شرح العقيدة الطحاوية
أنواع التوحيد ومعانيه

أنواع التوحيد ومعانيه

قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ.


نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له، هذه أول جملة في هذه العقيدة قال: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، "نقول في توحيد الله" التوحيد مصدر وحّد يوحّد توحيدا، وهو الإفراد أي انفرد، والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، "نقول في توحيد الله" يعني في جعل الله واحدا لا شريك له، نقول في توحيد الله معتقدين يعني عن عقيدة وعن شيء نجزم به، ونتيقن به، ولكن بتوفيق الله ليس بحول منا ولا قوة، ولكن الله هو الذي وفقنا لهذا الاعتقاد السليم.

نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله، يعني بتوفيق الله وإعانته لا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئا، ولا أن يعتقد شيئا، ولا أن يقول شيئا، ولا أن يفعل إلا بتوفيق الله وإعانته؛ ولهذا قال المصنف -رحمه الله-: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، أن الله واحد لا شريك له، واحد لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه، ولا في أفعاله، ولا في ألوهيته وعبادته.

ويدخل في هذه الجملة "نقول في توحيد الله" في قوله "أن الله واحد لا شريك له " يدخل في ذلك التوحيد بأنواعه الثلاثة: التوحيد توحيد الله، واعتقاد أن الله واحد لا شريك له يشمل توحيد الله، واعتقاد أنه واحد لا شريك له في ذاته، وفي ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي ألوهيته وعبادته.

والتوحيد توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: هي المعروفة عند أهل العلم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع أو هذا التقسيم ليس مأخوذا من الرأي والعقل، ما أخذه العلماء من عند أنفسهم، وإنما أخذوه من النصوص، دليلهم الاستقراء والتتبع، استقراء النصوص وتتبع النصوص دلت على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، وتوحيد الله في ألوهيته وعبادته.

إذن دليل هذا التقسيم الاستقراء والتتبع للنصوص، وكل قسم عليه دليل، وإذا كان كل قسم عليه دليل ما يكون مبتدعا كما يزعم بعض الناس يقول: هذا التقسيم مبتدع، وقال بعضهم: قال إن هذا التقسيم للتوحيد مثل تقسيم مثل التثليث عند النصارى، والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.

هذه الأقسام مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كما سيأتي، كل نوع وكل قسم عليه دليل، وهو أيضا حال الناس الموحدين لله لا تخلو من هذه الأمور الثلاثة، قد يكون الإنسان موحدا في ربوبية الله، وقد يكون موحدا في أسمائه وصفاته، وقد يكون موحدا في ألوهيته وعبادته، وقد يكون موحدا لله في ربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته، وقد يكون موحدا لله في ربوبيته ولم يكن موحدا لله في ألوهيته، فأحوال الناس تختلف.

وهذا التقسيم إنما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، استقرأ العلماء النصوص وتتبعوها فوجدوا أن هذا التوحيد أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة:

القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو إثبات حقيقة ذات الرب وأفعاله، إثبات حقيقة ذات الرب وأفعاله، بأن تعتقد أن الله واجب الوجود لذاته -سبحانه وتعالى-، وأنه هو القائم بنفسه المقيم لغيره، وأنه هو الرب مربي عباده، وأنه هو الخالق، وأنه هو المالك، وأنه هو المدبر، فلا بد من هذه الأمور، لا بد في توحيد الله في ربوبيته من هذه الأمور:

الأمـر الأول: إثبات حقيقة ذات الرب، بأن تعتقد أن الله واجب الوجود لذاته، لم يسبقه عدم، ولا يلحقه عدم -سبحانه وتعالى-، فهو واجب الوجود لذاته، بخلاف المخلوق فإن وجوده ليس واجبا ولا ممتنعا؛ لأنه لو كان واجبا لما سبقه العدم، كون العدم سبق وجود المخلوق دليل على أن وجوده ليس واجبا بل جائز، وليس ممتنعا؛ لأن الله خلقه وأوجده، فالممتنع لا يوجد فدل على أن وجوده (وجود المخلوق) وجود جائز، سبقه العدم ويلحقه العدم ويلحق حياته الضعف والنقص، أما وجود الله فهو وجود واجب لذاته لم يسبقه عدم -سبحانه وتعالى-، ولا يلحقه عدم ولا يلحق حياته نقص ولا ضعف ولا تغير ولا فساد ولا سنة ولا نوم.

ولم يتفرع من شيء، ولا يتفرع منه شيء، كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (1) فلا بد من إثبات حقيقة ذات الرب، واعتقاد أن الله واجب الوجود لذاته، لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم -سبحانه وتعالى-.

ثانيـا: الإيمان بربوبية الله واعتقاد أن الله هو الرب وغيره مربوب، فهو الرب هو رب العباد وغيره مربوب كما قال سبحانه: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) هو رب العالمين، وكل ما سوى الله عالم، والله تعالى رب هؤلاء العالم، وغيره مربوب.

ثالثـا: إثبات أن الله هو الخالق وغيره مخلوق، كما قال سبحانه: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (3) ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (4) .

رابعا: اعتقاد أو إثبات أن الله هو المالك وغيره مملوك، فهو مالك كل شيء وغيره مملوك.

خامسا: اعتقاد وإثبات أن الله هو المدبر وغيره مدبَّر، فهو مدبر الخلق وهو المحيي وهو المميت وهو الرازق وهو الرزاق، وهو منزل المطر، مسبب الأسباب، يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويخفض ويرفع، ويقبض ويبسط، فهو مدبر سبحانه وغيره مدبَّر.

بهذا يكون الإنسان وحد الله في ربوبيته، أثبت وجود الله واعتقد أن الله واجب الوجود لذاته، وأثبت ربوبية الله واعتقد أنه هو الرب وغيره مربوب، وأثبت أن الله هو الخالق وغيره المخلوق، وأثبت أن الله هو المالك وغيره المملوك، وأثبت أن الله هو المدبِّر وغيره المدبر، ومع ذلك لا يكفي هذا التوحيد في الإيمان والنجاة من النار، ولا يكون الإنسان مسلما بهذا التوحيد.

هذا النوع من التوحيد أقر به الكفار، مشركو قريش. قال الله تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (5) ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (6) يقول سبحانه: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (7) ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (8) ﴿ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (9) ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (10) .

إذن هذا النوع من التوحيد أقر به كفار قريش، ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام، بل قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واستحل دماءهم وأموالهم؛ لأنهم لم يأتوا بلازمه وهو توحيد الألوهية والعبادة.

الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو الإيمان والإقرار بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا التي ثبتت بالكتاب والسنة، والإيمان بها وإثباتها لله على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

والأسماء والصفات توقيفية ليس لأحد أن يخترع لله أسماء وصفات من عند نفسه، بل الأسماء والصفات توقيفية، ما ثبت بالكتاب والسنة أنه اسم لله أو وصف أثبتناه له، وما لم يثبت بالكتاب والسنة نتوقف لا نثبته، فلا بد من الإيمان والإقرار والعلم بما لله من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بالله -عز وجل- من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.

وهذا النوع أيضا من التوحيد أقر به كفار قريش، كانوا يقرون، كان المشركون يقرون بجنس هذا النوع، ولم يوجد عندهم منهم إنكار لشيء من الأسماء والصفات إلا في اسم الرحمن خاصة، فأنزل الله ﴿ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ (11) .

ولما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب الكتاب في صلح الحديبية وقال للكاتب: « اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل الذي صالح النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمشركين: اكتب باسمك اللهم، فإننا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم »(12) .

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: والظاهر أن إنكارهم لاسم الرحمن إنما هو من باب التعنت والعناد، وإلا فقد وجد في أشعار الجاهلية ما يثبت اسم الرحمن لله -عز وجل-، كما قال الشاعر:

وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق

فإنكارهم للرحمن من باب التعنت والعناد، ولم يعرف عنهم إنكار شيء منها من الأسماء إلا في اسم الرحمن خاصة، وهذا النوع من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات لا يكفي بالإيمان والإسلام، ولا يدخل الإنسان في الإسلام حتى يقر بلازمه، وهو توحيد الألوهية والعبادة.

يعني هذا النوع من التوحيد وهو توحيد الأسماء والصفات كالنوع السابق كتوحيد الربوبية لا يكفي في كون الإنسان مسلما مؤمنا موحدا، ولكن في نجاته من النار ودخول الجنة حتى يوحد الله في ألوهيته.

النوع الثالث: توحيد الألوهية والعبادة، وهو توحيد الله بأفعال العباد.

النوع الأول: وهو توحيد الربوبية توحيد الله بأفعال الرب، الخلق والرزق والإماتة والإحياء هذه أفعال الله، فأنت توحد الله بأفعاله هو، توحيد الله بأفعاله، توحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله.

أما توحيد الألوهية فهو توحيد الله بأفعال العباد بأفعالك أنت أيها الإنسان من صلاة وزكاة وصوم وحج وبر للوالدين وصلة للرحم، هذه أفعالك أنت وأمر بمعروف ونهي عن منكر وكف نفسك عن المحرمات تتقرب بها إلى الله، توحد الله بها بأن تتقرب إلى الله، وتخلصها لله، وتريد بها وجه الله والدار الآخرة، هذا هو توحيد العبادة.

وتوحيد العبادة هو أول دعوة الرسل وآخرها، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله، وهو أول دعوة الرسل وآخرها كما أخبر الله تعالى عن الأنبياء.

قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (13) وقال سبحانه: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (14) ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (15) ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (16) وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (17) وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (18) .

هذا التوحيد توحيد الألوهية هو أول الدين وآخره، وظاهره وباطنه، وأول دعوة الرسل وآخرها، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله، وأول ما يدخل به المسلم في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: « من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة »(19) .

وهذا التوحيد لأجله خلق الله الخليقة، ولأجله أرسل الله الرسل، ولأجله أنزل الله الكتب، ولأجله قام سوق الجهاد، ولأجله حقت الحاقة، ولأجله وقعت الواقعة، ولأجله انقسم الناس إلى شقي وسعيد، إلى كفار ومؤمنين، وهذا التوحيد هو الغاية المحبوبة لله والمرضية له، هو الغاية المحبوبة لله، والغاية التي ترضي الله -عز وجل- هذا التوحيد.

وهذا التوحيد هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الأنبياء والرسل في قديم الدهر وحديثه، الأنبياء والرسل إنما نازعهم وخاصمهم مخاصمة منهم في هذا التوحيد، بخلاف توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات فهما توحيدان فطريان قد أقر بهما جميع الخلق إلا من شذ، إلا بعض الطوائف التي شذت وانتكست فطرتها، وعميت بصيرتها.

وإلا فجميع الخلائق يقرون بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والنزاع والخصومة بين الأنبياء والرسل في هذا التوحيد، وهو توحيد الألوهية والعبادة، والتوحيد توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات هما الوسيلة والغاية تفيد العبادة والألوهية توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أن تعرف ربك، وتعلم ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله فإذا عرفت ربك عبدته، وتقربت إليه، وأخلصت العبادة له، فتوحيد الربوبية والأسماء والصفات أن تعلم ربك بأسمائه، وتعرف ربك بأسمائه وصفاته وأفعاله، تعرف معبودك ثم تعبده وتخلص له العبادة.

ومن العلماء من قسم التوحيد إلى قسمين، كشيخ الإسلام وابن القيم قالوا: التوحيد ينقسم إلى قسمين، وهذا التقسيم بالنسبة إلى الخبر والإنشاء، بالنسبة إلى الخبر والإنشاء قالوا: ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: توحيد في المعرفة والإثبات.

والقسم الثاني: توحيد في الطلب والقصد، توحيد في المعرفة والإثبات وهذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، يقال له توحيد في المعرفة والإثبات، ويقال له التوحيد القولي، ويقال له التوحيد الاعتقادي، ويقال له التوحيد العلمي الخبري.

والثاني: توحيد الإرادة والطلب وهو توحيد العبادة.

قال العلماء: إن التوحيد الأول وهو التوحيد في المعرفة والإثبات كما ذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله- وغيره هو إثبات حقيقة ذات الرب وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة الم تنزيل السجدة، وسورة الإخلاص بكمالها.

وكما في قوله -سبحانه وتعالى-: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (20) .

أول سورة الحديد فيها: ﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (21) أول سورة طه فيها: ﴿ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا(4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (22) .

أول سورة الم تنزيل السجدة كذلك: ﴿ الم(1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ (23) وهكذا سورة الإخلاص بكمالها.

والنوع الثاني: التوحيد الإرادي الطلبي مثل ما تضمنت سورة قل يا أيها الكافرون ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (24) ومثل ما تضمنته الآية الكريمة آية آل عمران: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (25) .

وكذلك أيضا ما تضمنت سورة يونس أولها وأوسطها وآخرها ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ(2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (26) .

في آخرها: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (27) .

جملة سورة الأنعام أنكر الله تعالى على المشركين شركهم: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ (28) قال بعد ذلك: ﴿ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) ثم قال: ﴿ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا (30) .

وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن متضمنة، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهذا هو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى توحيده، ونهي عن الشرك وعبادة غيره، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.

وإما خبر عن أهل التوحيد وما حصل لهم في الدنيا من النصر والعز، وما يكرمهم به في الآخرة من الثواب فهذا جزاء من حقق التوحيد، وإما خبر عن أهل الشرك وما أصابهم في الدنيا من النكسة والهزيمة، وما يكون في الآخرة وما تكون عاقبتهم وما يحصل لهم في الآخرة من العذاب والنكال، وهذا جزاء من خرج عن التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وجزاء أهله، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.

والفاتحة (سورة الفاتحة) كذلك كلها توحيد: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) توحيد ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) توحيد ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (31) توحيد ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (32) توحيد ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (33) توحيد متضمن للهداية لطريق المنعم عليهم وهم أهل التوحيد ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (34) هم الذين فارقوا التوحيد، فهذا التوحيد.

فالقرآن كله من أوله إلى آخره على هذا بهذا التفصيل كله في التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وفي شأن الشرك وأهله وجزائه، والتوحيد توحيد الربوبية نفاة الصفات أدخلوا فيه أدخلوا في هذا التوحيد نفي الصفات، المعطلة للجميع وغيرهم وقالوا: إن معنى التوحيد نفي الصفات، وقالوا: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، والواجب عندهم يسمون الله الواجب، ويسمون المخلوق الممكن. قالوا: إن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب.

ففرارا من ذلك قالوا: نفي الصفات حتى لا يكون واجب إلا واحد، إنما له سمع وبصر وعلم وقدرة صار الواجب متعددا، وهذا من أبطل الباطل، هذا من الفساد؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات والأسماء لا توجد في الخارج، لا يوجد شيء في الخارج إلا له اسم وصفة، فإذا نفيت الأسماء والصفات عن شخص فلا يمكن أن يوجد.

فإذا قلت: هناك شيء موجود لكن ليس له طول ولا عرض ولا عمق وليس فوق ولا تحت ولا خلف ولا يمين ولا شمال لا وجود له إلا في الذهن، وهؤلاء سلبوا الأسماء والصفات عن الرب، معنى ذلك أنهم لم يثبتوا ربا ولا خالقا إنما كل شيء في الذهن والعياذ بالله، وقد أفضى هذا التوحيد ببعضهم إلى أن وصلوا إلى الحلول والاتحاد -نعوذ بالله- حتى قالوا: إن الوجود واحد، وقالوا بالحلول والاتحاد، ووقعوا في شر من مذهب النصارى؛ فإن النصارى خصوا حلول الرب بالمسيح عيسى ابن مريم، وهؤلاء الجهمية الغلاة قالوا: إن الله حال في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

فلما وصلوا إلى القول بالحلول والاتحاد، وقالوا: إن الوجود واحد تفرع عن هذا التوحيد -اللي يسمونه توحيدا وهو من أعظم الشرك- تفرع عن ذلك القول بأن الوجود واحد، وقالوا: وتفرع عن هذا القول بأن فرعون على الصواب وأنه مصيب حينما قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (35) وقالوا: إن عُبّاد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله ولم يعبدوا غيره، وقالوا: لا فرق في التحريم بين الأم والأخت والأجنبية، ولا بين الزنا والخمر، ولا بين الماء والخمر، ولا بين الزنا والنكاح.

وقالوا: الكل من عين واحد، بل هو العين الواحد، ومن فروع الاتحادية قالوا: إن الأنبياء ضيقوا على الناس، وبعّدوا عليهم المقصود، والأمر وراء ذلك كله، فهذا -والعياذ بالله- سببه أن هؤلاء أعرضوا عن كتاب الله وسنة رسوله، وتركوا كتاب الله وراءهم ظهريا فتولتهم الشياطين، فقالوا هذه المقالات التي سودوا بها الأوراق، وأضلوا بها الناس، وتكلموا بالكفر الصراح -نسأل الله السلامة والعافية-.


(1) الإخلاص : 1 - 4
(2) الفاتحة: 2
(3) الرعد: 16
(4) الفرقان: 2
(5) الزخرف: 87
(6) العنكبوت: 61
(7) المؤمنون: 84 - 85
(8) المؤمنون: 86 - 87
(9) المؤمنون: 88 - 89
(10) يونس: 31
(11) الرعد: 30
(12)
(13) الأعراف: 59
(14) الأعراف: 65
(15) الأعراف: 73
(16) الأعراف: 85
(17) النحل: 36
(18) الأنبياء: 25
(19) أبو داود : الجنائز (3116) , وأحمد (5/233).
(20) البقرة: 136
(21) الحديد: 1 - 3
(22) طه: 1 - 8
(23) السجدة: 1 - 4
(24) الكافرون: 1 - 6
(25) آل عمران: 64
(26) يونس: 2 - 3
(27) يونس: 104 - 105
(28) الأنعام: 136
(29) الأنعام: 143
(30) الأنعام: 144
(31) الفاتحة: 4
(32) الفاتحة: 5
(33) الفاتحة: 6 - 7
(34) الفاتحة: 7
(35) النازعات: 24


 مواد ذات صلة: