شرح القواعد الفقهية للسعدي
قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

ويفعل البعضُ مِن المأمور ... إنْ شَقَّ فِعْلُ سائرِ المأمورِ


هذه آخر قاعدة نتكلم عليها - إنْ شاء الله - في هذا الدرس، يشير الناظم في هذا البيت إلى قاعدة معروفة عند الفقهاء وهي قاعدة "الميسور لا يسقط بالمعسور"، وهي مِن القواعد الفرعية المندرجة تحت قاعدة "المشقة تجلب التيسير"، ومعنى الميسور أي الذي يستطيعه المكلَّف - يستطيع أنْ يأتي به مِن غير مشقة -، وأمّا المعسور فهو الذي يشقُّ فعله، بعض الفقهاء يُعَبّر عنها بتعبيرات أخرى، هذا مهم أنْ تعرف تعبيرات الفقهاء فإذا مَرّت عليك لا تظن أنّ هذه القاعدة تختلف عن تلك! بل المعنى واحد، مِن تعبيراتهم "المتعذر يسقط اعتبارُه، والممكن يُستصحب فيه التكليف" ومِن عباراتهم أيضًا - بمعنى هذه القاعدة - قولهم "المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه".

ومعنى البيت أنّ الواجب إذا لم يقدر على فعله كله ولكنْ يقدرُ المكلف على فِعْلِ بعضه - مما يصح تجزؤه - فإنه لا يسقط إلّا المعسور عنه، وأمّا المقدور عليه فإنه يجب الإتيان به.

وحتى نفهم هذه القاعدة يقال: إنّ العبادات تنقسم إلى قسمين:

منها ما لا يمكن تجزؤه، فهذه إذا عجز عن بعضها سقطت العبادة كلها، ومِن أمثلة ذلك الصوم، إذا كان هنالك مريض يقول: أنا أعجز أنْ أصوم هذا اليوم، لكن يمكنه أنْ يمسك ساعتين أو ثلاث أو أربع، يمكن هذا، فهل نقول: "المعسور لا يسقط بالمعسور" فيجب عليك أنْ تمسك هذه الثلاث ساعات ثم تفطر؟ لا نقول هذا، لماذا؟ لأنّ هذه العبادة لا يمكن تجزؤها! فحينئذٍ له أنْ يفطر جميع اليوم.

القسم الثاني: ما يمكن تجزؤه، فهذا إذا عجز عن بعضه وقَدِرَ على بعضه الآخر؛ فإنه يسقط ما عجز عنه ويجب فعلُ ما قَدِرُ عليه، وهذا هو المراد بالقاعدة، وله أمثلة كثيرة منها: مَن لا يحفظ إلّا بعض الفاتحة، يحفظ الثلاث الآيات الأولى مثلًا؛ فيجب عليه أنْ يأتي بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه، أيضًا مَن عجز عن بعض أركان الصلاة دون بعض؛ فإنه يأتي بما يستطيع، إذا عجز المريض عن القيام لكنه يستطيع أنْ يسجد ويستطيع أنْ يجلس بين السجدتين وغير ذلك مِن الأركان؛ فيقال: ما عجز عنه يسقط عنه وما لا يعجز عنه يجب الاتيانُ به، ولهذا قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم لعمران بن حُصين رضي الله عنهما: «صلّ قائمًا؛ فإنْ لم تستطع فقاعدًا؛ فإنْ لم تستطع فعلى جنب»(1)، أيضًا في غسل الجنابة إذا لم يكن عنده ماء يكفي لجميع البدن وإنما يكفي لغسل بعض البدن، فإنه يقال: يجب عليك أنْ تغسل بعض البدن بهذا الماء وتتيمم بالنية عن الباقي، لأنّ "الميسور لا يسقط بالمعسور"، أيضًا مَن عليه دين وعجز عن وفاء الدين كاملًا لكنه يقدر على وفاء بعضه؛ فيجب عليه وفاء البعض، مَن عنده بعض صاعٍ في زكاة الفطر - لا يملك إلّا نصف صاع فقط -؛ نقول: يجب عليك أنْ تُخرج هذا النصف لأنّ "الميسور لا يسقط بالمعسور".

دليل هذه القاعدة قول الله جلّ وعلا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(2) وهذه الآية ظاهرة في الاستدلال، فإنّ - مما مَرّ معنا في الأمثلة السابقة - تقواه لله جلّ وعلا بحسب استطاعته أنْ يأتي بما يقدر عليه مِن هذه العبادة، إذا كان يقدر أنْ يصلي قائمًا دون أنْ يصلي جالسًا(3) فهذا قد اتقى الله جلّ وعلا ما استطاع، إذا استطاع أنْ يغسل بعض أعضاء البدن في الجنابة فهذا قد اتقى جلّ وعلا الله ما استطاع ويسقط عنه ما لا يستطيع، ومنه قول الله جلّ وعلا: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا(4)، وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا أمرتكم بأمرٍ؛ فأتوا منه ما استطعتم»(5)، وهؤلاء كلهم قد أتوا مِن الأمر بما يستطيعون.

أيضًا مما يدلُّ لهذه القاعدة قولُه عليه الصلاة والسلام: «مَن رأى منكم منكرًا؛ فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع؛ فبلسانه، فإنْ لم يستطع؛ فبقلبه، ذلك أضعف الإيمان»(6)، فإذا عجز الإنسان عن الإنكار باليد كما هو في أكثر المنكرات؛ لا يسقط عنه الإنكار باللسان إنْ استطاع، فإنْ عجز عن الإنكار أيضًا عنه بلسانه فإنه لا يسقط عنه الإنكار بقلبه ببغض هذا المنكر وكراهيته، وهذا لا يسقط عن أحد.

أقف على هذا، وأسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح، والله أعلم، وصلّى الله وسلّم على نبيبّنا محمد.

أسئلة:

- يقول: ذكرتَ أنّ المرأة التي تُطلّق بمرض الموت بطلب منها أنها لا ترث! فالسؤال: أَلَا يُفَرّق بين إنْ كان الطلاق رجعيًا فترث؛ وإنْ كان ثلاثًا لا ترث؟

المسألة مقيدة لمّا ذكرتُها، قلتُ: طلاقًا بائنًا، هذه التي تَرِد معنا، أمّا لو كان الطلاق رجعيًا كما لو طلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية فهذه بإجماع الفقهاء - ما دامت في العِدّة - فإنها ترثُ منه؛ فإنها زوجة، فإذا خرجت مِن العِدّة فإنها لا ترث منه.

- يقول: ذكرتَ مِن أنواع القتل شبه الخطأ، ولعله مِن سبْق اللسان وهو شبه العمد، لأنّ أقسام القتل: عمد وشبه عمد وخطأ.

أولًا: جزاك الله خير لأنّ سبق اللسان قد يَرِد، لكنّ الفقهاء يسمونه شبه خطأ ويسمونه شبه عمد، لأنه شبيه بالخطأ وشبيه أيضًا بالعمد، فالمسألة اصطلاحية.

- يقول: هل تُعامَل مَن استعجلتِ الحيضَ بنقيض قصْدِها في ترك الصلاة؟ ولماذا؟

يعني ماذا يريد؟ أنْ تأخذ حبوبًا مثلًا تُعَجِّلُ عليها إنزالَ الحيض؟ طيب ما قصْدُها؟ إنْ كان قصْدُها أنْ لا تصلي في هذا الوقت! فنقول: نعم، هذا وجيه، والفقهاء يذكرون مسائل شبيهة بهذا، لكنّ الغالب على المرأة أنها لا تقصد ذلك، لماذا؟ لأنّ الحيض سوف ينزل؛ سوف ينزل، إذا ما نزل في أول الشهر سينزل في الوسط؛ وإنْ لم ينزل في الوسط نزل في آخره، المقصود أنه لا بُدّ مِن نزول الحيض.

والله أعلم، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد.


(1) صحيح البخاري (1117) من حديث عمران رضي الله عنه مرفوعًا.
(2) التغابن: 16.
(3) هنا قال الشارح – حفظه الله -: "إذا كان يقدر أنْ يصلي جالسًا دون أنْ يصلي قائمًا"! والظاهر أنه سبْق لسان، والصواب ما أثبتُّه.
(4) البقرة: 286.
(5) صحيح البخاري (7288) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
(6) صحيح مسلم (49) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعًا.


 مواد ذات صلة: