شرح القواعد الفقهية للسعدي
المصالح والمفاسد

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أمّا بعد

فقد وقفنا على قول الناظم رحمه الله:

الدينُ مَبْنِيٌّ على المصالِحِ ... في جَلْبِها والدَّرْءِ للقبائِحِ


الدين في هذا البيت يراد به الشريعة، وقد يأتي الدين بمعنى الجزاء كما في قول الله عزّ وجل: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(1)، يعني يوم الجزاء، والمصالح جمع مصلحة، وهي في اللغة بمعنى المنفعة، وفي الاصطلاح هي المنفعة التي قصدَها الشارع الحكيم لعباده في حفْظِ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم، قال: "في جلبها" يعني في تصليحها، و"الدرء" يعني الدفع، "للقبائح" يعني المفاسد، فالمعنى أنّ الشريعة مبناها على جلب المصالح وعلى درء المفاسد، فلم يأمرِ اللهُ عزّ وعلا بشيء إلّا وفيه مصلحة تامة وراجحة، ولم ينهَ جلّ وعلا عن شيء إلّا وفيه مفسدة تامة أو راجحة.

أعظم ما أَمَرَ الله عزّ وجلّ به هو توحيدُه سبحانه وإفراده جلّ وعلا بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه من المفاسد الشركُ به جلّ وعلا، فمَن حقق التوحيد وسَلِمَ مِن الشرك فقد حصل له أعظمُ المصالح، واندفع عنه أشدُّ المفاسد، وهذا في الدنيا والآخرة، أيضًا مما أَمَرَ الله عزّ وجلّ – يعني كمثال للمصالح – الصلاة، فهي نور للعبد، وانشراح لقلبه، وتحقيق لعبودية الله عزّ وجلّ، وفيها صحة للبدن، وفي شهودها مع الجماعة تحصيل مصالح اجتماعية كثيرة وتعاون على البِرّ والتقوى، وتَعَلُّمِ العلم النافع وغير ذلك مِن المصالح، وأمّا في ترك الصلاة فعكس هذه المصالح مع ما يترتب على ذلك مِن المفاسد الدنيوية والأُخروية، أيضًا في العقود، كل العقود التي أباحها الله عزّ وجلّ لعباده فيها مصلحة لهم، وكل عَقْدٍ حَرَّمَه اللهُ جلّ وعلا فإنّ العباد لا يحتاجون إليه، يعني الربا لا نحتاج إليه! عقود الغرر، وعقود فيها أكلٌ لأموال الناس بالباطل! كل هذه فيها مفاسد والناس لا يحتاجون إليها، أمّا إذا وُجِدَتْ حاجة لأي عقد مِن العقود؛ فإنّ الشريعة تأتي بجوازها.

مِن التطبيقات المعاصرة بل التي ظهرت الحاجة إليها كثيرًا في هذا العصر وإلّا فهي مسألة معروفة "منازعة الحاكم والخروج عليه" فإنّ الذين خرجوا على الحاكم - قديمًا وحديثًا - يزعمون أنّ في خروجهم مصلحة، يعني إذا كان هذا الحاكم حاكمًا ظالمًا مستأثرًا بالمال وبخيرات البلد مُضَيقًا على الناس يحصل ببقائه مفاسد، فقالوا: الخروجُ عليه فيه مصلحة، ما هي هذه المصلحة؟ قالوا: حتى نزيح هذا الحاكم الظالم ونولي الحاكم العادل، ومِن المعلوم أنَّ المصالح والمفاسد مَرَدُّها إلى الشرع وليست إلى اجتهادات الناس! ولا إلى آرائهم! فإذا رجعنا إلى الشرع وجدنا أنَّ الأدلة متضافرة في تحريم الخروج على الحاكم المسلم ومنازعته ونَزْعِ البيعة، وشَدَّدت في ذلك «مَن مات وليست في عنقه بيعة؛ مات ميتةً جاهلية»(2)، إذًا المصلحة هي في الصبر على جَوْرِه، المصلحة هي في بقاء البيعة وعدمِ الخروج عليه، وهذا أمرٌ ظاهرٌ للعيان، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "ما خرجتْ طائفة على ذي السلطان إلّا وكان في خروجها مِن الفساد أعظم مِن الفساد الذي أزالته"، وهذا أمرٌ نراه بأعيننا الآن في هذه الثورات وفي هذه المظاهرات ضد الحُكّام، حصل فيها شَرٌّ عظيم، حتى أنّ أهل تلك البلدان يتمنون الحال السابقة! يتمنون ذلك الحاكم الظالم أنْ يعود إليهم وتستقر أمورهم معه! إذًا المقصود هنا مراعاة المصالح والمفاسد مَرُّدَها إلى الشرع، وإنْ ظهر للرأي أنّ المصلحة في هذا الأمر؛ فإّنه لا يُعْتَدّ به ما دام مخالفًا لشرع الله عزّ وجلّ.

مِن أدلة هذه القاعدة: عموم قول الله عزّ وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ(3)، فكل خير يدخل في ما أَمَرَ الله عزّ وجلّ به في هذه الآية، وكل شَرٍّ يدخل في ما نهى عنه في هذه الآية، فدلّ على أنّ كل ما أَمَرَ الله تعالى به فهو مصلحة؛ وكل ما نهى عنه فهو مفسدة، أيضًا مِن أدلة القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(4) ومِن الرحمة بالناس أنْ يُؤمروا بما يصلحهم ويُنهوا عما يلحق الضرر بهم، وأيضًا مِن أدلة القاعدة قول الله جلّ وعلا: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ(5)، فالطيبات فيها المصالح، والخبائث فيها المفاسد، أيضًا مما يدلّ على هذه القاعدة الاستقراء، وهو تتبع جزئيات الشريعة، يعني أفراد المسائل والأحكام التي جاء بها الشرع فإننا إذا تتبعناها واستقريناها نَجِدُ أنّ كل ما أَمَرَ الله تعالى به ففيه مصلحة وكل ما نهى عنه ففيه مفسدة.

هنا مسألة تتعلق بالكليات الخمس التي جاءت بها الشرائع، هذه الكليات هي الدِّين والنفس والعقل والعرض والمال، هذه الكليات الخمس جاءت الشريعة الإسلامية بل والشرائع السماوية السابقة بحفظها ومراعاتها، فمثلًا: لمراعاة مصلحة الدين شَرَعَ الله جلّ وعلا التوحيدَ ونهى عن الشرك، وشَرَعَ حَدّ الرِّدَّة لأجل أنْ ينكفّ مَن دخل في الإسلام عن أنْ يخرج منه، وأيضًا شَرَعَ الجهاد لإعلاء كلمة الله عزّ وجلّ، وشَرَعَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوةَ إلى دين الله عزّ وجلّ، كل هذا وغيره لأجل تحقيق مصلحة الدِّين، هذه أعظم المصالح التي لا يُقَدّم عليها غيرُها، أمّا مصلحة النفس فجاء في الشريعة تحريم قتْل النفوس المعصومة عمدًا وعدوانًا، وشَرَعَ الله تعالى القِصَاصَ لأجل أنْ ينكفّ الناس عن قتْلِ هذه النفوس، وأمّا مصلحة العقل فقد جاءت الشريعة بتحريم شربِ الخمر وكل ما يغطي العقل، وشُرِعَت عقوبة شارب الخمر والتعزيرات في الجرائم المتعلقة بالعقل كاستعمال المخدرات وغيرها، كل ذلك لأجل تحقيق هذه الكلية وهي العقل، وأمّا مصلحة العرض فقد جاء الشرع بالأمر بالزواج وحَثَّ على تيسريه، ونهى عن الزنا وعن كل وسيلة توصل إليه، وأمّا فيما يتعلق بالمال فقد جاء الأمر بالتكسب في ما أباح الله عزّ وجلّ وتحصيل المال بهذه الطرق المشروعة، وفي المقابل حَرَّمَ السرقة وحَرَّمَ الغَصْبَ والاعتداء على الأموال بجميع الوجوه، وجَعَلَ العقوبات الرّادعة في ذلك، كل ذلك لأجل حفْظ المال.

بعض الأحكام الشرعية تأتي لتحقيق أكثر مِن مصلحة مما تقدم، مثال ذلك: الصوم، يحصل به تحقيق الدِّين - العبودية لله عزّ وجلّ - ويحصل به أيضًا تحقيق مصلحة النفس؛ لأنّ الصيام فيه صحة للبدن، أيضًا مِن ذلك تحريم شرْبِ الدخان؛ فإنه يتعلق بأكثر مِن مصلحة، مصلحة الدِّين ومصلحة النفس ومصلحة المال أيضًا، المقصود أنّ بعض ما أَمَرَ الله عزّ وجلّ به مِن الأحكام يتحقق به أكثر مِن مصلحة وأكثر مِن كلية مِن هذه الكليات الخمس.

تنقسم المصالح - باعتبار قوتها - إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: المصالح الضرورية، وهي التي لا بُدّ منها لقيام مصالح الدِّين والدنيا، بحيث لو فاتتْ هذه المصلحة لفَسَد على المرء دينُه ودنياه، ومِن أعظم هذه المصالح الضرورية مصلحةُ تحقيق التوحيد والبُعْد عن الشرك.

الثاني مِن أقسام المصلحة: المصالح الحاجيّة، وهي التي شُرعت للتوسعة والرفق بالعباد، وهذا يدخل فيه جميع الرخص الشرعية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، مِن ذلك قَصْرُ الصلاة في السفر، الجمْعُ بين الصلاتين في السفر أو لعُذْرِ المطر، أو الجمع بين الصلاتين لأجل المرض، أو نحو ذلك مِن الرخص الشرعية، فهذه مِن المصالح الحاجيّة.

الثالث مِن أقسام المصلحة: المصالح التحسينية، وهي التي شرعت للتحسين والتكميل، يُمَثّل لها مما جاءت به الشريعة مِن التنظف وتحسين الهيئة ونحو ذلك.

أيضًا تنقسم المصالح باعتبار آخر - وهو اعتبار إعمال الشارع لها وعَدَمُه -، يعني هل هي مصلحة اعتبرها الشرع أو أنها مصلحة ملغاة؟ تنقسم المصالح بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مصالح معتبرة، وهي التي شهد لها الشرع بالاعتبار بعينها، يعني دلّ عليها دليل خاص، يكون ورد فيها دليل خاص مِن الكتاب والسُّنَّة على اعتبار هذه المصلحة، أو يكون دلّ عليها الإجماع، أو دلّ عليها القياس الصحيح، فهذه المصلحة مصلحة معتبرة، ومُحْتَجّ بها بالاتفاق، وهذا يدخل في كثير مما جاء به الشرع كالنصوص وما أجمعت عليه الأمة.

القسم الثاني: مصالح ملغاة، وهي المصلحة المتوهمة التي يتوهم مَن يراها في أنها محققة لمقصود الشارع مع كونها في الحقيقة مخالفة لأدلة الشرع! أي ضابط هذه المصالح الملغاة أنها كل مصلحة مخالفة لأدلة الشرع مِن الكتاب والسُّنَّة أو الإجماع أو القياس الجليّ؛ فإنها تكون مصلحة ملغاة، مثال ذلك: ما يذكره بعض الفقهاء عند ذكرهم لهذه المصلحة، يقولون: إنّ سلطانًا وقع على امرأته أو إحدى جواريه في نهار رمضان، فجاء يستفتي أحدَ العلماء - الآن عليه كفارة الجماع في نهار رمضان -، ما هي الكفارة؟ عتق رقبة، فإن لم يَجِدْ؛ انتقل إلى صيام شهرين متتابعين؛ فإنْ لم يستطع انتقل إلى إطعام ستين مسكين، هذا العالم ماذا أفتى السلطان؟ أفتاه مباشرة بصيام شهرين متتابعين، لماذا؟ قال: هذا فيه تحقيق مصلحة، ما هي المصلحة؟ قال: هذا سلطان عنده جواري ورقيق كثيرون لا يبالي أنْ يقع مرة أخرى ويعتق، يقع ويعتق وهكذا، فحتى تكون هذه الكفارة رادعة له؛ قال: أنا أفتيه بأنْ يصوم شهرين متتابعين! ما رأيكم في هذه المصلحة؟ هل هي مصلحة معتبرة؟ أو مصلحة ملغاة؟ نقول: هذه مصلحة ملغاة، لماذا؟ لأنها مخالفة للنصّ، النصّ جاء بالترتيب، يبدأ أولًا بالعتق فإنْ لم يستطع انتقل إلى الصيام ثم إلى الإطعام، أيضًا مِن المصالح التي تُتوهم وتُدّعى وربما تُثار في مثل هذه العصور المتأخرة قطع يد السارق، يقول بعضهم: إذا تركنا القطع وعاقبناه بعقوبة أخرى هذا فيه تحقيق مصلحة وهي سلامة أعضاء هذا السارق! فيقال: هذه مصلحة ملغاة لمخالفتها للنص الآمر بقطع يد السارق، وأيضًا إذا تأملتَ في مثل هذه الأمثلة تَجِدُ أنّ ما يُدّعى ويُتوهم مِن وجود مصلحة هي مصلحة جزئية؛ وما جاء به الشرع يحقق المصلحة الكلية العامة، فمثلًا قطعُ يدِ السارق نعم فيه ضرر على هذا السارق بذاته، لكن إذا نظرنا إلى ما يترتب على إقامة هذا الحَدّ مِن حفظ أموال الناس ورَدْعِ المجرمين؛ لا شك أنّ هذه مصلحة أعظم.

المصلحة الثالثة: وهي المصلحة المرسلة، وهذه محلّ خلافٍ بين الفقهاء في اعتبارها أو عدمه، المصلحة المرسلة: هي التي لم يشهد لها دليل شرعيّ بخصوصها بالاعتبار أو الإلغاء؛ لكنْ دلت عمومات الشريعة ومقاصدها العامة على اعتبارها، وسُميت مصلحة مرسلة يعني أنها مطلقة لا يوجد لها دليل خاص يدلّ على اعتبارها، عَرَّفَها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "المصالح المرسلة أنْ يرى المجتهد أنّ هذا الفعل يجلب منفعة راجحة؛ وليس في الشرع ما ينفيه" يعني ليس هنالك في الشرع ما يدل على عدم اعتبار هذه المصلحة، وهذه المصالح المرسلة فيها مصالح كثير للفقهاء وهي محل خلاف هل تعتبر أو لا تعتبر؟

فإن تَزَاحَمْ عدَدُ المصالحِ ... يُقَدَّمُ الأعلى من المصالحِ


التزاحم يُراد به التعارضُ بين أمرين بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما، أمّا إذا أمكن الجمعُ فلا إشكال حينئذٍ، لكنّ الإشكال في كون هذين الأمرين يتعذر الجمعُ بينهما، ومعنى البيت أنه إذا تعارض عند المكلف مصلحتان - بحيث لا يمكن الجمعُ بينهما - فيُعمل بالمصلحة الأعلى ولو فاتت المصلحةُ الأدنى، ووجه ذلك أنّ أحكام الشرع - وإنْ كانت في جميعها فيها مصلحة - إلّا أنها تتفاوت في عِظَمِ هذه المصلحة، مصلحةُ التوحيد أعظمُ مِن مصلحة الصيام، مفسدةُ الشرك أعظمُ مِن مفسدة السرقة، وهكذا، هذا في المصالح والمفاسد، نَجِدُ أنّ المصالح متفاوتة وأيضًا المفاسد متفاوتة، والشريعة إنما تريد تحقيق المقصود والمصلحة الأعظم فالأعظم، دليل هذه القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ(6)، وقوله جلّ وعلا: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا(7)، وقال سبحانه: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(8) فنلحظ في هذه الآيات وفي ما يماثلها مراعاة الأحسن والأفضل، أيضًا مِن السُّنَّة - مما يدلّ على أنّ الأعمال متفاوتة في المصالح - ما في الصحيحين أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة - أو بضعٌ وستون شعبة - فأعلاها "قول: لا إله إلّا الله"، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق»(9)، إذًا هذه المأمورات الشرعية والأحكام الشرعية فيها أعلى وفيها أدنى، وما بينهما يكون بين ذلك، متوسط بين هذا وهذا، فدلّ على تفاوت المصالح في الشرع.

مِن أمثلة هذه القاعدة – طبعًا القاعدة هذه لها أمثلة كثيرة - مِن أمثلتها:

إذا تعارض واجبان ولم يمكن فعلُهما فماذا نُقَدِّم؟ نُقَدِّم الآكد منهما والأوجب منهما، مثلًا قالوا: الجهاد في بعض الأحوال يكون فرض عين؛ وبرّ الوالدين - الذين يحتاجان إلى الولد - أيضًا واجب، فأيهما يُقَدَّم الآن؟ واجب الجهاد أو واجب رعاية الوالدين الذين يحتاجان إلى هذا الولد؟ لا شك أنّ برّ الوالدين مُقَدّمٌ، بل جاء النص بهذا، كما في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام سُئل عن أي الأعمال أفضل؟ فقال: «الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟، قال: بِرُّ الوالدين، قال: ثم أي؟، قال: الجهاد في سبيل الله»(10)، إذًا إذا تعارض واجبان نُقَدّم الأوجب منهما، مثال آخر: إذا تعارض بِرُّ الأب مع بِرِّ الأم، فأيهما يُقَدّم؟ بِرُّ الأم، يعني صورة المسألة: لو كان الأب في بيت ومريض يحتاج إلى الولد أنْ يرعاه؛ والأم أيضًا في بيت آخر مريضة تحتاج إلى الولد أنْ يرعاها! فهنا الآن تعارض واجبان لا يمكن الجمع بينهما؛ فيُقَدِّمُ الأمَّ على الأب لأنّ حقها أعظم، إذًا هنا الوجوب آكد.

إذا تعارض واجب ومندوب وتَعَذّر فعلُهما فيُقَدَّم الواجب على المندوب، مثال ذلك: لو ضاق الوقت عن أداء الفريضة والسُّنَّة الراتبة؛ فإنه يُقَدِّم الفريضة، وهذا يقع أنّ بعض الناس قد يستيقظ مِن نومه لصلاة الفجر فينظر وإذا لم يبقَ إلّا خمس دقائق! الوقت هذا لا يكفي إلّا للوضوء وصلاة ركعتين خفيفتين؛ فيُقَدِّمُ حينئذٍ الفريضة على الراتبة، أيضًا إذا دخل المسجد وقد أقيمتِ الصلاة ولم يصلّ الراتبة القبلية؛ فإنه يدخل مع الجماعة ولا يصلّ الراتبة بل هو منهيٌ عن أداء هذه الراتبة.

أيضًا مما يدخل في هذه القاعدة: إذا تعارضت سُنَّتَان؛ فيُقَدَّم الأوكد منهما، كما لو كان معه مال يريد أنْ يتصدق به؛ وله قريب محتاج لهذا المال كله، ويوجد محتاج آخر ليس قريبًا، الصدقةُ سُنَّةٌ، وهي على هذا سُنَّة وعلى هذا سُنَّة، لكنّ الصدقة على القريب آكد مِن جهة أنها صدقة وصِلَة؛ وعلى غير القريب صدقةٌ فقط، كذلك لو تعارض عنده حضورُ مجالس العلم في المسجد الحرام مع الطواف، يعني لم يبقَ على سفره وخروجه مِن مكة إلّا وقت يسير؛ إمّا أنْ يطوف وإمّا أنْ يحضر مجالس العلم؛ فأيهما آكد؟ الأظهرُ أنه العلم، لماذا؟ لأنّ العلم نفعه متعدٍّ والطواف نفعُه قاصرٌ، هذا في حق مَن يتعلم علمًا نافلة في حقه، أمّا لو كان علمًا واجبًا كتعلم ضروريات الدين مِن اعتقادٍ أو عبادة يحتاج إليها؛ فهذا يخرج مِن مسألتنا، يكون تعارض واجب مع مستحب، لكنّ الكلام هنا إذا تعارض مستحبان، أيضًا لو تعارضت الراتبة مع نفلٍ مطلق فتُقَدّم الراتبة لأنها آكد.

وإذا تعارضت مصلحة عامة مع مصلحة خاصة قُدمتْ المصلحة العامة على المصلحة الخاصة لأنّ المصلحة العامة آكد، مثال ذلك: رجال الحسبة اجتمع عندهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسواق وصلاة التراويح في المسجد، فيُقَدِّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل أنّ المصلحة فيه عامة، وكونه يصلي صلاة التراويح هذه مصلحة خاصة، لأنها في المسجد، وإلّا يمكنه فيما بعد ذلك إذا تيسر له قبل الفجر أنْ يصلي الليل فيما تيسر، لكنّ المقصود هنا إذا تعارضت صلاة التراويح مع الجماعة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتَعَذَّرَ الجمع؛ فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُقَدّم، والتعليل هنا أنه مصلحة عامة، أيضًا إذا تعارض عند طالب العلم قراءةُ حِزْبِه مِن القرآن مع تعليمه للعلم أو مع طلب علمٍ يفوت، لا بُدّ أنْ يتعلم الآن في هذه الليلة فلا شك أنّ تقديمه للعلم آكد مِن قراءة حِزْبِه مِن القرآن.

مما يدخل في هذه القاعدة تقديمُ ما يفوت مِن المصالح على ما لا يفوت، مثّلوا لذلك بمَن كان يقرأ القرآن فسمع المؤذن يؤذن، السؤال هنا أيهما أفضل: قراءة القرآن أو إجابة المؤذن؟ في مثل هذه الصورة نقول: إجابة المؤذن أولى - وإنْ كان الأصل أنّ القرآن أفضلُ الذِّكْرِ - لكنْ في هذا الموضع لأجل أنّ إجابة المؤذن تفوت؛ فإنه يقف عن قراءة القرآن ويجيب المؤذن، مثال آخر: في صلاة العيد إذا جاء الإنسان إلى المصلى مبكرًا؛ فما هو الأَولى؟ أنْ يشتغل بالتكبير الذي هو سُنَّةُ ليلة العيد ويوم العيد قبل الصلاة؟ أو يشتغل بقراءة القرآن؟ نقول: التكبير أولى، لماذا؟ لأنّ التكبير يفوت وقتُه؛ أمّا قراءة القرآن فلا يفوت وقتها.

أيضًا مما يدخل في هذه القاعدة تقديمُ العبادة التي هي أخشع للقلب وأنفع له على غيرها مِن العبادات - ولو كانت أفضل منها -، أي أنّ بعض العبادات الأصل فيها أنها مفضولة فيما أفضل منها لكن لو كانت العبادة المفضولة يحصل للقلب معها الخشوع والخضوع وزيادة الإيمان؛ فإنها تكون أفضل مِن العبادة التي هي أفضل منها بالأصل، مثال ذلك: الاعتكاف، مِن المعلوم أنّ الاعتكاف لا يكون إلّا في المسجد- والمساجد متفاضلة -، لو كان اعتكافه في مسجدٍ فاضل لا يحصل معه مِن زيادة الإيمان والخشوع والإقبال ما لو اعتكف في مسجد دونه في الفضل؛ فأيهما يُقَدّم؟ الثاني، والسبب في ذلك هو قاعدة معروفة عند العلماء: "أنّ الفضل الذي يَرجع إلى ذات العبادة أولى بالمراعاة مِن الفضل الراجع إلى زمانها أو مكانها".

وضده تَزاحُمُ المفاسدِ ... يُرْتَكَبُ الأدنى من المفاسدِ


المعنى أنّ المفاسد إذا اجتمعت بحيث لا يمكن أنْ يترك المكلف جميعَ هذه المفاسد؛ فإنه يرتكب الأدنى منها، يعني إذا اجتمعت عنده مفاسد لا يستطيع التخلص منها - لا بُدّ مِن وقوع المفسدة - فحينئذٍ يُقَدّم المفسدة الأدنى لدفع المفسدة الأعلى، وهذا له أمثلة كثيرة أيضًا، منها: لو تعارض مُحَرّمٌ ومكروه؛ فيفعل المكروه لدفع الوقوع في المُحَرّم، مثال ذلك: لو أنّ الإنسان اضطر إلى أكل ربًا أو أكل مال مشتبه – يعني ليس له خيار - إمّا أنْ يأكل الربا المُحَرّمة - بإجماع - وإمّا أنْ يأكل هذا المال المشتبه، الدخول في المشتبهات مكروه، فلا شك أنّ تقديم المكروه هنا هو المتعين.

لو تعارض عنده مُحَرّمان؛ أحدهما متفق عليه والآخر مختلف فيه - ولا بُدّ مِن فعل أحدهما - فإنه يفعل المُحَرّم المختلف فيه لدفع المُحَرّم المجمع عليه، مثال ذلك: لو تعارض عنده أكل الكلب مع أكل الفيل، الكلب مُجْمَعٌ على تحريمه؛ وأمّا الفيل فالجمهور على أنه مُحَرّم لأنّ ذو ناب وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن كل ذي ناب مِن السِّبَاع(11)، لكنْ يوجد مِن الفقهاء مَن أجاز أكلَه، فتعارض عند المكلف الأكل مِن هذا أو هذا، فيقال: يُؤكل مِن المختلف فيه ولا يُؤكلْ مِن المجتمع على تحريمه، وهذه المسألة فيها تنبيه إلى أنّ طالب العلم ينبغي له أنْ يعتني بخلاف الفقهاء، أي لا يقول: أنا عليَّ بالراجح وفقط! ينبغي أنْ تعرف هل هذه المسألة مختلف فيها أم ليس مختلف فيه! لأنه يترتب على ذلك مثل هذه المسائل وهذا يحتاج إلى المفتي كثيرًا.

أيضًا إذا تعارض عنده مكروهان؛ فيرتكب أقلهما كراهة، أي إذا كان أحد المكروهين أعظم كراهة والآخر أقل كراهة؛ فيفعل ما هو أقل كراهة، ومثال ذلك: معاملة مَن ماله مختلط؛ فإنّ الراجح في هذه المسألة - إنْ شاء الله - أنّ التعامل مع هذا الذي ماله مختلط مكروه، يعني عنده يتعامل بالربى ويتعامل ببيوع مباحة، أو عنده غش ببعض السلع وبعض السلع يبيعها بلا غش، ونحو ذلك، هذا يكره التعامل معه، أي أنْ تقيل هديته! أو أنْ تشتري منه ونحو ذلك مِن التعامل، لكنّ الكراهة في هذه المسألة تزيد كلما زادتْ نسبةُ الحرام في ماله حتى إنها ربما تَقْرُبُ مِن الحرام، وتقلّ هذه الكراهة إذا قَلّتْ نسبة الحرام في ماله حتى إنها تَقْرُب مِن أنْ تكون مباحة، إذًا التعامل مع المال أو مع هذا يختلف باختلاف حال هذا المال، فإذا كان عندنا شخصان أحدهما ماله مختلط حيث عنده خمسون في المئة مِن الحرام وخمسون في المئة مِن المباح وآخر عنده ثلاثون في المئة مِن الحرام وسبعون في المئة مِن المباح؛ واضطررتُ الآن، أنا لا بُدّ أتعامل إمّا مع هذا أو هذا، فيقال: التعامل مع الأقل حرامًا في ماله هو الذي ينبغي.

أدلة هذه القاعدة يدل لها ما في قصة الخضر عليه السلام حينما تعارضت عنده مفسدة أَخْذِ الملك للسفينة أو خَرْقِها مع بقائها في يد المساكين، كلاهما مفسدة، فماذا اختار؟ خَرَقَ السفينة - وإنْ كانت هذه مفسدة - إلّا أنها مفسدة أدنى مِن مفسدة أَخْذِ السفينة كلها، كذلك مما يدل لهذه القاعدة أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم في قصة الإفك أقام الحَدّ على بعض مَن تكلم في عائشة رضي الله عنها، ومِن المعلوم أنّ الذي تولى كِبْرَ هذا الأمر عبدُ الله بن أُبيّ بن سلول، هل أقام عليه النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم الحَدّ؟ قالوا: ما أقام عليه الحَدّ، لماذا؟ الآن تَرْكُ إقامة الحَدّ على هذا الرجل يُعَدّ مفسدة، وإقامة الحَدِّ عليه يترتب عليه مفسدة أعظم مِن مفسدة تَرْكِ إقامة الحَدِّ، وهذه المفسدة هي كون الرجل له شوكة وله قوة في قومه وربما لو أقيمَ عليه الحَدّ لترتب على ذلك مفسدة عظمى، وهذا أمر مهم أنْ نتنبه له فيما يُجريه وليُّ الأمر مِن تصرفات، قد يفعل بعض الناس – يعني مِن غير المسلمين ربما جريمة عظيمة - ومع ذلك وليّ الأمر لا يعاقبه،؛ والمسلم إذا فعلها عاقبه، لماذا؟ بعض الناس يكون نظره ضعيف في هذه المسائل يبدأ يطعن في الوالي ويقول: كيف الآن الكافر يفعل الجريمة ويترك والمسلم يعاقب! هذا ما نظر إلى بعض خفيات الأمور، قد يكون في معاقبة هذا الكافر - الذي له دولة لها قوة وشوكة - ربما تضرُّ بالمسلمين ضررًا عظيمًا؛ فنرتكب المفسدة الدنيا لدفع المفسدة العليا، أمّا في إقامة الحَدّ على المسلم فإنه لا يترتب عليه نفس ذلك، فالمصلحة في إقامة الحَدّ عليه، إذاً هذه الأمور تحتاج إلى فقه وتحتاج إلى نظر ومعرفة لواقعها.

أيضًا مِن الأدلة لهذه القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ(12) الفتنة هنا في الآية بمعنى الشرك، ولا شك أنّ مفسدة الشرك أعظم مِن مفسدة القتل.

بقيت صورة ثالثة لم يذكرها المؤلف رحمه الله وهي تتعلق بالمصالح والمفاسد، وهي تعارض المصالح مع المفاسد، المؤلف تكلم إذا تعارضت مصلحة مع مصلحة أخرى، طيب الصورة الثالثة: إذا تعارضت مصلحة مع مفسدة يقال هنا: يُعمل بالأرجح منهما، فإذا كانت المصلحة هي الأرجح؛ فإنها تُعمل، وإنْ كانت المفسدة هي الأرجح فإنه يُقدم عليها، المقصود هنا أنه يراعى الأرجح مِن هذه المصالح والمفاسد.

يدل لهذه القاعدة أنّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله عنها: «لولا أنّ قومكِ حديثٌ عهدهم بجاهلية لهدمتُ الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم»(13)، بناء الكعبة على قواعد إبراهيم هذا مصلحة، لكنّ هذه المصلحة يتوقع منها حصول مفسدة، وهي أنْ يَفتتن مَن كان حديث عهد بإسلام، وربما يرتد عن الإسلام! لأنهم يُعَظّمون هذه الكعبة، فإذا رأوا مَن هدمها وغَيّر بناءها ربما صار لديهم شك وتردد، ولا شك أنّ هذه المفسدة مفسدة راجحة على مصلحة بنائها على قواعد إبراهيم، ولهذا راعى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم هذه المفسدة ولم يعمل بالمصلحة، مِن الأمثلة لهذه القاعدة: منع الجار مِن فتح نافذة تُطِلُّ عل بيت جاره، كون الجار يفتح نافذة فيه مصلحة لكن يترتب على هذه المصلحة مفسدة أعظم وهي اطلاعه على حريم الجار، وربما أدى هذا إلى الخصومات والتقاتل، فتدفع هذه المفسدة لأنها أرجح، أيضًا مِن أمثلة هذه القاعدة أنّ القائلين بتحريم التصوير الفوتوغرافي أو بالكاميرا إذا كان يترتب على التصوير مصلحةٌ أعظمُ مِن هذه المفسدة فإنه تُقَدّم هذه المصلحة ويكون التصوير جائزًا، كما في تصوير المجرمين لأجل القبض عليهم، أو تصوير بعض المحلات ليُنظر مَن الذي سرق ونحو ذلك، هذا فيه مصالح، والمصلحة هنا أعظم مِن مفسدة التصوير، وأيضًا هنا قاعدة أخرى وهي "أنّ ما حُرّم تحريم وسيلة جاز عند الحاجة والمصلحة الراجحة" هذه قاعدة يذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة مِن أهل العلم "أنه ما حُرّم تحريم وسيلة جاز عند الحاجة والمصلحة الراجحة"، ومِن المعلوم أنّ التصوير تحريمه تحريم وسيلة، لأنه قد يكون ذريعة إلى الشرك بالله عزّ وجلّ، فإذا وُجدِت حاجة؛ فإنه يجوز، لكنْ المقصود الحاجة التي لا تندفع إلّا بهذه المفسدة، أمّا لو أمكن حصولُ الحاجة بغير ذلك فإنه لا تُرتكب المفسدة.

أيضًا مما يتعلق بهذا الموضوع أنه إذا تساوت المصلحة والمفسدة ولم يترجح أحدُهما على الآخر فماذا نعمل؟ قبل قليل تكلم المؤلف على اجتماع مصلحة مع مصلحة، ثم مفسدة مع مفسدة، ثم مصلحة مع مفسدة، طيب إذا تساوت مصلحة مع مفسدة؛ فماذا نعمل؟ وهذا قليل في الواقع ولكن قد يوجد، فماذا نعمل؟ حينئذٍ يقول الفقهاء: القاعدة "درء المفاسد مُقَدّمٌ على جَلْبِ المصالح" لأنّ الشريعة عنايتها بترك المنهيات آكدُ مِن عنايتها بفعل المأمورات، لقول النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(14)، وأيضًا درء المفاسد هذا رأس مال للعبد؛ وجَلْبُ المصالح هذا ربح، والمحافظة على رأس المال أَولى مِن تحصيل الربح.

هناك قاعدة مِن القواعد الكلية الكبرى لم يذكرها الناظمُ رحمه الله تعالى في هذه المنظومة، ولعل ذكرَها هنا هو المناسب فلا بُدّ مِن الإشارة إليها وهي قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" نتكلم عليها باختصار، هذه القاعدة هي نصّ حديث نبوي كما هو معلوم وبعض الفقهاء يريدها بلفظ "الضرر يزال" ومعنى الضرر يعني المفسدة التي تلحق بالغير، والحديث فيه: «لا ضرر ولا ضرار»(15)، فهل هما بمعنى واحد؟ أو يختلفان؟ قال بعض العلماء: إنهما بمعنى واحد والمراد التأكيد، يعني كأنه قال: "لا ضرر ولا ضرر"، وقال آخرون: بل لكل منهما معنى - وهذا هو الأقرب - أنه ليس المرادُ التأكيد! لأنّ القاعدة أنّ "التأسيس أَولى مِن التأكيد" يعني إذا دار الأمر بالمعنى بين أنْ يكون مؤكِّدًا لِمَا قَبْله وبين أنْ يكون مؤسسًا لمعنى جديد فالتأسيس أَولى لأنّ فيه زيادة علم، وبناءً على هذا القول الثاني فقد اختلف العلماء في معنى الضرر والضرار، فقيل في معناه: الضرر إلحاق الإنسان بغيره مفسدة بحيث ينتفع هو بذلك، يعني كمَن يأخذ مال غيره وينتفع بهذا المال، قالوا: هذا ضرر، والضرار هو إلحاق الإنسان مفسدة بغيره بحيث لا ينتفع هو بذلك المال، كما لو أحرق مال غيره، حصلت المفسدة للغير لكن هو لم ينتفع بهذا المال! هذا قول؛ أنّ الضرر هو إلحاق الإنسان بغيره مفسدة بحيث ينتفع؛ وأمّا الضرار يلحق بغيره مفسدة مِن غير أنْ ينتفع، القول الثاني: أنّ الضرر هو إلحاق مفسدة بغيره ابتداءً؛ والضرار إلحاق مفسدة بمَن أضرّ به على سبيل المجازاة لكنْ على وجه غير جائز، الضرر واضح هنا أنْ يبتدئ ويضرّ غيره بغض النظر ينتفع أو لا ينتفع، وأمّا الضرار فأنْ يحصل عليه ضرر مِن غيره فيقابل هذا الضرر بضرر لكنه يتجاوز فيه! وهذا لا يجوز له، لأنّ مَن أراد أنْ يُعاقب فليعاقب بمثل ما عُوقب به - كما في الآية - فإذا تجاوز في ذلك؛ فإنّ ذلك يُعَدّ ضرارًا، مثاله: لو سَبّه شخص بكلمة واحدة قال: يا كذا، فغضب هذا الرجل وردّ عليه بعشر كلمات مِن السِّبَاب، هذا يسمى ضرارًا، أو لو سَبّه بغير القَذْف فَرَدّ عليه بكلمة لكنها قذف! هذا ضرار، هذا أشد، وهذا القول الثاني يرجحه أنّ الضرار إذا نظرنا إليه مِن جهة الترتيب اللغوي نَجِدُ أنه على وزن "فِعَال" وفعلُه على وزن "فاعَلَ" فيفيد معنى المشاركة بين اثنين.

الضرر في هذه القاعدة يشمل الضرر الذي يلحقه الإنسان بغيره والضرر الذي يلحقه بنفسه، أيضًا يشمل ما كان مِن الضرر حِسّيًا وما كان مِن الضرر معنويًا، وتقدمتِ الأمثلة على هذا: الحِسّي كأنْ يأخذ المال ظلمًا، والمعنوي بأنْ يَسّبه أو يشوه سمعتَه.

قوله عليه الصّلاة والسّلام في الحديث: «لا ضرر ولا ضرار»(16)،" لا" هنا نافية أو ناهية؟ "لا" نافية، لكنّ المقصود مِن النفي هنا النهي، يعني ليس المقصود مجرد النفي لأنه إذا نظرنا في الواقع نَجِدُ الضرر موجودًا ولا يمكن أنْ يكون نفيًا! وبناءً على ذلك نقول: هذا نفي يُراد به النهي، بل هو في الحقيقة أبلغُ مِن النهي، إذا جاء النهي بصيغة النفي؛ فإنه أبلغُ مما لو جاء بصيغة النهي الصريح.

معنى القاعدة بناءً على ما تَقَدّم أنّ الضرر والضرار منهيٌّ عنهما في الشريعة، فيَحْرُم إيقاع الضرر ابتداءً بالغير، وأيضًا يَحْرُمُ مقابلة الضرر بضرر أكثرَ منه، وأيضًا ما كان مِن ضرر واقعٌ يجب رفعُه، وما كان مِن ضرر متوقع يجب دفعُه.

مِن أمثلة هذه القاعدة: مشروعية الخيار في العقد، يشرع مثلاً في عقد البيع عدة أنواع مِن الخيار، منها خيار المجلس وخيار الشرط، خيار المجلس يعني إذا تبايع الطرفان قال: بِعْتُك السيارة الفلانية بمئة ألف؛ قال: قَبِلْتُ، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا كما جاء في الحديث(17)، إنما شُرِع هذا الخيار - خيار المجلس - لأجل تحقيق مصلحة ودفع ضرر عن المتعاقدين، لأنّ لو كان لمجرد ما قال: بِعْتُك، وهذا يقول: قَبِلْتُ، لا يكون له خيار! قد يندم! لأنّ العقودَ أحيانًا تقع بغتة مِن غير تروي ولا نظرٍ، فجاءت الشريعة بإزالة هذا الضرر وجعلت له حق الخيار، هذا حق فرضه الشرع، إلّا أنْ يتنازل عنه صاحبه، أيضًا خيار الشرط، إذا اشترى الإنسان سلعة وكان عنده تردد في شرائها؛ فله أنْ يشترط الخيار مدة معلومة، كأنْ يقول: لي الخيار ثلاثة أيام أو أسبوع أو شهر أو نحو ذلك، كل هذا لأجل رفعِ الضرر الذي يلحق بالإنسان فيما لو شُرِع مثل هذا الخيار، أيضًا مِن الأمثلة: مشروعية القصاص في النفس وفيما دون النفس أيضًا - يعني في الأطراف ونحوها -، هذا كله لرفع الضرر الواقع على المجني عليه وأيضًا على الأولياء، فإنه يكون بمشروعية القصاص مِن الجاني، وأيضًا فيه دفع الضرر مِن جهة أخرى حتى لا يتعدى الناس على النفوس والأبدان.

يُستثنى مِن هذه القاعدة الضررُ الذي أَذِنَ الشرع به، كما في الحدود والتعزيرات للمجرمين، فهذا ضررٌ بهؤلاء المجرمين لكنه ضررٌ أَذِنَ الشرع به؛ ولأنه ضرر بحق ولِمَا يترتب عليه مِن المصالح.

أيضًا مما يستثنى مِن الضرر ما رضي به المكلف مِن الضرر الذي يتعلق بحقه الخاص - لا ما يتعلق بحق الله عزّ وجل -، مثال ذلك: إذا تعدى شخص على آخر فسَبّه وشتمه فتنازل عن حقه ولم يطالب بمعاقبته! فهذا ضرر عليه ولكنه أسقط حقَّه ورضي به؛ فله ذلك، لكنْ هذا فيما يتعلق بحقه الخاص، أمّا وليُّ الأمر فله أنْ يعاقبَ هذا المعتدي على غيره مِن جهة الحق العام حتى ينكفّ الناس عن مثل هذا.

الأدلة لهذه القاعدة: تقدم معنا حديث «لا ضرر ولا ضرار»(18)، قال عنه النووي في الأربعين: "إنه حديث حسنٌ، رواه ابن ماجه والدار قطني وغيرهما مسندًا".

وأيضًا مما يدلّ لهذه القاعدة عدةُ آيات، منها قول الله عزّ وجل: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا(19) فنهى عن الإضرار، وقال: ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ(20) وقال في آية الرضاع: ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ(21)، وقال في آية الدَّين: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ(22).


(1) الفاتحة: 4.
(2) صحيح مسلم (1851) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
(3) النحل: 90.
(4) الأنبياء: 107.
(5) الأعراف: 157.
(6) الزمر: 55.
(7) الأعراف: 145.
(8) الزمر: 17، 18.
(9) صحيح البخاري (9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(10) صحيح البخاري (2782) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا.
(11) صحيح البخاري (5530) من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعًا.
 (12) البقرة: 217.
(13) صحيح البخاري (1583) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا.
(14) صحيح البخاري (7288) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(15) صحيح. ابن ماجه (2341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا. الصحيحة (250)
(16) سبق تخريجه.
(17) صحيح البخاري (2079) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعًا.
(18) سبق تخريجه.
(19) البقرة: 231.
(20) الطلاق: 6.
(21) البقرة: 233.
(22) البقرة: 282.


 مواد ذات صلة: