وتَرجِع الأحكامُ لليقينِ ... فلا يُزيلُ الشكُّ لليقينِ
يشير الناظم رحمه الله بهذا البيت إلى قاعدة مِن القواعد الكلية الكبرى وهي قاعدة "اليقين لا يزول بالشك"، وهي قاعدة تدخل في كثير مِن أبواب الفقه، وقد ذَكَرَ هذه القاعدة مِن متقدمي الأئمة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد ذَكَرَ المزنيّ في مختصره في فقه الشافعي أنّ الشافعي رحمه الله قال: "ومَن استيقن الطهر ثم شكّ في الحدث، أو استيقن الحدث ثم شك في الطهر؛ فلا يزول اليقين بالشك"، واليقين في اللغة هو العلم وزوال الشك، وفي الاصطلاح هو الإدراك الجازم الذي لا تردد فيه، هذا يسمى يقينًا، واليقين في هذه القاعدة يريد به الفقهاء ما تقدم مِن الإدراك الجازم الذي لا تردد فيه؛ وأيضًا يريدون به الظن، وهو إدراك الاحتمال الراجح مِن احتمالين، وهذا يُعْوِزُنَا إلى بيان مراتب العلم؛ فيقال في ذلك: إنّ مراتب العلم أربعة:
المرتبة الأولى: اليقين، وهو الإدراك الجازم الذي لا تردد فيه.
المرتبة الثانية: الظن، وهو إدراك الاحتمال الراجح مع وجود احتمال مرجوح، يعني هناك تردد لكن يترجح أحد الاحتمالين؛ فالراجح يسمى ظنًا والمرجوح هو الوهم.
المرتبة الثالثة: الشك، وهي أنْ يتساوى الاحتمالان، ليس هنالك مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر، فهذا شك.
وأمّا الوهم -فكما تقدم- هو الاحتمال المرجوح.
إذا تبيّن هذا فما مراد الفقهاء بقولهم "اليقين لا يزول بالشك"؟ مرادهم اليقين الذي هو اليقين -كما تقدم- الذي لا تردد فيه، وأيضًا يدخل في ذلك الظن الذي هو الاحتمال الراجح، وأمّا الشك والوهم فلا يدخلان، والسبب في إدخال الظن وجعله كاليقين هنا هو أنّ الظن يُعمل به في كثير مِن الأحكام الشرعية، ولو قيل: إنه لا يُعمل إلّا باليقين! لتعذر الوصول إلى العلم في كثير مِن الأحكام الشرعية، فيكفي في ذلك الظن أو غلبة الظن، مثال لهذه القاعدة: شهادة الشهود عند القاضي، لو ادّعى شخص على آخر أنه قد أقرضه مئة ألف ريال؛ فأنكر المُدَّعى عليه! الأصل -كما سيأتي إنْ شاء الله- هو براءة الذمة؛ أنّ المُدَّعى عليه ذمته بريئة حتى يثبت ذلك، فإذا جاء المُدّعي باثنين مِن الشهود العدول فشهدوا أنّ المُدَّعِي قد أقرض المُدّعى عليه هذه المئة ألف؛ ماذا سيحكم القاضي؟ سيحكم بمقتضى هذه الشهادة، طيب هذه الشهادة الآن هل تفيد اليقين حتى يرفع اليقين السابق؟ أو أنّها تفيد الظن؟ نعم تفيد الظن، طيب كيف تفيد الظن مع أنهم عدول؟ نعم، حتى لو كانوا عدولًا ألا يحتمل أنْ يكونوا قد أخطأوا أو وهموا -خاصة مع بعد الزمان-! وأيضًا العدل ليس معصومًا، قد يكذب! هذا محتمل، لكن هذا الاحتمال مرجوح مادام عدلًا قد زُكِّيَ مِن قبل اثنين مِن المُزَكِّيْن؛ فإنّ شهادته تكون مفيدة للظن، وهذا الظن رفع اليقين السابق، إذًا لا يلزم في رفع اليقين أنْ يحصل يقين يرفعه! يكفي في رفعه الظن، أيضًا مِن الأدلة على هذا أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم عمل بشهادة المرضعة الواحدة في التفريق بين الرجل والمرأة في الحديث الذي ورد في ذلك(1)، مع أنّ شهادة المرأة إنما تفيد الظن! فأزال بها اليقين السابق وهو حِل هذه المرأة للرجل، هذا ما يتعلق باليقين، وأمّا الشك فهو في اللغة يطلق على مطلق التردد، وفي الاصطلاح يطلق على التردد بين وجود الشيء وعدمه دون ترجيح لأحدهما على الآخر، ويدخل في الشك مِن باب أولى في هذه القاعدة الوهمُ، يعني لو كان عندنا يقين أو ظن ثم جاءني شك؛ هذا الشك لا يزيل اليقين أو الظن السابق، طيب إذا كان عندي يقين أو ظن ثم جاءني وهم؛ فهو مِن باب أولى أنه لا يرفع اليقين أو الظن السابق.
بناءً على ما تقدم يكون معنى القاعدة "اليقين لا يزول بالشك": أنّ أيّ أمرٍ يثبت ثبوتًا جازمًا هذا يقين، أو راجحًا هذا ظن، بأيّ دليل معتبر؛ ثم يطرأ عليه الشك أو الوهم في زواله؛ فإنه لا يُلتفت إلى ذلك الشك أو الوهم بل يُحكم ببقاء الأمر على ما كان عليه، مِن أمثلة القاعدة غير ما تقدم: مَن تَيَقَّنَ الطهارة وشك في الحدث؛ ما حكمه؟ تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لم يحدث؟ فهذا نقول: الأصل أنه متطهر، وكذا العكس لو تيقن أنه قد أحدث ثم شك هل توضأ بعد الحدث أم لم يتوضأ؟ فالأصل أنه محدث، فنقول: يلزمك الوضوء، مِن الأمثلة أيضًا: مَن شك في طلاق امرأته؛ هل طلّق أم لم يطلّق؟ ما هو اليقين؟ اليقين عدم الطلاق، وهذا لو كان في الطَلْقة الأولى أو الثانية قد يكون الأمر سهلًا، لكن لو جاءنا شخص يريد أنْ يُثبت الطلاق عند القاضي، يعني يقول: أنا طلقت وأريد إثبات هذا الطلاق، القاضي مباشرة سوف يسأله: هل طلقت قبل هذه الطَلْقة أو لا؟ لأنّ هذا له أثرٌ في الحكم، فإذا قال: إنني طلقت قبل هذه الطَلْقة طلقة جازمًا بها وطَلْقة متردد فيها! يعني يقول: طلقتُ قبل عشر سنوات لكنني متردد لا أدري هل طلقتُ أم لم أطلق! وقبل سَنَة جازم بالطلْقة، وهذه الآن الطلقة التي يريد أنْ يُثبتها، بناءً على هذا يتحقق منه القاضي بالطلقة الأولى، إنْ كان عنده غلبة ظن عمل بهذا الظن وأثبت الطلقة وصارت الطلْقة الأخيرة هذه هي الثالثة، فتَبِيْنُ منه المرأة بينونة كبرى لا تحلّ إلّا لرجل ينكحها ويطؤها ثم يفارقها بموت أو طلاق، وأمّا إذا قال: إنّ الطَلْقة الأولى أنا متردد فيها تردد يستوي فيه الاحتمالان؛ فحينئذٍ الأصل عدم وقوع هذا الطلاق، فيكون قد طلَّق طلقتين فقط فلا تَبِيْنُ منه المرأة بينونة كبرى، هذا يدلك على أنّ المسألة مهمة ويترتب عليها أمور عظيمة جدًا.
مِن أدلة هذه القاعدة أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم شُكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة! فقال عليه الصلاة والسلام: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يَجِدَ ريحًا»(2)، لأنّ هذا الشيء الذي خُيِّلَ إليه في الصلاة شكّ والأصل هو طهارته، فهذا الشك لا يزيل الأصل، أيضًا قال عليه الصّلاة والسّلام: «إذا شك أحدكم في صلاته؛ فلم يدري كم صلى ثلاثًا أم أربع! فليطرح الشك ولْيَبْنِ على ما أيقن»(3) فهذا فيه العمل باليقين وطرح الشك، أيضًا دلّ على هذه القاعدة ما تقدم مِن الإجماع، وهي قاعدة كلية كبرى، وعرفنا أنّ القواعد الكلية الكبرى الخمس كلها مجمع عليها، أيضًا يُعلل لهذه القاعدة بأنّ اليقين أقوى مِن الشك؛ فلا يصح عقلًا أنْ يكون الأضعفُ يرفعُ الأقوى.
ذَكَرَ الناظم رحمه الله في شرحه أنّ هذه القاعدة لا تختصّ بالفقه بل تدخل أيضًا في غير الفقه، قال: "الأصل في كل حادثٍ عدمه؛ حتى يتحقق" إذا نظرنا إلى الألفاظ قالوا: إنّ الأصل في الألفاظ أنها للحقيقة حتى يأتي ما يصرفها عن هذه الحقيقة، والأصل في الأمر أنه للوجوب حتى يأتي الصارف، والأصل في اللفظ العام أنه يفيد عموم جميع الأفراد حتى يأتي المخصِّص، والأصل إحكام النص حتى يثبت الناسخ له وهكذا في كثير من القضايا.
أنتقل إلى القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة الكبرى، تلحظ أنّ التفريع إنما يكون على القواعد الكبرى، هذا هو الغالب، وأمّا القواعد التي ليست مِن الكبرى فالتفريع عليها أقل، مِن هذه القواعد المتفرعة "الأصل بقاء ما كان على ما كان" ومعناها أنّ الشيء إذا ثبت على حال مِن الأحوال في زمان فإنه يُحكم ببقائه على ما هو عليه في الزمان التالي حتى يأتي ما يغيره، مِن أمثلة ذلك: مَن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، يعني هو الآن يتسحر في آخر الليل، ثم شك هل طلع الفجر؛ أو لم يطلع؟ فاستمر يأكل حتى تيقن أو غلب على ظنه طلوع الفجر فأمسك، ما حكم صيامه؟ صحيح، لأنّ "الأصل بقاء ما كان على ما كان" الأصل بقاء الليل على ما هو عليه حتى يتيقن أو يغلب على ظنه طلوع الفجر.
مِن القواعد المتفرعة عن القواعد الكبرى "الأصل في الأشياء الإباحة" وهذه سيتكلم عليها الناظم رحمه الله بعد قليل، ومعنى هذه القاعدة أنّ القاعدة المستمرة في الشرع أنّ الأشياء التي سُكت عنها وليس فيها ضرر؛ فإنها تكون مباحة؛ ولا يُنتقل عن هذا الأصل إلّا بدليل على التحريم، يدل لهذه القاعدة قول الله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾(4)، هذه الآية فيها امتنان مِن الله عزّ وجلّ بأنْ خَلَقَ لنا جميع ما في الأرض، وأبلغ وجه للامتنان أنْ تكون مباحة؛ أنّ يكون ما على وجه الأرض يكون مباحًا لنا، لو كان مُحَرّما لم يكن هناك امتنان! أيضًا يدل لها قول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(5) فهذا يدل على أنّ الأصل في الأشياء إباحتها، مِن أمثلة هذه القاعدة: الحيوان الذي يُشكِل أمرُه؛ هل يحِلّ بالتزكية أو لا يحِلّ؟ فالأصل في ذلك أنْ يقال: هو حلالٌ حتى يأتي دليل على أنّ هذا الحيوان لا يحِلّ أكلُه -يعني حتى لو ذُكّي-، يعني مثل الأسد أو النمر هذا جاء النهي عنه، فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كلِّ ذي نابٍ مِن السِّبَاع(6) فهذه مُحَرّمة، الأمر فيها واضح، لكن لو جاءنا حيوان لا ندري هل هو مما جاء النص بحِله أو جاء النص بتحريمه! فالأصل فيه الحِلّ، لكن إذا قلنا الحِل فإنه لا يحلّ إلّا بتذكية شرعية -كما هو معلوم-، ومَثّلوا لذلك بالزرافة، قالوا: لا نعلم فيها دليلًا فالأصل فيها الإباحة إذا ذُكيَت، أيضًا يدخل في هذه القاعدة الكثير مِن المعاملات الحادثة الآن، الأصل فيها الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم.
مِن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة، قاعدة "لا عبرة في الدلالة في مقابلة التصريح"، معنى هذه القاعدة أنه إذا وُجِد في أمرٍ ما تصريح -كاللفظ الصريح أو الكتابة الصريحة مما يدل على المراد-؛ وعارضت هذه الدلالة الصريحة دلالةً غير صريحة مثل العُرف أو سكوت الشخص؛ فهذه قد يستفاد منها شيء معين لكنها ليست كالصريح! فحينئذٍ المُقَدّم دلالة الصريح على غير الصريح، وهذا يتضح بالمثال: لو أبرم شخص عقد إجارة على بيت لمدة سَنَة، فصرّح الطرفان بالعقد بأنّ الأجرة تدفع عند العقد كاملة؛ فإنه يُلزم المستأجر بدفع الأجرة كاملة عند العقد، ولا عبرة بالدلالة هنا، لأنّ العُرْفَ عندنا أنّ الأجرة تُدفع على مرحلتين: نصفها عند العقد والنصف الثاني بعد ستة أشهر، هذا الذي جرى فيه العُرف، الآن العرف تعارض مع التصريح؛ فنقدم التصريح على الدلالة، وجه إيراد هذه الدلالة تحت قاعدة "اليقين لا يزول بالشك" وجه ذلك أنّ التصريح يُعَدُّ يقينًا؛ والدلالة كالعرف ونحوه هذا محل تردد ومحل شك؛ فالشك لا يزيل اليقين.
مِن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة، قاعدة "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص" والمراد بالنص هنا هو ما دلَّ على معناه دلالة قطعية، كأنْ تأتي عندنا آية صريحة في دلالتها؛ أو يأتي عندنا حديث ثابت عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وصريح في دلالته ونحو ذلك مِن الأدلة القاطعة في هذا؛ فحينئذٍ لو اجتهد مجتهدٌ على خلاف هذا النص؛ فإنّ اجتهاده لا عبرة به، ويُمَثّل له بما تقدم معنا في الدرس الماضي مِن اجتهاد ذلك العالم الذي أفتى السلطان الذي وقع على أهله في نهاية رمضان أفتاه أنْ يصوم شهرين متتابعين! عرفنا هذا مخالف للنص وأنها مصلحة غير معتبرة، أيضًا يُمَثّل لهذه القاعدة بما لو اجتهد مجتهدٌ بأنّ المطلّقة الرجعية يُشتَرَط رضاها لصحة الرجعة! فهذا الاجتهاد لا مُسَوِّغَ له لأنه في مقابلة النص: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾(7).
أيضًا مِن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة، قاعدة "التحريم المتوقع لا يؤثِر في الحال عدم الحِلّ" ومعناها أنّ ما كان ثابتًا متيقنًا؛ فإنه لا يرتفع لاحتمال أنْ يَحْرُمَ في المستقبل! لأنّ التحريم في المستقبل مشكوك فيه؛ فلا يزيل اليقينَ السابق! مثال ذلك: المؤجِّر إذا أَجّر بيتًا وسُلمت له الأجرة كاملة عند العقد؛ فإنه يحلّ له أنْ يتصرف في هذه الأجرة، ولا يقال: إنه يحتمل أنّ العقد ينفسخ لوجود عيب في هذه العين المؤجرة؛ فيلزمك إعادةُ ما تبقى أو ما يقابل ما تبقى مِن المدة! لأنه مِن المعلوم أنه إذا استأجر بيتًا وأَخَذَ الأجرة كاملة ثم بعد شهر أو شهرين حصل عيبٌ في العين المؤجرة؛ فطالب المستأجرُ بالفسخ؛ ففُسِخ العقد؛ فإنه يرجع هذا المستأجر على المؤجِّر بما يقابل المدة المتبقية مِن الأجرة، يقول: أُعطيك أو تستحق مِن الأجرة بقدر ما بقيت؛ وأمّا ما بقي مِن العقد مما خرج فيه المستأجر فإنه يرجع إليه، إذًا هذه الأجرة التي قبضها المستأجر عند العقد ألا يحتمل أنْ تزول عنه؟ يحتمل هذا، لكن هذا الاحتمال احتمالٌ متوقع؛ والتحريم المتوقع لا يؤثر في الحال عدم الحِل.
أيضًا مِن القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة "الأصل في الصفات العارضة العدم" وبمعناها "الأصل السلامة"، والمراد بالصفات العارضة ما يقابل الصفات الأصلية، مِن أمثلة الصفات الأصلية: حياة الحيوان وصحة الحيوان، وأمّا الصفات العارضة مثل: مرض هذا الحيوان، هذا وصف عارض، مِن أمثلة هذه القاعدة: لو باع حيوانًا ثم جاء المشتري بعد ذلك إلى البائع وقال: إنّ هذا الحيوان وجدتُه مريضًا؛ فادَّعَى المشتري أنه كان مريضًا قبل العقد؛ فلم يصادقه على ذلك البائع، قال البائع: أبدًا! أنا بعتُه عليك وهو سليم مِن هذا المرض، فالقول قول مِن؟ كل منهما الآن يدّعي أنّ المرض قد حصل في ملكه، فيقال: "الأصل في الصفات العارضة العدم" بمعنى أنه لَمّا باعه هذا الحيوان الأصلُ عدم وجود هذا الأصل العارض؛ فإذا كان هذا المشتري يدّعي أنه كان مريضًا قبل العقد؛ فعليه البيّنة؛ فإنْ جاء بالبينة فنعم؛ وإن لم يأت بالبينة فالأصل هو قول البائع، مثال آخر: الدم الخارج مِن فرج المرأة، ما الأصل فيه؟ هل الأصل في أنه حيض؟ أو الأصل أنه استحاضة؟ الاستحاضة مرضٌ؛ والمرضُ صفة عارضة، فإذا طبقنا القاعدة نقول: "الأصل في الصفات العارضة العدم" فيكون الأصل في هذا الدم الذي يخرج مِن المرأة هو أنه حيض، وقد ذكر هذا الضابط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا مفيد جدًا، إذا ضبطنا الأصول في هذا الباب تنحلّ كثير مِن الإشكالات عند النساء، فالأصل في الدم الذي يخرج مِن المرأة أنه حيض إلّا أنْ يدل دليل أو قرينة على أنّ هذا الدمَ دمُ استحاضة.
أيضًا مِن القواعد المتفرعة "الأصل براءة الذمة" وهذه القاعدة نحتاج إليها في الخصومات، فمَنِ ادَّعى على غيره أنه يطالبه بمبلغٍ ماليّ أو غيره مِن الحقوق فإنّ الأصل براءةُ ذمة هذا المدَّعى عليه حتى يثبت خلاف ذلك.
باقي واحدة قد تكون الأخيرة أو قبلها، هذه مهمة، قاعدة متفرعة أيضًا وهي "الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته"، معناها أنّ وقوع الحادث في الزمن الأقرب هو اليقين؛ ووقوعه في الزمن الأبعد مشكوك فيه؛ واليقين لا يزول بالشك! مثال ذلك: لو رأى شخصٌ في ثوبه مَنِيًّا؛ يعني شاب لم يتزوج ورأى المَنِيَّ في ثوبه ولكنه لا يذكر احتلامًا؛ فماذا يعمل؟ ننظر إلى آخر نومة نامها؛ فنجعل هذا الاحتلام في آخر نومة، وبناءً عليه نقول: يجب عليك أنْ تغتسل وأنْ تُعيد الصلوات التي صليتها بعد آخر نومة، لأنّ "الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته"، الاحتلام لم يكن في النوم، وأقرب ما يمكن هو آخر نومة، يعني لا نقول: نجعله لنومة سابقة على هذه النومة! وإنما نُحيل الأمر إلى أقرب الأوقات.
والأصلُ في مياهنا الطهارةْ ... والأرضِ والثيابِ والحِجارةْ
هذا شروع مِن الناظم رحمه الله في بيان بعض الأصول التي يجب التمسك بها عند ورود الشك، فهي تفريع على ما تقدم، "الأصل" يطلق على عدة معانٍ والمراد به هنا الحالة الأولى المستصحَبة، فالأصل في هذه الأمور الأربعة -وهي المياه والأرض والثياب والحجارة- الأصل فيها أنها طاهرة، ودليل ذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾(8) قالوا: والمياه الموجودة الآن على وجه الأرض أصلها مِن السماء، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الماء طهورٌ لا يُنَجِّسُه شيء»(9) وهذا يدل على أنّ الماء أصلُه طاهر، ودليل ذلك في الأرض قول الله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾(10). وقد تقدم أنّ هذه الآية سِيقت في مساق الامتنان؛ ولا يمكن أنْ يَمْتَنّ علينا جلّ وعلا بما في هذه الأرض ويكون ما فيها نجسًا ليس طاهرًا! هذا يخالف الامتنان، أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»(11)، وقال عليه الصلاة والسلام: «الصعيدُ الطَّيِّب طَهورُ المسلم»(12)، هذا كله يدل على أنّ ما على وجه الأرض كله طاهر، وهذا يشمل ما عليها مِن حجارة ومِن تراب ومِن نبات ومِن معادن وغير ذلك؛ فكلها الأصل فيها الطهارة، وبناءً على هذا الأصل؛ فإنه إذا شك الإنسان هل في هذه البقعة نجاسة أو لا؟ أو شك هل في ثوبه نجاسة أو لا؟ أو شك في الماء هل فيه نجاسة أو لا؟ فإنّ الأصل هو الطهارة، وهذا يريح الإنسان كثيرًا ويدفع عنه الوساوس، كذلك يقال: إنّ اعتبار الطهارة هنا هو اليقين، والطهارة صفة أصلية؛ وأمّا النجاسة فهي صفة عارضة، وتقدم معنا قبل قليل أنّ الأصل في الصفات العارضة العدم، فهذه النجاسة صفة عارضة طرأت على صفة أصلية -وهي الطهارة- فالأصل عدم هذه النجاسة.
والأصلُ في الأبضاعِ واللحومِ ... والنفسِ والأموالِ للمعصومِ
تحريمُها حتى يجيءَ الحِلُّ ... فافهَمْ هداك اللهُ ما يُمَلَّ
الأبضاع جمع بُضْع والمراد به الفرج، وهو كناية عن إتيان النساء والاستمتاع بهنّ، والمعصوم يُراد به مَن عُصِمَ دمُه ومالُه، وهو أربعة: المسلم والذِّمِّيّ والمستأمَن والمعاهَد، أمّا المسلم فواضح، والذِّمِّيّ هو مَن بيننا وبينه عقدُ ذِمّة بحيث يدفع الجزية ويأمن على نفسه ويُقَرُّ على دينه -هذا يقال ذِمِّيّ-، وأمّا المستأمَن فهو الحربيّ الذي دخل إلى بلاد الإسلام بأمان مِن الإمام؛ فإنه معصوم الدم والمال حتى يرجع إلى بلده، وأمّا المعاهَد فهو الذي بيننا وبينه عهد، يعني إذا أبرمت الدولة المسلمة مع الدولة الكافرة عهدًا أو صلحًا على الكفّ -كل منهما يكفُّ عن الآخر-؛ فحينئذٍ يكون هذا الكافر معاهدًا، فهؤلاء الأربعة دماؤهم وأموالهم معصومة، بخلاف المرتد فإنّ دمَه ليس معصومًا، والكافر الحربي دمه ليس معصومًا ولا ماله أيضًا، لكن ما المراد بالكافر الحربي؟ هل المراد به مَن قامت بيننا وبينه حرب؟ يعني الحرب قائمة الآن؛ نسميه حربيًّا؟ أو له معنى مضاف إلى هذا؟ بعض الناس يظن أنّ الكافر الحربي هو مَن كانت الحرب قائمة بيننا وبينهم، هذا لا شك أنه حربي، لكن يدخل أيضًا في المراد بالحربي مَن ليس بيننا وبينه عقدٌ ولا ذمة ولا أمان، يعني ما سوى الثلاثة مِن الكفار الذين تقدموا ممن يُعصم دمه وماله؛ فهذا يسمى حربيًّا حتى لو كانت الحرب ليست قائمة بيننا وبينهم، قال: "فافهم هداك الله ما يُمَلُّ" يعني ما يُملى عليك، أفاد الناظم أنّ الأصل في الفروج التحريم؛ فلا تُستباح إلّا ببيّنة واضحة، والشرع إنما أجاز لنا هذه الأبضاع مِن طريقين فقط وهما: النكاح وملك اليمين، كما في قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾(13) وبناءً على ذلك لو شك شخص في امرأة هل هي زوجته؟ أو أجنبية عنه؟ فإنها لا تحلّ له حتى تقوم البيّنة على أنها زوجة له، وكذا مما يدخل في كلام الناظم رحمه الله: "الأصل في النفوس والأموال للمعصوم أنها مُحَرّمة" فلا يُقتل المعصوم ولا يُستباح دمُه إلّا ببيّنة شرعية، ويدَلُّ لهذا الأصل عدة أدلة: منها قوله عليه الصلاة والسلام: «المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه»(14)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»(15)، وأيضًا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا؛ لم يَرَح رائحة الجنة»(16)، يُستثنى مِن هذا الأصل مَن يُباح قتْلُه بموجِبٍ شرعيّ، كما في قول النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أنْ لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(17)، وأمّا اللحوم فالأصل فيها التحريم حتى يثبت ما يبيحها، والمراد باللحوم هنا هو اللحم مِن الحيوان الذي يجوز أكلُه، مِن الأمثلة التي ذكرها الناظم في شرحه: لو اجتمع في الذبيحة مبيح ومُحَرّم؛ فإنه غَلَّبَ جانبَ التحريم؛ فلا يحلُّ المذبوح ولا يحلُّ الصيد إلّا إذا كان قد اجتمع فيه سببٌ للتحريم وسببٌ للإباحة؛ فإنه حينئذٍ نرجع إلى الأصل وهو التحريم؛ فنقول: هذه الذبيحة وهذا الصيد لا يحل، مثال ذلك: لو ذبح الشاة بسكين مسمومة؛ قالوا: فلا ندري هل زهوق الروح كان بالسكين أو كان بالسُّمِّ؟ لو كان بالسكين فهو مباح، ولو كان بالسُّمِّ فهي ميتة، اجتمع سبب للإباحة وسبب للتحريم فنرجع إلى الأصل -والأصل هو التحريم-، حتى نعلم أو نتيقن أو يغلب على ظننا أنّ سبب الإباحة قد وُجِد، مثال آخر: لو رمى الصيد؛ فسقط هذا الصيد في الماء، فجاء إليه وأخرجه مِن الماء وإذا به ميت! فلا ندري هل مات بالسهم أو مات بالغرق! فاجتمع فيه سببان مُحَرّم ومبيح؛ فيُغَلّب التحريم، أيضًا مَثَّلُوا له: لو رمى الصيد فوقع في الأرض فوَطِئه -كعصفور سقط- فوطئه شخص فمات، لا ندري هل مات بالوطء فيكون مُحَرّمًا أو مات بالصيد فيكون حلالًا؟ وبناءً على ذلك نرجع إلى الأصل وهو التحريم، دليل هذا الأصل حديث عديّ ابن حاتم رضي الله تعالى عنه؛ قال: سألتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم -في ما سأله-؛ فقال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلتَ كلبَك المعلَّم فقتل فَكُلْ، وإذا أكل فلا تأكل؛ فإنما أمسكه على نفسه» قلتُ: أُرسل كلبي؛ فأجدُ معه كلبًا آخر! قال: «فلا تأكلْ، فإنما سميتَ على كلبك؛ ولم تسمّ على كلب آخر»(18)، يعني أرسل الكلب ليصيد ثم لمّا جاء إلى الصيد وجد مع كلبه كلبًا آخر؛ فلا يُدرى الذي صاد الكلبُ الذي سُمي عليه أو الكلب الآخر الذي لم يُسَمّ عليه! فاجتمع تحليل وتحريم؛ فالأصل هو التحريم.
والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ ... حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ
مِن المعلوم أنّ أفعال العباد تنقسم إلى عبادات ومعاملات، فالعبادات هي ما يُتقرب بها إلى الله عزّ وجلّ، وأمّا العادات فهي ما اعتاده الناس في أمور حياتهم كالمأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، الأصل في العادات والمعاملات أنها مباحةٌ، ومَن حَرَّمَ منها شيئًا طُولب بالدليل، وتقدم معنا الدليل على هذا وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾(19) وقوله جلّ وعلا: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾(20).
وليس مشروعاً من الأمورْ ... غيرَ الذي في شرعنا مذكورْ
قوله "مِن الأمور" يعني مِن أمور العبادات، فهذا يفيد عكس ما تقدم: أنّ الأصل في العبادات هو التحريم والمنع حتى يدل الدليل على أنها مشروعة، ويدل لهذا الأصل قول الله عزّ وجلّ: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾(21)، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ»(22)، هذا هو الذي صرّح به الناظم في شرحه في معنى هذا البيت، مِن المعلوم أنّ الناظم أدرى بنظمه وأدرى بمعنى البيت، لكنْ عند التأمل تَجِدُ هذا البيت يحتمل معنىً آخر "وليس مشروعًا مِن الأمور غير الذي في شرعنا مذكور" يحتمل مسألة أصولية وهي "شرع مَن قَبْلَنا، هل هو شرع لنا؟ أو ليس شرعًا لنا" ومادام أنّ المصنف أو الناظم رحمه الله ذَكَرَ مرادَه فالأمر منتهٍ وواضحٌ، لكن مِن باب الفائدة نذكر هذه المسألة الأصولية باختصار وهي مسالة "شرع مَن قَبْلَنا هل هو شرع لنا أو لا؟" هذا فيه خلاف، لكنْ قبل ذلك ينبغي أنْ نعرف تحرير محل الخلاف في المسألة، فيقال في هذا: إنّ ما جاء في شرعنا – يعني في الكتاب والسُّنَّة - مما هو مِن شرائع الأنبياء السابقين؛ هذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وإنما قال العلماء: مما ورد في الكتاب والسُّنَّة ليخرجوا ما جاء عن بني إسرائيل مما لم يثبت، فهذا لا يُلتفت إليه ولا يدخل في المسألة، المقصود ما جاء في الكتاب والسُّنَّة مما هو مِن شرائع الأنبياء السابقين؛ هل يكون شرعًا لنا أو لا؟ قالوا: هذا له ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أنْ يأتيَ في شرعنا ما يدل عليه ويؤكده، فهو لا شك أنه شرعٌ لنا، ولكنْ في الحقيقة أنّ الدليلَ هو شرعنا وليس شرع مِن قبلنا!
الحال الثانية: أنْ يأتيَ في شرعنا ما ينهى عنه، فلا شك أنّ شرع مَن قَبْلَنا ليس شرعًا لنا.
والحال الثالثة -هي محل الخلاف-: وهي فيما إذا جاء مسكوتًا عنه في شرعنا، لم يأت في شرعنا ما يدل عليه ولا ما ينهى عنه، فالجمهور على أنه شرعٌ لنا، عملًا بقول الله عزّ وجلّ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾(23).
وسائلُ الأمورِ كالمقاصدِ ... واحكمْ بهذا الْحُكمِ للزوائدِ
تنقسم الأفعال إلى ثلاثة أقسام: مقاصد ووسائل وزوائد.
أمّا المقاصد: فهي الأفعال المقصودة لذاتها لتضمنها المصلحة أو المفسدة، مثل: الصلاة هذه مقصودة لذاتها، الصيام، الجهاد، الحج، وأيضًا في المُحَرّمات: الزنا، السرقة هذه مقصود تحريمُها.
وأمّا الوسائل: فهي الأفعال غير المقصودة لذاتها لعدم تضمنها في ذاتها لمصلحة أو مفسدة، وإنما تُباشَرُ ليُتوصل بها إلى المقصد الشرعية، مثل: السعي إلى المسجد، السفر لأجل الحج، كل هذه وسائل لتحصيل المقصد الشرعي.
وأمّا القسم الثالث فهو الزوائد والمتممات: وهي الأفعال الواقعة بعد حصول المقصود، كالرجوع مِن المسجد والعَوْدِ مِن الحج، يعني الإنسان إذا ذهب إلى المسجد نسميه وسيلة، حصل المقصود وصلى مع الجماعة ثم رجع إلى بيته، هذا الرجوع يسمى متممًا أو زوائدَ.
معنى البيت أنّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل الواجب واجبة، يعني الوسيلة إلى صلاة الجماعة هي المشي إلى المسجد؛ فيكون المشي إلى المسجد واجبًا، ووسائل الحرام حرام، فكل وسيلة توصل إلى الزنا فإنها مُحَرّمة، وسائل المكروه مكروهة، وسائل المستحب مستحبة، وهكذا، يعني يكون حكمُ الوسيلة حكمُ المقصد.
دليل هذه القاعدة: قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ﴾(24)(25) هذا في الجهاد، الأصل أنّ قَطْعَ الأودية والسير في الأرض أنه مباح، لكن لمّا كان وسيلة للجهاد في سبيل الله فإنّ الله عزّ وجلّ جَعَلَ فيه الثواب، أيضًا قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾(26) الأصل في الضرب بالأرجل على الأرض أنه مباح، لكن لمّا كان وسيلة إلى الفتنة بالمرأة فإنه يُنهى عنه، أيضًا جاءت بعض الأحاديث في الذهاب إلى المسجد وأنّ الخطوات تكتب، مِن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لبني سَلِمة، قال: «دياركم تُكتبُ آثاركم»(27)، وقال عليه الصلاة والسلام: «مَن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا؛ سهّل الله به طريقًا إلى الجنة»(28)، وكل هذا مِن باب الوسائل.
وأمّا الزوائد فإنه يكون لها أحكام المقاصد مِن جهة الثواب، الرجوع مِن الجهاد، والرجوع مِن الحج، والرجوع مِن المسجد، كل هذا مما يثاب عليه المرء، ويدل له ما أخرجه أبو داود مِن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أنّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قَفْلَةٌ كغزوة»(29) والقفلة يعني الرجوع مِن الغزوة، فجعل الثواب فيها كالغزوة، أيضًا حديث الصحابي الذي كان يمشي إلى المسجد، جاء فيه أنه قال: إني أريد أنْ يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي، فقال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد جَمَعَ اللهُ لك ذلك كلَّه» أخرجه مسلم(30).
كذلك آثار العمل الصالح التي ليست مِن فِعْلِه مثل: التعب والظمأ الذي يحصل للمجاهد؛ هذا يُثاب عليه، خلوف فم الصائم يؤجر عليه الصائم أيضًا، هذه آثار العمل الصالح يؤجر عليها، وأمّا ما يتعلق بآثار المعصية؛ فإنه لا يُعاقب عليها مثل: الرجوع مِن مكان المعصية، هو الآن ذهب إلى مكان وسرق ثم رجع، الرجوع هل يأثم عليه؟ قالوا: لا، لا يأثم عليه، لكن إنْ كان يترتب على المعصية بعض الآثار الخطيرة؛ فإنه يأثم على ذلك، مثاله: لو زنى بامرأة فاختلطت الأنساب، هذا الأثر المترتب على المعصية يأثم عليه، صار هذا الولد مثلًا يتكشف على نساء لَسْنَ مِن محارمه! لأنّ الأنساب اختلطت، فهذا يأثم عليه هذا الزاني.
والخطأُ والإكراهُ والنسيانُ ... أسقطه معبودُنا الرحمانُ
لكن معَ الإتلافِ يَثْبُتُ البدلْ ... ويَنْتَفِي التأثيمُ عنه والزَّلَلْ
الخطأ أنْ يريد الشخص فِعْلَ ما هو صواب؛ فيقع في غيره! يعني أنْ يقصد فِعْلَ ما يَحِلّ له لكنه يقع في فعل ما لا يَحِلّ له، فهذا مخطئ غير متعمد، كمَن قصد أنْ يقتلَ كافرًا حربيًا فقتل مسلمًا! أو كان يريد أنْ يصيد فقتل معصومًا! فهذا مِن الخطأ، وأمّا الإكراه فهو أنْ يُحمل الشخص على فِعْلِ شيءٍ قهرًا؛ فيفعلُه بغير إرادته، وأمّا النسيان فقيل: هو زوال المعلوم مِن الذهن، وهو مرادف للسَّهو عند الجمهور، وبعض العلماء يُفَرِّقُ بين النسيان وبين السهو، فيقول: إنّ النسيان زوالُ المعلوم مِن الذهن بالكلية بحيث أنك لو ذَكَّرْتَهُ لم يتذكر! قال: هذا نسيان، طيب السهو؟ قال: السهو زوال المعلوم بحيث لو ذَكَّرْتَهُ لتذكر، وهذا نلحظه في سهو الإمام في الصلاة؛ إذا سبح له مَن خلفه فإنه في الغالب يتذكر، فهذا يسمى سهوًا، وأمّا إنْ كان غاب عن ذهنه شيء فذَكِّرَ فلم يتذكر؛ فهذا يسمى نسيانًا.
معنى البيت أنّ الله عزّ وجلّ برحمته رفع عن المكلف الإثمَ إذا وقع في المخالفة مخطأ أو ناسيًا أو مكرهًا، ويدل لهذا قول الله عزّ وجلّ: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾(31) وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنّ اللهَ وضع عن أمتي الخطأَ والنسيان وما استكرهوا عليه»(32)، هذا فيما يتعلق بالبيت الأول، وأمّا البيت الثاني فالمراد به أنّ المُكَلَّفَ إذا حصل منه إتلاف في حال خطئه أو نسيانه أو إكراهه؛ فيجب عليه البدل وهو العوض -يعني يكون ضامنًا لِمَا أتلف-، لأنّ الضمان سببُه الإتلاف، سواء إنْ كان المُتْلِفُ قاصدًا أو غير قاصد، حتى لا تضيع حقوق الناس! يعني لو أنّ إنسانًا يقود سيارته واصطدم بسيارة رجل آخر خطًا، مِن جهة الإثم؛ لا يأثم، وأمّا مِن جهة الضمان؛ فإنه يُلزم بالضمان.
(1) صحيح البخاري (88) من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه مرفوعًا. (2) صحيح البخاري (137) من حديث عبّاد بن تميم عن عمه مرفوعًا. (3) صحيح مسلم (571) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا. (4) البقرة: 29. (5) الأعراف: 32. (6) صحيح البخاري (5530) من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعًا. (7) البقرة: 228. (8) الفرقان: 48. (9) صحيح. أبو داود (66) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا. صحيح الجامع (6640). (10) البقرة: 29. (11) صحيح البخاري (335) من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا. (12) صحيح. أبو داود (332) من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه مرفوعًا. الإرواء (153). (13) المؤمنون: 5، 6. (14) صحيح مسلم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. (15) صحيح البخاري (1741) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا. (16) صحيح البخاري (3166) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا. (17) صحيح مسلم (1676) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. (18) صحيح البخاري (175) من حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه مرفوعًا. (19) البقرة: 29. (20) الأعراف: 32. (21) الشورى: 21. (22) صحيح مسلم (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا. (23) الأنعام: 90. (24) التوبة: 121. (25) هنا دمج الشيخ – حفظه الله – بين آيتين خطأً، فاقتصرتُ على الشطر موضع الشاهد. (26) النور: 31. (27) صحيح مسلم (665) من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا. (28) صحيح مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. (29) صحيح. أبو داود (2487) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا. صحيح الجامع (4393). (30) صحيح مسلم (663) من حديث أبيّ رضي الله عنه مرفوعًا. (31) البقرة: 286. (32) صحيح. البيهقي في الكبرى (11454) عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. صحيح الجامع (7110). |