل إنْ شاء الله ويكون هو البيت الأخير في هذا الدرس، لأنّ هذه القاعدة مِن القواعد المهمة - كما سيأتي في بيان مكانتها -.

النيّة المراد بها العزم والقصد، ومراد الناظم أنّ النيّة شرطٌ لكل عمل، وبها يُحكم على هذا العمل هل هو صالح أو فاسد، أشار كما ذكرتُ إلى قاعدة "الأمور بمقاصدها" وهي مِن القواعد الكلية الكبرى، وبعضهم يُعَبّر عنها بنص الحديث فيسميها قاعدة «الأعمال بالنيات»(1) وبعضهم يُعَبّر عنها بقوله: "لا عمل إلّا بنيّة".

يتفرع على هذه القاعدة مسائل:

المسألة الأولى: في معناها، الأمور: جمع أمرٍ وهو يشمل التصرفات الفعلية والقولية والاعتقادية، يعني يدخل في قول الفقهاء "الأمور" جميع التصرفات – القول والفعل والاعتقاد -، وأمّا قولهم بمقاصدها: فالمقاصد جمع مقصد، وهو الإرادة المتوجهة إلى الشيء، وهو بمعنى النيّة هنا، فيكون معنى القاعدة: أنّ تصرفات المكلف مِن قولية وفعلية واعتقادية تختلف أحكامُها باختلاف القصد والنيّة، يعني الأمور بمقاصدها، بمقاصدها: جار ومجرور، مِن المعلوم أنّ الجار والمجرور لا بُدّ له مِن متعلق، ويكون التقدير حينئذٍ: الأمور صحيحة بمقاصدها، أو الأمور مثاب عليها بمقاصدها، أو تامة بقاصدها، وأمّا على اللفظ الآخر الذي عَبّر به بعض الفقهاء وهو "الأعمال بالنيات" فيكون معنى القاعدة أنّ اعتبار العمل - قبولًا ورَدًّا - إنما يكون بالنيّة، «إنما الأعمال بالنيات» يعني: إنما الأعمال تكون صحيحةً أو فاسدةً بالنيّة.

المسألة الثانية: سبب عدول العلماء عن لفظ «الأعمال بالنيات»(2)، وهذا في حق بعض العلماء كما تقدم، لأنّ بعضهم عَبّر بـ"الأمور بمقاصدها" وهذا هو الغالب، لكنّ بعض العلماء عَبّروا بنص الحديث فهذا لا يدخل معنا هنا، لكنْ لماذا عَبّر بعض العلماء بلفظ "الأمور بمقاصدها" ولم يُعَبّروا بلفظ الحديث؟ يقال في ذلك: إنّ لفظ الأمور أوسعُ مِن لفظ الأعمال، فهو يشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات كما تقدم، بل إنّ الأعمال أخصُّ مِن الأفعال، فالعمل هو ما كان واقعًا بقصد وأمّا الفعل فإنه ينسب إلى مَن يقع منه فعلٌ بغير قصد، أي قد يكون بقصد وقد يكون بغير قصد، ولهذا اختار العلماء هذا اللفظ، قالوا: "الأمور بمقاصدها" لأنها أعَمّ.

المسألة الثالثة: أدلة هذه القاعدة، الأدلة على هذه القاعدة كثيرة جدًا مِن الكتاب والسُّنَّة، مِن ذلك قول الله عزّ وجل: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ(3)، وقوله جلّ وعلا: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ(4) قال: "خرج مهاجرًا" يعني ينوي الهجرة، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ(5) ففيه إخلاص العبادة لله عزّ وجلّ.

مِن الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: «إنما الأعمالُ بالنيّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»(6)، وأيضًا حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عندما عادَه النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وهو مريض، قال مما قال له: «إنك لن تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرْتَ عليها؛ حتى ما تجعلُه في فِيّ امرأتك»(7)، ومِن ذلك أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «مَن قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله»(8)، كما أنّ هذه القاعدة قاعدةٌ مُجمعٌ عليها، وقد تقدم في المدخل لهذا العلم أنّ القواعد الكلية الخمس الكبرى كلها مُجمعٌ عليها.

المسألة الرابعة: مكانة هذه القاعدة، هذه القاعدة مِن أنفع القواعد وأَجَلّها وتدخل في جميع أبواب العلم، فإنّ النيّة إذا صلحت صلح العمل، وإذا فسدت فسد العمل، بل إنها مؤثرة أيضًا حتى في العقود - كما سيأتي في الأمثلة إنْ شاء الله -.

تظهر أهمية هذه القاعدة مِن كلام العلماء على حديث «إنما الأعمال بالنيات»(9) فقد ذهب جمعٌ مِن أهل العلم إلى أنه يُمَثِّلُ ثلثَ العِلم، وقال بعضه: ربع العِلم، وقال بعض العلماء: إنّ مدارَ الإسلام على ثلاثة أحاديث، وهي حديث «إنما الأعمال بالنيات»(10) وحديث عائشة رضي الله عنها «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدّ»(11) وحديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما «الحلال بيِّن والحرام بيِّن»(12)، وجاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنّ هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا مِن أبواب العِلم(13)، وهذا الحديث كما لا يخفى صدَّر به البخاريُّ كتابَه الصحيح، وأقامه مقامَ الخطبة له؛ إشارةً منه أنّ كل عمل لا يُراد به وجهَ الله عزّ وجلّ فهو باطل، أيضًا قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "لو صنفتُ كتاباً في الأبواب لجعلتُ حديثَ عمر بن الخطاب - في الأعمال بالنيات - في كل باب"(14)، وعنه أنه قال: "مَن أراد أنْ يصنف كتابًا فليبدأ بحديث «إنما الأعمال بالنيات»" (15).

تقدم معنا أنّ المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم «إنما الأعمال بالنيات» يعني إنما الأعمال صحيحة أو فاسدة بالنيات، «وإنما لكل امرئٍ ما نوى» هذا يتعلق بالثواب، يعني إنْ نوى وجه الله والدار الآخرة أُثيب، وإنْ لم ينوِ وجه الله عزّ وجلّ فإنه لا يُثاب.

المسألة الخامسة: أنّ النيّة لها مرتبتان:

المرتبة الأولى: في تمييز العادات عن العبادات، فالصوم مثلًا فيه إمساك عن الطعام والشراب في وقت النهار، هذا يمكن أنْ يكون عبادة ويمكن أنْ يكون عادة أو حِمْيِةً، ما الذي يميز العادة عن العبادة؟ هو النيّة، فإذا نوى بهذا الإمساك عن الطعام والشراب القُرْبَى والصوم الشرعي؛ فإنه يثاب، وإنْ نوى بذلك العادة أو الحِمْيَة أو عدم رغبته بالطعام والشراب فإنه لا يثاب، أيضًا مِن الأمثلة: الذبح، إذا ذَبَحَ الإنسان لأجل أنْ يأكل الذبيحة؛ فهذا مباح لا يُؤجر عليه، وأمّا إذا ذبح أضحية يتقرب بإراقة الدم لله عزّ وجلّ أو ذبح الهدي في الحج فإنه يؤجر على ذلك - مع أنّ الصورة واحدة -، صورة الذبح واحدة، الذي مَيَّزَ بين العادة والعبادة هو النيّة، نعم لا يدخل أنّ بعض المباحات قد يدخل فيها شيءٌ حسنًا فينقلب إلى عبادة! هذا يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعه، لكن المقصود هنا مَن ذبح لأجل الأكل، أو أمسك عن الطعام والشراب لأجل الحِمْيَة، لم ينوِ مقصدًا حسنًا في ذلك حتى يؤجر.

المرتبة الثانية: تمييز العبادات بعضها مِن بعض، فبعض العبادات فرضٌ وبعضها نفلٌ، وبعض العبادات تفعل أداءً وقد تفعل قضاءً، مثال ذلك: لو صلّى أربعَ ركعات يمكن أنْ ينوي بها أنها صلاة ظهر أو صلاة عصر، الصورة واحدة، إذًا هنا النيّة تُميز العبادات بعضها عن بعض، أيضًا لو صلى ركعتين بعد أذان الفجر إمّا أنْ ينوي بها الفريضة وإمّا أنْ ينوي بها السُّنَّة الراتبة - مع أنّ الصورة واحدة - لكن الذي مَيَّزَ هذا عن هذا هو النيّة.

إذًا عندنا مرتبتان في النيّة، إمّا أنْ يميز بالنيّة بين العبادات والعادات، وإمّا أنْ يميز بالنيّة بين العبادات بعضها عن بعض.

المسألة السادسة: وهي أنّ العبادة إذا كانت متميزة بنفسها لا تلتبس بالعادة؛ فإنها لا تحتاج إلى تمييز في النيّة، مثال ذلك: الأعمال القلبية مِن الخوف لله عزّ وجلّ ورجائه جلّ وعلا، وكذا الصلاة وقراءة القرآن ونحو هذه العبادات هي متميزة في ذاتها، هل يمكن أنْ تكون الصلاة أحيانًا تُفعلُ على أنها عادة وأحيانًا تُفعلُ على أنها عبادة؟ أو نُمَيّز صلاة مِن صلاة؟ هي واحدة، هذه متميزة بذاتها، نعم لا بُدّ فيها مِن نيّة الفعل ومِن نيّة الإخلاص لله عزّ وجلّ، ليس الكلام عن هذا! وإنما الكلام عن تمييزها، هل الصلاة تحتاج إلى تمييز؟ في ذات الصلاة؟ وأمّا فيما يتعلق في كونها قضاءً أو أداءً أو عصرًا أو ظهرًا هذا تقدم أنه لا بُدّ منه، إذا كانت العبادة لا تلتبس بغيرها – يعني بالعادات - فإنها حينئذٍ لا بُدّ لها مِن نيّة، مثال ذلك: لُبْسُ الثوب الأبيض، هذا عادة أو عبادة؟ ممكن أنْ يكون عبادةً وممكن أنْ يكون عادةً، كثير منا يلبس هذه الثياب البيضاء معتادًا فلا يؤجر، لكنْ لو استحضر نيّة أنه يلبسها عبادة لأنه عليه الصلاة والسلام قال: «البسوا مِن ثيابكم البَيَاض؛ فإنها مِن خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم»(16) أخرجه أحمد، فهذا يُؤجر لأنّ لبس الثوب الأبيض يمكن أنْ يكون عادة ويمكنْ أنْ يكون عبادة، فإذًا العبادة إذا كانت تلتبس بالعادة فلا بُدّ لها مِن نيّة التمييز.

المسألة السابعة: أنّ العادات تصبح عبادات بالنيّة، وقد أشرتُ إلى هذا قبل قليل، العادات والمباحات كالأكل والشرب والنوم والنكاح ووطئ المرأة ونحو ذلك هذه تفعل على أنها مِن المباحات أو مِن العادات، فهذه لا يؤجر الإنسان عليها، لكن لو استحضر فيها نيّةً صالحةً؛ فإنه يؤجر، إذا نوى بطعامه وشرابه التقوي على طاعة الله فإنه يُؤجر، إذا نوى بنومه التقوي على الطاعة فإنه يؤجر، إذا نوى بإتيانه أهلَه حصولَ الولدِ وتكثير الأُمّة وتحصين نفسه وتحصين زوجه؛ فإنه بذلك يُؤجر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ»(17).

المسألة الثامنة: محلُّ النيّة هل هو القلب؟ أو لا بُدّ مِن التلفظ بها؟ لا شك أنّ النيّةَ محلُّها القلب، والتلفظ بها بدعة، لأنه لا يُعرف التلفظُ بها عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ولا عن صحابته رضي الله تعالى عنهم، وفي هذا يقول ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم" في شرح حديث «إنما الأعمال بالنيات»(18) قال: "ولا نعلمُ في هذه المسائل نقلًا خاصًا عن السلف ولا عن الأئمة بالتلفظ بالنيّة، إلّا في الحج وحده" ثم ذَكَرَ كلامًا في هذه المسألة، يقصد بقوله إلّا في الحج أنّ بعضَ العلماء قالوا: إنه يتلفظ في الحج، لكنّ كلامهم في هذا غيرُ صريح، الذي وَرَد عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم عند الإحرام أنه يتلفظ بما نوى لا بالنيّة وفرْقٌ بين أنْ يتلفظ بما نوى وبين أنْ يتلفظ بالنيّة، يعني جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنّ الإنسان عند الإحرام - إنْ كان معتمرًا - يقول: اللهم لبيك عمرة، إنْ كان حاجًا بحسب النسك، اللهم لبيك حَجًّا للمفرد، اللهم لبيك عمرةً وحَجًّا للقارِن، اللهم لبيك عمرةً متمتعًا بها إلى الحج إذا كان متمتعًا، هذا ليس مِن التلفظ بالنيّة في شيء، ثم لو كان هذا مِن التلفظ بالنيّة لكان خارجًا بالدليل لفِعل النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، أمّا غيره فلا يُعرف فيه دليل، أيضًا مما يَرِدُ ذِكرُ اسم المضحي عند الأضحية، قد يظن بعض الناس أنّ هذا مِن التلفظ بالنيّة، وهذا ليس مِن هذا الباب، نعم لو أنه قال: نويتُ أنْ أَضحي نقول: هذا مِن التلفظ بالنيّة فهو ممنوع، لكن كونه عند الأضحية يقول: عن فلان بن فلان ووالديه ونحو ذلك، فهذا ليس مِن التلفظِ بالنيّة فَضْلًا عن كونه قد وَرَد في سُنَّةِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة التاسعة: شروط صحة النيّة، يشترط لصحة النيّة عدة شروط، مِن هذه الشروط:

الإسلام، لأنّ النيّة عبادة؛ والعبادة لا تصح مِن الكافر، وبناءً عليه لو نوى الكافر عبادة لم تصح منه، استثنى الفقهاء مِن هذا الشرط غُسل الكتابية التي تحت المسلم، إذا طَهُرَتْ مِن الحيض أو النفاس، فإنه مِن المعلوم أنه لا يجوز لزوجها أنْ يَطأها إلّا أنْ تغتسل، وهذا غُسلُ حيضٍ وغُسل نفاسٍ جاء الشرع بالأمر به، لا بُدّ له مِن نيّة، وهذه المرأة كافرة، هذا مما استثناه الفقهاء في ذلك لأجل الضرورة.

الشرط الثاني: التمييز، وهو أنْ يكون عند هذا الصغير إدراكٌ يستطيع أنْ يميز به بين الحسن والقبيح، وبعض العلماء قد حَدَّه بسبع سنين، يعني إذا أتمّ السابعة للحديث المشهور «مُرُوا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين»(19)، وبعضهم يقول: إذا كان يَفهم الخطابَ ويَرُدُّ الجواب فإنه يكون مميزًا، وإذا أخذنا بهذا الضابط؛ فإنّ المميز يمكن أنْ يكون أقل مِن سبع سنين، بعض الصغار يفهم الكلام ويَرُدّ الجواب وعمره خمس أو ست سنين، المقصود أنّ النيّة لا تصح مِن غير المميز، وذلك لأنّ غير المميز لا يصح منه قصدٌ في التصرف أبدًا فهو كالمجنون، لكنّ المميز يمكن أنْ يقصد وينوي، أيضًا استُثني مِن هذا الشرط حَجّ الصغير غير المميز فإنه يصحّ، ودليلُ ذلك ما جاء في السُّنَّة أنه عليه الصلاة والسلام لَمّا مَرّ بركب في طريقه للحج؛ أخرجت له امرأة مِن محفتها صبيًا فقالت: يا رسول الله! ألِهذا حجٌّ؟ قال: «نعم، ولك أجرٌ»(20)، وعرفنا أنه غير مميز مِن كون المرأة أخرجتْه مِن محفتها، قالوا: وهذا لا يكون إلّا مِن غير المميز الصغير، لو كان مميزًا؛ فإنه قد يتعذر هذا عليها، فالمقصود أنه إذا حَجّ غيرُ المميز؛ فإن حَجّه صحيح ويُثاب عليه، ولكن لا بُدّ مِن نيّة مِن قِبَلِ وليه لأنه هو يتعذر عليه النيّة، وأيضًا هذه الحَجّة لا تجزئه عن حجة الإسلام.

الشرط الثالث: العِلم بالمَنويّ، بأنْ يعلم المكلف بالعمل الذي يريد أنْ يقوم به، هل هو عبادة أم ليس بعبادة؟ هل هو مستحب أو واجب؟ هل هو أداء أو قضاء؟ إذا كان لا يعلم هذه التفاصيل؛ فإنه لا تصح منه النيّة، تكون نيّة مجملة.

مِن الشروط أيضًا: مقارنة النيّة للمَنويّ، بأنْ لا تتأخر عنه، لأنها لو تأخرتْ عنه فإنّ ما مضى مِن العمل قبل النيّة لا يكون عبادة لأنه خالٍ مِن النيّة، مثال ذلك: لو أنّ إنسانًا بدأ فغسل كَفّيه ثم غسل وجهَه - يريد بذلك التنظف - ثم بدا له بعد غسل الوجه أنْ يتوضأ؛ فأكمل الوضوءَ حتى انتهى، ما حكم هذا الوضوء؟ نقول: لا يصح، لماذا؟ لأنّ النيّة متأخرة عن العمل، لَمّا بدأ وغسل كفيه وغسل وجهه ثم بعد ذلك شرعتْ النيّةُ، إذًا الجزء الأول مِن العبادة كان خاليًا مِن النيّة فلا يصح، وهذه عبادة يتصل أوله بآخرها فتبطل جميعُها، لكن لو أنه لَمّا نوى رجع فابتدأ بأول فرض مِن فروض الوضوء - وهو غسل الوجه - لأجزأه ذلك، والكلام كله على الوجه، أمّا غسل الكفين فلا يخفى أنه مِن المستحبات.

استُثني مِن هذا الشرط صومُ النفل، فإنه يجوز ولو تأخرت النيّة عن العمل، لو نوى الإنسان الظهر في صوم النفل فإنه يجزئه، ودليل ذلك حديث عائشة رضي الله عنها لَمّا دخل عليه الصلاة والسلام عليها ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟ فقالت: لا، قال: فإني إذًا صائم»(21) وجاء في بعض الروايات: «فإني إذًا أصومُ»(22) يعني استأنفَ الصومَ مِن حين ذلك الوقت، فهذا مما يُستثنى لأنه قد جاء به النص، وأمّا غير ذلك مِن العبادات فإنه لا بُدّ أنْ تكون النيّة قبل بدأ العمل.

أُنَبّه هنا إلى أنّ الأجر يكون في الصوم مِن حين النيّة، يعني لو أنه نوى في الساعة الثانية عشرة ظهرًا - على اعتبار أنّ هذا هو نصف النهار - فإنه يُؤجر على نصف يوم لا على يوم كامل، والمسألة محلُّ خلاف - لكن هذا هو الأقرب إنْ شاء الله لحديث «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(23)، فليس له إلّا ما نوى، وأمّا ما قبل ذلك مِن النهار فإنه لم يُنوَ فلا يكون عبادة، وهذه المسألة ينبني عليها أنّ النفل الذي ورد في فضله أنه في يوم كامل - يعني أنّ الفضل مرتب على صيام يوم كامل - فإنه لا بُدّ أنْ يُنوى مِن الليل، مثل صيام السِّتّ مِن شوال، فإنّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قال: «مَن صام رمضان ثم أتبعه ستًا مِن شوال كان كصيام الدهر»(24)، إذًا لا بُدّ مِن صيام ستة أيام، أمّا لو أنّ الإنسان صام خمسة أيام بنيّة مِن الليل واليوم السادس نواه بنيّة مِن نصف النهار؛ كم صام هذا؟ خمسة أيام ونصف، هل يحصل له الفضل المرتب في الحديث؟ نقول: لا، لا بُدّ أنْ تصوم ستة أيام بنيّة مِن الليل، وهذا لا يتعارض مع ما جاء في السُّنَّة أنه عليه الصلاة والسلام صام النفل بنيّة مِن النهار، نقول: نعم، هذا في النفل المطلق، لا بأس، أمّا إذا رُتب الفضل على هذا الصيام بصيام يوم كامل فإنه لا بُدّ مِن نيّة مِن الليل، ومثل ذلك صيام يوم عرفة ينويه مِن الليل إذا أراد الفضلَ؟ صيام يوم عاشوراء ونحو ذلك.

الخامس مِن الشروط: ألّا يأتي بمنافٍ بين النيّة والمَنوي، وذلك بأنْ يستصحب النيّة حتى يفرغ مِن العمل، أمّا إذا نوى قطع النيّة؛ فإنها تبطل ويبطل العمل، مثال ذلك: الوضوء، تجب النيّة عند الشروع بالوضوء، ويجب مع ذلك استصحابُ حكمِ النيّة حتى يفرغ مِن الوضوء، ما معنى استصحاب حكم النيّة؟ يعني أنْ لا ينوي قطع النيّة، وأمّا استصحاب ذكرُها أي أنْ تكون على باله مِن أول العبادة إلى أخرها فهذا ليس واجبًا، هذا مستحب، هذا مِن التخفيف عن العباد، لكن كونه يستصحب الحكم هذا واجب، ما معنى استصحاب الحكم؟ يعني أنْ لا ينوي القطع، فإذا كان نوى عند بدء العبادة واستمر على هذه النيّة لم ينوِ القطع فإنّ العبادة تصح.

مِن الشروط أيضًا: الجزم بالنيّة وعدم التردد فيها ابتداءً، يعني أنْ يكون في البداية جازمًا بالنيّة، أمّا لو كان مترددًا؛ فإنّ العمل لا يصح، مثال ذلك: لو أنّ إنسانًا قبل طلوع الفجر تردد هل أصوم هذا اليوم أو لا أصوم؟ حتى أَذَّنَ الفجر وهو لم يجزم بنيّة ثم بعد ذلك صام، ما الحكم؟ نقول: لا يصح منه هذا الصوم - اللهم إلّا إذا كان في النفل - فأراد أنْ يعزم بالنيّة في أثناء النهار فلا حرج عليه، لكن لو كان مثلًا في صوم واجب وهو متردد فإنّ هذا لا يجزئه، مثال آخر: وهذا يَسأل عنه كثيرٌ مِن الناس: لو أنّ شخصًا اشترى أرضًا وهو متردد هل يَعمرها ليسكن فيها مثلًا أو أنه يتاجر بها، وجاء يسأل بعد مضي سَنَةٍ مِن شراء الأرض؛ قلنا: ما نيتك؟ قال: ولله أنا متردد، ممكن أنني أعمرها وأسكن وممكن أنني أبيع، فهذا لا تجب عليه الزكاة، لأنه لا بُدّ مِن نيّة جازمة بالتجارة، ومعنى التجارة أنه يريد التربح في هذه الأرض.

آخر الشروط - وهو أهمها في الحقيقة -: الإخلاص في النيّة لله تعالى في هذه العبادة لقول الله عزّ وجل: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(25)، وللحديث القدسي أنّ الله عزّ وجلّ قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»(26).

المسألة العاشرة: إذا اختلف ما في القلب عمّا تلفظ به اللسان؛ فهل العبرة يما في القلب أو بما تلفظ به اللسان؟ يقال في ذلك: العبرة بما في القلب، مثاله: لو أحرمَ بالحج ناويًا التمتع؛ لكنه قال عند الإحرام: اللهم لبيك حجًا - يعني مفردًا - اللفظ إفراد، والنيّة تمتع، فالعمل على أيّ شيء؟ يقال: العمل على النيّة؛ فيكون متمتعًا، وذلك لأنّ تعيين النيّة في الحج ليس شرطًا، أمّا لو كان تعيين النيّة في العبادة شرطٌ فيها فإنه لا بدّ مِن النيّة، لو كان التعيين شرطٌ في العبادة فإنه لا بدّ مِن النيّة حينئذٍ، ومثال ذلك: مَن صلى أربع ركعات – صلاها في وقت الظهر - لكنه أخطأ في النيّة، أراد بها العصر! فإنها لا تصح منه ظهرًا، وهذا قد يحصل لبعض الناس - كان مثلًا مسافرًا - وأَخَّرَ الصلاة ليجمعها، وكان الوقتُ وقتَ العصر وهو معتاد في وقت العصر ينوي العصر فدخل في الأولى مِن صلاته الجمع على أنها العصر ثم تَنَبّه في أثناء الصلاة، فما الحكم حينئذٍ؟ نقول: لا تصح لأنك نويتَ بها صلاةَ العصر وهي صلاة الظهر، إذًا التعيين هنا لا بُدّ منه فلا بُدّ أنْ ينوي.

المسألة الحادية عشرة: وهي قلب النيّة أو نقل النيّة، الضابط في هذا أنْ يقال: الانتقالُ إلى المساوي أو الانتقال إلى الأعلى؛ فإنه لا تصحُّ النية، والانتقالُ مِن الأعلى إلى الأدنى تصحُّ النية، هذا هو الضابط(27)، مِن أمثلة ذلك: انتقلَ مِن نيّة فرض إلى فرض آخر؛ تصح أو لا تصح؟ لا تصح، مثاله: صلّى الظهر ثم تذكر في أثناء الركعة الأولى أو الثانية أنه لم يصلِّ الظهر يوم أمس؛ فماذا عمل؟ قَلَبَها مِن نيّة الأداء إلى نيّة القضاء؛ فحينئذٍ نقول: هذه الصلاة لا تصح منه - قضاءً ولا أداءً -، أمّا كونها لا تصح منه أداءً فإنه نقل النيّة مِن الأداء إلى القضاء؛ فبطلت، وأمّا كونها لا تصح قضاءً؛ فإنه في القضاء أيضًا لم يبدأ النيّة مِن أول العبادة، فقد تقدم معنا أنّ مِن الشروط أنْ يبدأ في النيّة مِن أول العبادة، مثال آخر: دخل في الصلاة على أنها صلاة العصر فتذكر أنه لم يصلِّ الظهر فقلب النيّة في الركعة الأولى أو الثانية فحينئذٍ نقول: لا تصح منه لا ظهرًا ولا عصرًا، مِن الأمثلة أيضًا: قلب النفل إلى فرض، قبل قليل لَاحِظْ أنّ النقل مِن عبادة إلى مساوٍ أي فرض إلى فرض؛ فلم يصح، هنا الآن النقل مِن أدنى إلى أعلى، مثل لو صلّى النفل ثم نقل النيّة إلى فرض؛ فإنّ هذا لا يصح، مثاله: لو أنه صلّى ركعتي الفجر القبلية سُنَّة راتبة على أنها سُنَّة ثم قلبها إلى فريضة كأن يكون ضاق عليه الوقت ونحو ذلك مِن الأعذار فقلب النيّة إلى أنها فرض؛ فحينئذٍ لا تصح، لأنه انتقال مِن أدنى إلى أعلى، طيب العكس؟ لو انتقل مِن الأعلى إلى الأدنى فإنّ العبادة تصح، كما لو انتقل مِن الفريضة إلى النافلة، وصورة ذلك لو دخل المسجد وقد صلّت الجماعةُ فصلّى منفردًا فلمّا أتى بركعةً - هذه فريضة الآن - سمع جماعة تقيم الصلاة؛ فقلب هذه الفريضة إلى نفل وسَلّم مِن ركعتين ثم دخل مع الجماعة؛ فإنه يصح منه النفل.

المسألة الثانية عشرة: أنّ ما يُخاطب به العبدُ إمّا أنْ يكون مأمورًا بفعله أو مأمورًا بتركه، فالمأمور بفعله - كالصلاة والزكاة والصيام ونحوها - هذه لا بُدّ فيها مِن النية حتى تصحّ هذه العبادة، وأمّا المأمور بتركه كإزالة النجاسة مِن الثوب أو مِن البقعة أو مِن البدن وكذا إبراء الذمة مِن الديون الواجبة؛ فهذا لا يشترط له النيّة ليصح، فلو أنّ إنسانًا غسل الثوب الذي فيه نجاسة؛ لكنه غسله مِن باب التنظف - لم يستحضر نيّة إزالة النجاسة - فزالت النجاسة في أثناء هذا الغسل؛ فإنه يكفيه ولا حاجة إلى إعادة الغسل، أيضًا إنسان عليه دَيْن فجاء شخص وقضى الدَّيْن عنه وهو لم يعلم؛ يصح القضاء أو لا يصح؟ نقول: نعم، يصح هذا القضاء، لكن مِن جهة الثواب فإنه لا يُثاب على إزالة النجاسة إلّا إذا نوى الامتثال للأمر الوارد بأنه لا يصلي إلّا وهو طاهر ولا يصلي على بقعة إلّا وهي طاهرة؛ فإنه يؤجر على ذلك، أيضًا إذا نوى بقضاء دينه أنْ يؤدي ما قضى اللهُ عزّ وجلّ عليه؛ فإنه يُؤجر على ذلك، إذًا يُفَرّق بين المأمورات وبين المتروكات، ففي المأمورات لا بُدّ مِن النيّة، وفيما طُلب تركُه لا تشترط النيّةُ، لكن مَن أراد الثواب لا بُدّ أنْ يستحضر النيّة.

المسألة الثالثة عشر: التشريك في النيّة، وهذا له حالات:

الحالة الأولى: تشريك يبطل النيّة والعبادة مطلقًا، وذلك بأنْ ينوي مع العبادة ما لا يكون عبادة بأيّ وجه كان؛ ولا يمكن أنْ يتداخل مع العبادة، مثال ذلك: مَن يذبح أضحية لله عزّ وجلّ وللمخلوق، يعني يتقرب بإراقة الدم إلى الله عزّ وجلّ ويتقرب للمخلوق بذلك! ما حكم هذا التشريك؟ هذا التشريك في النيّة يبطل العبادة أصلًا، لأنّ هذا مِن الشرك - فضلًا عن كونه يُخرج صاحبه مِن الدين -، لأنّ هذا شرك أكبر يُخرج مِن الملّة، وأيضًا تَحْرُمُ هذه الذبيحة فلا يجوز أكلُها، وذلك لأنّ الذبح للمخلوق لا يمكن أنْ يكون عبادة، ولا يمكن أنْ يتداخل مع غيره.

الثاني من الحالات: تشريك لا يبطل النيّة ولا العبادة، وذلك بأنْ ينوي مع العبادة ما يمكن أنْ يكون عبادة، كما لو اغتسل ينوي بذلك رفعَ الجنابة وينوي بذلك التَّبَرّد، التَّبَرّد يمكن أنْ يكون عبادة إذا نوى به مقصدًا حسنًا، فهذا لا تَبطل معه العبادة ولا تبطل بذلك النيّة، أيضًا لو نوى بركعتي السُّنَّة الراتبة نوى بها تحية المسجد، كثير منا الآن يدخل المسجد وينوي السُّنَّة الراتبة، لو نوى بها الراتبة وتحية المسجد يحصلان له جميعًا، ولعله - إنْ شاء الله تعالى - يأتي مزيدُ بيان لموضوع التداخل في القاعدة التي سيذكرها الناظم إنْ شاء الله تعالى.

الثالث مِن الحالات: تشريك يبطل النيّة في إحدى العبادتين دون الأخرى، وذلك بأنْ ينوي مع العبادة عبادةً أخرى لا يمكن تداخلُها معها، مثال ذلك: لو نوى بحَجّه الفريضة والنافلة فهو شرّك النيّة الآن، نقول: تصحّ منك على أنها فرض ولا تصح النفل، لأنّ التشريك هنا غير ممكن، ولكن لا تبطل العبادة وإنما تصحّ منه الفريضة.

آخر مسألة: القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة، يذكر الفقهاء بعض القواعد الداخلة في معنى قاعدة "الأمور بمقاصدها" وبعضها قد يُمَثِّلُ جانبًا مِن جوانب هذه القاعدة.

مِن هذه القواعد: "العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني" ومعناها أنّ أحكام العقود إذا اختلفت ما بين لفظ المتكلم ونيّته؛ فإنه لا يُنظر إلى لَفْظِه ولا تُبنى عليه العقودُ؛ وإنما يُنظر إلى المقصد، مثال ذلك: لو اشترى سلعة بمئة ريال وليس معه نقود، فقال للبائع: خُذْ هذه الساعة أمانةً عندك حتى أُحْضِرَ لك المئة ريال؛ ما حقيقة هذا العقد؟ هل هو أمانة؟ البيع انتهينا منه، لكن الكلام على الساعة لمّا أعطاها للبائع قال: خُذْ هذه الساعة حتى أحضر لك الثمن، هل هي في حقيقتها أمانة؛ أو أنها رهن؟ الحقيقة أنها رهن وإنْ كان بلفظ الأمانة، إذًا العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ، مثال آخر: لو قال شخص لآخر: وهبتُك سيارتي بخمسين ألف ريال، هل هذه هبة أو بيع؟ لو نظرنا إلى اللفظ قلنا: هبة، ولو نظرنا إلى المقصد والحال والقرينة نَجِدُ أنه عقد بيع، إذًا العبرة بالمقاصد لا بالألفاظ.

مِن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة: قاعدة "لا ثواب إلا بنيّة"، وهذه تقدمتِ الإشارةُ إليها أنه لا يحصل الثواب إلّا إذا نوى بذلك وجهَ الله عزّ وجلّ، قال سبحانه: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(28)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا أنفق الرجلُ على أهله - يحتسبُها - فهو له صدقة» متفق عليه(29).

مِن القواعد أيضًا قاعدة: "مَن كان عازمًا على الفعل عزمًا جازمًا وفَعَلَ ما يقدرُ عليه منه كان بمنزل الفاعل"، مثالُه قولُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا التقى المُسلمان بسيْفَيهما؛ فالقاتِل والمَقتول في النّار» قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْلِ صاحبِه»(30)، فهذا يدلّ على أنّ مَن أراد الفعل وفَعَلَ ما يمكنه فعلُه منه فإنه يحكم عليه بحكم الفاعل، ونلحظ في الحديث أنّ هذا الرجل المقتول ما حصل منه النتيجة – وهي القتل - ومع ذلك حَكَمَ عليه النَّبِيُّ عليه الصلاة كالقاتل، لأنه حصل منه العمل، وهذا الحديث يَجُرّنا إلى تقسيم يذكره بعضُ العلماء وهو أنّ مَن لم يفعل المُحَرّم ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما تقدم أنْ لا يفعل الفعل المُحَرّم عجزًا عنه، هذا المقصود في الحديث، عجز عن قتل مَن قتله ولو تمكن لقتله! إذًا إذا ترك المُحَرّم عجزًا عنه؛ فإنه يكون كالفاعل.

القسم الثاني: أنْ يتركه خوفًا مِن الله عزّ وجلّ، فهذا يثاب بحسنة كاملة، للحديث الوارد في ذلك أنه جلّ وعلا قال: «إنما تركها مِن جرائي»(31) أي لأجلي.

القسم الثالث: أنْ يترك المُحَرّم لأنه لم يطرأ له على بال، كحال كثير مِن الصالحين الذين لا يطرأ على بالهم السرقةُ ولا الغدرُ ولا شربُ الخمر ولا غيرُ ذلك مِن المعاصي؛ فهذا لا يثاب عل هذا الترك، نعم لو عَرَضَتْ له هذه المعصيةُ ثم اجتنبها خوفًا مِن الله عزّ وجلّ فهذا يدخل في القسم الأول.

مِن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة: "مَنِ استعجل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه" كمن قَتَلَ موّرِثَه ليستعجل الإرث؛ فإنه يُعاقب بحرمانه مِن الميراث، وسيأتي الكلام على هذه القاعدة - إنْ شاء الله تعالى - في كلام الناظم.

مِن القواعد المتفرعة أيضًا قاعدة: "اللفظ الصريح لا يحتاج إلى نيّة"، وذلك لأنه منصرف بصراحته إلى مدلوله، ليس له مدلول آخر، مثال ذلك: مَن باع غيرَه شيئًا بلفظ البيع الصريح، قال: بعتُك هذه السلعة، فلا يُقبل منه أنْ يأتي بعد ذلك ويقول: إنني ما نويتُ البيع؛ نويت شيئًا آخر! لأنّ اللفظ الصريح يُعمل به في ذلك، لو قال: أوصيتُ لفلان بكذا ثم رجع فقال: لم أُرِدْ حقيقة الوصية! فإنه لا يُقبل منه.

مِن القواعد أيضًا قاعدة: "الكناية مفتقرة إلى نيّة"، الكناية هي اللفظ الذي يحتمل أكثر مِن معنى؛ فيُرجع فيها إلى نيّة المتكلم، فلو قال رجل لامرأته: اذهبي لأهلك، هل هذا طلاق أو ليس بطلاق؟ نقول: نرجع إلى نيته، إنْ نوى بهذا اللفظ الطلاقَ؛ فإنه يقع، وإذا لم ينوِ به الطلاق؛ فإنه لا يكون طلاقًا، أيضًا لو وَجَدَ لُقَطَةً في الطريق؛ فأخذها ناويًا بذلك أنها لُقَطة - يعني يُنزّل عليها أحكام اللقطة مِن التعريف؛ وأنه مثلًا إذا وجد صاحبها سلمها له - فإنها تكون في يده أمانةً، لو فُرض أنها تلفت مِن غير تَعَدٍّ منه ولا تفريط؛ فإنه لا يضمن، أمّا لو أخذها بنيّة التملك - لا بنيّة أنها لُقَطَة - فإنه يكون غاصبًا، فلو تلفت في يده؛ فإنه يضمن مطلقَا - سواءٌ فرط أو تعدى أو لم يفرط ولم يتعدَّ.

بهذا ينتهي ما يتعلق بهذه القاعدة، وتقف على ذلك، وأسأل الله عزّ وجلّ لي ولكم العلم لنافع والعمل الصالح والله أعلم، وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد.

أسئلة(32):

- لا يصحُّ الانتقالُ مِن مساوٍ إلى مساوٍ، ولكنْ مِن الأعلى إلى الأدنى فقط.

- الانتقال مِن صوم فرض إلى صوم نفل؟

إنْ كان في رمضان لا يصح لأنه يبطل العبادة، في القضاء أيضاً لا يصح، لأنّ الصوم الواجب إذا شرع فيه لا يجوز الخروج منه إلّا لعذر، وقد يكون هذا مما يستثنى مِن القاعدة، لأنّ الصوم الواجب إذا شرع فيه لا بُدّ مِن إتمامه إلّا مِن عُذْرٍ.

- نيّة الأداء أو نيّة القضاء لا بُدّ مِن أول العبادة؛ حتى تتميز العبادة.

- قطع النيّة هنا ما فيه إشكال، لكنْ تعليق النيّة مثل: لو كان صائمًا وهو مسافر - وهذا يقع - يسير في الطريق فيقول: إنْ وجدتُ محطة فيها طعام؛ فإنني سوف أشتري الطعام وأفطر، الآن عَلَّقَ النيّة، هل يفطر بهذه النيّة مباشرة؟ أو نقول: لا يفطر إلّا إذا وصل واشترى الطعام وأفطر؟ الذي يظهر - والله أعلم - أنه لا يفطر بمجرد النيّة المعلقة، إذا قال: إنْ وصلتُ إلى المكان الفلاني فسأفطر؛ فإنّ هذا لا يضرُّه، ولعل كل مسألة يٌنظر فيها بحسب حيثياتها.

- هذا محلّ خلاف، بعض العلماء يقول: إذا تردد في النيّة؛ فإنها تبطل، لأنهم يقولون: لا بُدّ مِن نيّة جازمة مِن أول العبادة إلى آخرها، والقول الثاني أنه إذا تردد فيها صارت مشكوكًا فيها؛ فنرجع إلى الأصل، ما الأصل؟ النيّة، لأنه نوى، فهذا التردد وهذا الشك لا يزيل اليقينَ السابقَ.

- إنْ كان جاهلًا أو ناسيًا فلا بأس، لأنّ الترتيب يسقط مع الجهل والنسيان، فيكمل العصر ثم يأتي بالظهر لأنه ناسٍ، إذا كان ناسيًا أو جاهلًا، أمّا أنْ يتعمد أنْ يُقَدّم عبادة على عبادة في الترتيب! فلا، إذا قلب النيّة في أثناء العبادة بطلت الاثنتان.

- لعلي أخطأتُ: الانتقالُ إلى المساوي أو الانتقال إلى الأعلى؛ فإنه لا يصحُّ، والانتقالُ مِن الأعلى إلى الأدنى يصحّ، صححوا هذا.

والله أعلم، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد.


(1) صحيح البخاري (1) من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا.
(2) سبق تخريجه.
(3) الكهف: 28.
(4) النساء: 100.
(5) البينة: 5.
(6) سبق تخريجه.
(7) صحيح البخاري (56) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعًا.
(8) صحيح البخاري (123) من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعًا.
(9) سبق تخريجه.
(10) سبق تخريجه.
(11) صحيح مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.
(12) صحيح البخاري (52) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما مرفوعًا.
(13) انظر كتاب (جامع العلوم والحكم) (1/ 61).
(14) انظر كتاب (جامع العلوم والحكم) (1/ 61).
(15) انظر كتاب (جامع العلوم والحكم) (1/ 61).
(16) صحيح. النسائي (5323) من حديث سمرة رضي الله عنه مرفوعًا. صحيح الجامع (1236).
(17) صحيح مسلم (1006) من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا.
(18) سبق تخريجه.
(19) صحيح. أبو داود (495) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا. الإرواء (298).
(20) صحيح مسلم (1336) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا.
(21) صحيح مسلم (1154) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.
(22) صحيح. النسائي (2330).
(23) سبق تخريجه.
(24) صحيح مسلم (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه مرفوعًا.
(25) الكهف: 110.
(26) صحيح مسلم (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(27) هنا أخطأ الشيخ - حفظه الله - وصَوّبَ الخطأَ في آخر الدرس، وقد أثبتُّ التصحيحَ وحذفتُ الخطأَ.
(28) النساء: 114.
(29) سبق تخريجه.
(30) صحيح البخاري (31) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(31) صحيح مسلم (129) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(32) هنا الأسئلة ليست واضحة، ولكن وضعنا الجواب الواضح الذي قد يُفهم منه سؤالُه.


 مواد ذات صلة: