شرح القواعد الفقهية للسعدي
قاعدة مَن تَعَجّل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه

مُعاجِلُ المحظورِ قبل آنِهْ ... قد باء بالخسران مَعْ حِرمانهْ


قوله "قبل آنه" يريد قبل وقته، وقوله "باء" بمعنى رجع.

يشير الناظم رحمه الله في هذا البيت إلى قاعدة وهي "مَن تَعَجّل شيئًا قبل أوانه عُوقب بحرمانه"، ومعناها أنّ مَن تعجل حقًا مِن حقوقه أو أمرًا قبل وقته وتوسّل لذلك بوسيلة محرّمة - أو غير محرّمة -؛ فإنه يأثم لمباشرته هذه الوسيلة ويُحرم مِن الحقِّ تعزيرًا له، هذه القاعدة لها أهميتها في سدِّ الذرائع التي توصِل إلى الفساد، وهي مهمة في تحقيق مقاصد الشريعة في ذلك.

يدلُّ لهذه القاعدة قولُه عليه الصلاة والسلام: «لا يَرِثُ القاتلُ شيئًا» رواه أبو داود(1)، القاتل لا يرث مِن مُوَرِّثه شيئًا، يعني لا يرث مِن المقتول شيئًا، فلو قتل الأخُ أخاه - وكان هذا الأخ وارثًا في الأصل – الأصل أنه يرث منه، لكنه لمّا قتله لأجل أنْ يستعجل الميراث منه؛ فإنه يُحْرَم مِن ذلك معاقبة له بنقيض قصده - لأنّ استعجل الشيء قبل أوانه - فيعاقب بحرمانه.

مما يدلُّ على هذه القاعدة "حديث المُحَلِّل والمُحَلَّل له"(2)، وذلك أنّ الرجل إذا طلّق امرأته الطلقة الثالثة وبانت منه بينونة كبرى لا تَحِلُّ له إلّا بأنْ ينكحها رجل ويطأها ثمّ يطلقها فتَحِلِّ للأول حينئذٍ، فبعض الناس يحتال فيأتي برجل ويتفق معه على أنْ يتزوج هذه المرأة ويطأها ثم يطلق لأجل أنْ يحللها للأول، فهذا المُحَلِّل والمُحَلَّل له كل منهما قد استعجل شيئًا قبل أوانه فعُوقبوا بالحرمان مِن ذلك؛ فلا تحلّ المرأة بهذا العمل، وأيضًا استحقوا - والعياذ بالله - اللعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فهذا كله مما يدلّ لهذه القاعدة.

مما يدلُّ لها أيضًا ما جاء في الأثر عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنّه وّرَث تُماضِر بنت الأصبغ الكلبية مِن زوجها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه - وكان عبد الرحمن رضي الله عنه قد طَلّقها في مرضه فبتّها -، يعني طلقها طلاقًا بائنًا، هذا القضاء مِن عثمان رضي الله عنه كان بمحضر مِن الصحابة رضي الله عنهم فكان إجماعًا(3)، والدلالة منه واضحة أنّ عثمان رضي الله عنه وَرَّثَ هذه المطلقة مِن زوجها مع أنّ الأصل أنّ الرجل إذا طلق امرأته طلاقًا بائنًا ثم مات لا ترث منه، لكنه في مثل هذه الحالة يحتمل أنْ يكون أراد حرمانها مِن الميراث؛ فيُعاقب بنقيض قصده، وهذا لا يَرِدُ على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ فإنه يحتمل أنه لم يعلم بحكم المسألة أو بأيّ عذر آخر، لكن المقصود هنا أنّ عثمان ورّث هذه المرأة مع كونها مطلقة طلاقًا بائنًا، فهذا يفيد للاستدلال بالمسألة.

هذه القاعدة لها عدة فروع تقدم شيئًا منها، أوضح بعض ما تقدم وهي مسألة حرمان القاتل مِن الميراث، لو قَتَلَ الولدُ أباه - عياذًا بالله - فإنه يُحرم مِن ميراثه، ولا يخفى أنّ القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قتل عمدٍ عدوان وقتل شِبْه الخطأ وقتل الخطأ.

أمّا القتل العمد العدوان وكذا شبه الخطأ فهذان يُحْرَمُ مِن الميراث بالاتفاق، إذا قتله عمدًا عدوانًا أو قتله شبه خطأ أو خطأ عمد - كلاهما بمعنى واحد - فإنه يُحْرَمُ مِن الميراث بالاتفاق.

وأمّا في قتل الخطأ؛ فهذا محل خلاف بين الفقهاء، فالجمهور على أنه أيضًا يكون مانعًا للميراث - وإنْ كان خطأً - احترازًا للنفوس وَسدًّا للذرائع التي قد توصل إلى إزهاقها، القول الثاني وهو قول المالكية أنه يرث مِن المال دون الدِّية، لأنه سيُلزم بالدِّيَة أنْ يدفعها للورثة، لا يرث مِن الدِّيَة ولكنْ يرث مِن غير الدِّيَة مِن المال، والمسألة محل خلاف، ومتى ما ابتلي فيها مَن يفتي أو مَن يقضي بين الناس فلينظر في القرائن، فبعض القرائن قد تدلُّ على أحد القولين؛ فإذا ظهر له أنّ هذا الولد لا توجد أي قرينة على استعجاله للميراث فإنه يُوَّرث، كما لو أَخَذَ الولدُ أباه وسافر به لأداء العمرة، هذا مُحْسِنٌ لوالده، ثم حصل الحادث بالسيارة، هل يمكن أنْ يَرِدَ واردٌ أنّ هذا الولد قد أراد أنْ يقتل والدَه لأجل أنْ يرث منه؟ هذا بعيد جدًا لأنه معه بالسيارة فالخطر على الجميع، المقصود أنّ الأحوال تختلف والقرائن تختلف فيجتهد في هذا القاضي أو المفتي، مِن الأمثلة أيضًا قتْلُ الموصَى له للموصِي، فلو أنّ شخصًا أوصى لآخر بمئة ألف ريال، قال: إذا مُتّ تعطون فلانًا مئة ألف، لمّا عَلِمَ ذلك الرجل أخذ ينتظر ويتحرى متى يموت هذا الموصِي، فاستعجل وقتله لأجل أنْ يحصل على هذه الوصية، فيقال: يُعامل بنقيض قصده فيُحرم مِن الوصية، أيضًا مَن سافر في نهار رمضان لأجل أنْ يُفطر فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه ولا يحلّ له الفطر، أيضًا الغالّ مِن الغنيمة، يعني أنْ يأخذ مِن الغنيمة قبل القسمة - وإنْ كان مجاهدًا! الأصل أنْ يستحق - لكنه أَخَذَ منها قبل القسمة؛ فهذا يُعامل بنقيض قصده لأنه استعجل الشيء قبل أوانه فيُحرم مِن الغنيمة.

هذا كله في أحكام الدنيا، وأيضًا هذه القاعدة أيضًا تدخل في أحكام الآخرة، فمِن ذلك قول النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» متفق عليه(4)، فهذا استعجل الشيء قبل أوانه - أعني بذلك الرجل يَحْرُمُ عليه الحرير مِن غير حاجة - فإذا استعجل ذلك قبل الأوان وهو دخول الجنة والتمتع بهذه النعمة؛ فإنه يُعاقب بالحرمان مِن ذلك يوم القيامة، أيضًا حديث: «مَن شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها؛ حُرمها في الآخرة» متفق عليه(5)، هذا أيضًا مِن الأمثلة المتعلقة بالقاعدة فيما يتعلق بالآخرة.

يُعَبّر بعض الفقهاء عن هذه القاعدة بقولهم: "المعاملة بنقيض القصد" أو يقولون "المعاقبة بنقيض القصد" أو "المعارضة بنقيض القصد" كل هذا بمعنى واحد، معنى هذه القاعدة أنّ مَن فعل الوسائل المشروعة - لاحظ أنّ الوسائل هنا مشروعة - بخلاف القاعدة قبل قليل كانت الوسائل غير مشروعة - قتْل وفعْل مُحَرّمات -، هنا مَن فعلَ الوسائل المشروعة بقصد التحايل للوصول إلى أمرٍ غير مشروع؛ فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه ولا يُعْتَدّ بهذه الوسيلة.

دليلُ هذه القاعدة قولُ الله عزّ وجلّ عن إبليس: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(6) وجه الدلالة أنّ اللهَ عزّ وجلّ عاقبَ إبليس بنقيض قصْده حيث تكبّر عن طاعة الله عزّ وجلّ وتكبّر عن السجود لآدم عليه السلام فعاقبه الله جلّ وعلا وأخرجه مِن الجنة وجعله صاغرًا ذليلًا.

أيضًا يدلُّ لهذ القاعدة قولُ الله جلّ وعلا: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا(7) فهؤلاء اتخذوا مِن دون الله جلّ وعلا آلهة لينصروهم ويكونوا عِزًّا لهم! فعاقبهم الله جلّ وعلا بنقيض قصدهم فجعل هذه الآلهة ضدًّا عليهم تتبرأ منهم وتخذلهم يوم القيامة.

مِن أمثلة هذه القاعدة: مَن باع ما ينقص به النِّصَاب مِن المال الزكويّ لأجل أنْ يتحايل لإسقاط الزكاة؛ فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه وتؤخذُ منه الزكاة، يعني شخص عنده أربعون مِن الغنم - وهذا نصاب -، واستمر هذا النِّصَاب عشرة أشهر، الآن قَرُب إخراج الزكاة، فخشي أنْ تؤخذ منه الزكاة فتحايل بذلك وباع منها واحدة، ما غرضه مِن هذا البيع؟ أنْ يسقط الزكاة، فيقال: يُعامل بنقيض قصْدِه فتجب عليه الزكاة، أيضًا مَن طلق امرأته في مرض الموت المَخُوْف طلاقًا بائنًا فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه وتوَرّث هذه المرأة كما تقدّم في أثر عثمان رضي الله عنه، لكنْ أُنَبّه هنا إلى أنّ مراد الفقهاء بالمرض المَخُوْف هو المرض الذي يحصل معه الموت كثيرًا، ولا يلزم أنْ يكون غالبًا، فإذا كان يموت الإنسان إذا مرض بهذا المرض كثيرًا؛ فإنه يكون مَخُوْفًا، وبناءً لو أنه طلق المرأة في هذا المرض المَخُوْف طلاقًا بائنًا فإنها تُوَرّث منه، لأنّ هذه قرينة على أنه أراد إسقاطَ حَقِّها في الميراث، لكنّ هذا مقيّدٌ بما إذا لم تكن المرأة هي التي أرادت الطلاق، مثلًا: لَمّا مرض هذا الشخص مرضًا مَخُوْفًا تعبت المرأة مِن مراعاته والقيام بحقه في المرض فطلبت الطلاق فطلّقها، ثم بعد يوم أو يومين مات الرجل، هنا لا نُوَرِّثُ المرأة لأنّ قصْدَ الحرمان هنا منتفٍ لأنّ الطلب جاء مِن جهة المرأة(8)، أيضًا مما يدخل في هذه القاعدة الحاسدُ، فإنّ اللهَ جلّ وعلا يُعامله بنقيض قصْده، فينقلب حسدُه عليه همًّا وغَمًّا، وقد يُظهر الله تعالى شأن المحسود عليه وينقص مِن شأن هذا الحاسد ويَحُطّ مِن مكانته معاقبة له بنقيض قصْده، يعني لا تدخل هذه القاعدة في المسائل الفقهية فقط! بل تدخل في مثل هذه الأمور المتعلقة بالقلب.

مما أختمُ به هذه القاعدة "أنّ المتعجل للمحظور يُعاقَب بالحرمان" وهذا ذكره الناظم في شرحه رحمه الله، يقول: "المتعجل للمحظور يُعاقب بالحرمان"، فمَن ترك شيئًا لله مما تهواه نفسه عوَّضَه خيرًا منه في الدنيا والآخرة، فمَن ترك المعاصي - ونفسُه تميلُ إليها - فإنّ اللهَ جلّ وعلا يُعَوِّضُه إيمانًا في قلبه وانشراحًا بل وبركة وسعةً في الرزق وغير ذلك مِن الخيرات، ولهذا جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنك لن تَدَعَ شيئًا اتقاء الله إلّا أعطاك الله خيرًا منه»(9).


(1) حسن. أبو داود (4564) مِن حديث ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا. الإرواء (1671).
(2) صحيح. الترمذي (1119) من حديث عليّ رضي الله عنه مرفوعًا. صحيح الجامع (5101).
(3) صحيح. طبقات ابن سعد (219/8). الإرواء (1721).
(4) صحيح البخاري (5830) من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا.
(5) صحيح البخاري (5575) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا.
(6) الأعراف: 13.
(7) مريم: 81 ، 82.
(8) في آخر المحاضرة بَيَّنَ الشيخ رحمه الله أنّ المرأة المقصودة في المنع مِن الميراث هي التي طلاقُها بائنٌ؛ وليست الرجعيّة!
(9) صحيح. أحمد (23074). يُنظر التعليق على حديث السلسلة الضعيفة (5).


 مواد ذات صلة: