الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد
فقد وقفنا على قول الناظم رحمه الله تعالى:
وليس واجبٌ بلا اقْتدار ... ولا مُحَرَّمٌ مع اضطرارِ
الواجب هو ما طلب الشارع فعلَه طلبًا جازمًا، والمُحَرّم ما طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا، وأمّا الضرورة فهي الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى حدٍّ إذا لم تُراعى لجُزِمَ أو خِيفَ أنْ تضيع مصالحه الضرورية، ومعنى قوله رحمه الله: "وليس واجب بلا اقتدار" أنّه لا واجب مع العجز، فمتى ما كان المكلّف عاجزًا عمّا أَمَرَ الله عزّ وجلّ به؛ فإنّه لا يكون واجبًا في حقه، كالمريض الذي يعجز عن القيام في صلاة الفريضة، فإنّ القيام في حقه لا يكون واجبًا، وكذا لو عجز المريض عن الصيام؛ فإنّ صيام رمضان في حقه لا يكون واجبًا، وهكذا، أيضًا إذا عجز المسلمون عن الجهاد فإنه لا يجب عليهم، ودليل هذه القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾(1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»(2)، وأُنَبّه هنا إلى أنه إذا سقط الواجب بسبب العجز؛ فإنّ مَن كان فاعلًا له قبل العجز يجري عليه أجرُه حال العجز -فضلًا من الله عزّ وجلّ-، يعني مَن كان محافظًا على صلاة الجماعة فمرِض لمدة أسبوع فلم يصلِ مع الجماعة؛ فإنّ الله عزّ وجلّ -بمنِّه وفضله- يعطيه أجرَ ما كان يعمل في حال صحته، ويدلّ هذا قول النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا»(3)، و معنى قوله رحمه الله: " ولا مُحَرّمٌ مع اضطرار" يعني أنه لا مُحَرّمٌ مع الضرورة، فالمكلف إذا اضطُر إلى فعل المُحَرّم فإنه لا يكون مُحَرّمًا في حقه ولا يأثم بذلك، كما لو اضطُر المنقطع في الصحراء إلى أكل الميتة فنقول: أكله للميتة ليس حرامًا ولا إثم عليه في ذلك لأجل ضرورته، وهذا مما يفيد المؤمن لأنّه قد يتحرج قد يقول: فعلتُ المُحَرّم! فيُطَمّن في مثل هذا فيقال: إنّ فعلك هذا مباح لك ولا يوصف بحرمة! كذا لو صال عليه حيوان أو إنسانٌ لأجل أنْ يعتدي عليه ولم يمكن أنْ يدفعه إلّا بقتله -حتى لو كان معصومًا-، يعني هذا الإنسان لو صال عليه مسلم أو كافر معصوم ولم يمكن أنْ يدفعه إلّا بقتله؛ فإنّ قَتْلَه حينئذٍ يكون مباحًا؛ بل يكون دمه هَدَرًا، حتى الدية لا يوجد دية لأنه معتدٍ، فهذا لا يوصف بالحرمة فهو مباح، ومِن ذلك قول الفقهاء: "الضرورات تبيح المحظورات" أُنَبّه أنه في مسألة الصيالة الواجب أنْ يُدفع بالأسهل فالأسهل، فإذا أمكن أنْ يُدفع بالكلام والتخويف بالله عزّ وجلّ؛ فإنه لا يجوز أنْ يَنتقل إلى الضرب مثلًا، وإنْ أمكن دفعه بالضرب أو التقييد ونحوه؛ فإنه لا يجوز القتلُ، لكنه إذا خشي أنْ يَبْدُرَه بالقتل جاز له أنْ يبادر هذا الصَّائِلَ بقتله.
مِن القواعد التي يذكرها الفقهاء في هذا قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، ودليل هذه القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾(4). وقال جلّ وعلا: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ إلى أنْ قال: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(5)، وقال جلّ وعلا: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(6).
ذَكَرَ الناظم رحمه الله في شرحه لهذه المنظومة أنّ هاتين القاعدتين مجمعٌ عليهما عند الفقهاء، ثم قال رحمه الله:
وكل محظورٍ مع الضرورةْ ... بقَدْرِ ما تحتاجه الضرورةْ
المحظور يعني المُحَرّم -الممنوع-، ومعنى البيت أنّ المضطر إلى المُحَرّم يجب عليه أنْ يقتصر على القدر الذي تندفع به ضرورته؛ ولا يحلّ له أنْ يتجاوز ذلك، وهذا معنى القاعدة التي يذكرها الفقهاء: "الضرورة تقدر بقدرها" وهذه مقيدة لقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، يعني "الضرورات تبيح المحظورات" هل على الإطلاق؟ أم بقيد؟ يقال: بقيد ما تندفع به هذه الضرورة؛ فإذا اندفعت رجع الأمر إلى ما كان عليه، مِن الأمثلة أنّ المضطر إلى أكل الميتة له أنْ يأكل بقدر ما يدفع عن نفسه الهلاك ولا يزيد على ذلك، أيضًا مِن الأمثلة لو اضطر شخص لكشف عورته للطبيب أثناء العلاج؛ فهذا يباح له لكن بشرط أنْ يقتصر على موضع الحاجة أو الضرورة فقط، كما أنّ الطبيب يَحْرُمُ عليه أنْ ينظر مِن عورة هذا المريض ما زاد عن الضرورة أو زاد عن الحاجة، وهذه المسألة يحتاج إليها النساء أكثر مِن الرجال، لأنّ المرأة عورة، فإذا أُصيبت المرأة بمرض في أذنها؛ تَجِدُ ببعض النساء إذا ذهبت إلى الطبيب وأراد أنْ يكشف على الأذن ماذا تعمل المرأة! كثير مِن النساء تكشف الوجه كله وهذا لا ضرورة إليه ولا حاجة إليه وإنما تكشف الأذن؛ وإنِ احتاج إلى موضع آخر كأنْ ينظر إلى الفم فتكشف الفم، فالضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها، دليل هذه القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾(7) قَيَّدَ نفي الإثم هنا بعدم البغي والعدوان، والبغي أنْ يأخذ الإنسان بحكم الضرورة وهو غير مضطر، يعني أنْ يأكل مِن الميتة قبل أنْ يصل إلى حال الضرورة، يقال: هذا باغٍ، والعدوان أنه إذا وقعت له الضرورة أَكَلَ أو فَعَلَ المُحَرّم زيادة على حاجته أو زيادة على ضرورته، فهذا هو دليل القاعدة.
(1) التغابن: 16. (2) صحيح البخاري (7288) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. (3) صحيح البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا. (4) الأنعام: 119. (5) المائدة: 3. (6) البقرة: 173. (7) البقرة: 173. |