شرح العقيدة الطحاوية
كمال قدرة الله وانتفاء العجز عنه

كمال قدرة الله وانتفاء العجز عنه

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قَالَ الْإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ" .


بسم الله الرحمن الرحيم

بعد أن ذكر الطحاوي -رحمه الله- أن عقيدة أهل السنة والجماعة في توحيد الله، وأنهم يعتقدون أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، يعني لا يماثله شيء من مخلوقاته قال: "ولا شيء يعجزه" يعتقد أهل السنة والجماعة وأهل الحق أن الله لا يعجزه شيء؛ لكمال قدرته -سبحانه وتعالى-.

كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) وقال سبحانه: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (2) وقال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (3) .

وهذا النفي وهو "ولا شيء يعجزه" يستلزم إثبات ضده من الكمال، وهكذا كل نفي ورد في الكتاب والسنة في حق الرب -عز وجل- فإنما هو لإثبات ضده من الكمال، ليس نفيا صرفا ولا محضا، بل يستلزم إثبات ضده من الكمال.

ولذا قال سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ (3) وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) فهذا النفي ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ (3) ؛ لكمال علمه وقدرته، وكما قال سبحانه: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (5) نفي الظلم لإثبات كمال ضده ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (5) ؛ لكمال عدله ﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ (6) ؛ لكمال علمه ﴿ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا (7) ؛ لكمال قوته واقتداره ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (7) ؛ لكمال حياته ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ (8) ؛ لكمال عظمته وجلاله وكبريائه.

وهكذا كل نفي يأتي في الكتاب والسنة فإنما هو لإثبات ضده من الكمال، لتضمن إثبات ضده من الكمال، لا يرد في النصوص الكتاب والسنة أن في الصرف المحض الذي لا يستلزم شيئا؛ لأن النفي المحض والصرف ليس فيه كمال؛ ولهذا يوصف المعدوم بالنفي الصرف المحض، ومن ذلك من النفي الصرف المحض قول الشاعر العربي:

قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمـون الناس حبة خردل

نفى عنهم الغدر، ونفى عنهم الظلم، لكن ليس المراد أنهم مقتدرون، بل المراد يريد ضعفهم؛ لعجزهم وضعفهم بدليل ما قبل البيت وما بعده، وبدليل أنه صغرهم بقوله قُبَيِّلَةٌ هذا التصغير للتحقير، فهم لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس؛ لضعفهم وعجزهم، وإنما يكون نفي الغدر ونفي الظلم إنما يكون كمالا إذا كان مع القدرة، أما إذا كان مع العجز فلا يكون كمالا، وكما في قول الشاعر:

لكن قومي وإن كـانوا ذوي عدد *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إسـاءة أهـل السوء إحسانا

فهو ينفي عن قومه الشر قال:

................................ *** ليسـوا مـن الشـر في شيء وإن هانا

ومع ذلك يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة- إذا ظلمهم أحد غفروا له، وإذا أساء إليهم أحد أحسنوا إليه، هذا كمال لو كانوا قادرين، لكنهم يفعلون ذلك لعجزهم بسبب عجزهم وضعفهم، فلم يكن كمالا في حقهم، هذا لا يرد في أسماء الله وصفاته، لا يرد في كتاب الله والسنة هذا النفي الصرف، إنما الذي يرد كما سمعتم النفي الذي يستلزم إثبات ضده إلى الكمال ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (5) ؛ لكمال عدله.

﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ (6) ؛ لكمال علمه لا يعجزه شيء؛ لكمال قوته واقتداره ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (7) ؛ لكمال حياته وقيوميته وهكذا.

والنصوص في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- جاءت في باب الأسماء والصفات بالإثبات المفصل وبالنفي المجمل، فالنفي في النقائص والعيوب عن الله يأتي مجملا كقوله سبحانه: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (9) ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (10) ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ (11) ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا (12) فيأتي النفي نفي النقائص والعيوب مجملا، أما الإثبات فإنه يأتي مفصلا ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (13) ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (14) .

فالأسماء والصفات إثبات الأسماء والصفات تأتي مفصلة، وهذه أسماء لله وهي متضمنة للصفات ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(22) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (15) .

هذا من الإثبات المفصل، الأسماء والصفات تأتي مفصلة، أما النفي فيأتي مجملا، أما أهل الكلام وأهل البدع فعكسوا، فإنهم يأتون بإثبات مجمل ونفي مفصل، فإنهم يأتون بنفي مفصل وإثبات مجمل، فإذا أرادوا أن يصفوا الله إذا أرادوا أن ينفوا النقائص عن الله يأتوا بالتفصيل، النفي المفصل والإثبات المجمل، فيقول ليس بذي جثة، وليس بذي أعضاء، وليس بذي لون ولا رائحة ولا طعم ولا مجثة ولا كذا ولا كذا ولا لحم ولا دم ولا عرق… إلى آخره تفصيلات بنفي النقائص والعيوب.

أما الإثبات فإنهم يأتون بإثبات مجمل، عكسوا ما دل عليه الكتاب والسنة، وهذا النفي في نفي النقائص والعيوب مع كونه مخالفا للكتاب والسنة ففيه إساءة أدب مع الله -عز وجل-، فإن الأدب والكمال أن تنفي النقائص إجمالا ولا تعددها ولله المثل الأعلى، لو أراد إنسان أن يمدح أميرا، أو ملكا، أو رئيسا فيقول له: أنت لست بزبال، ولست بحجام، ولست بكساح، ولست بكذا هذا يؤدب إذن، يؤدب ويعزر وإن كان صادقا، فهو صادق فالملك والأمير ليس بزبال ولا حجام ولا بكساح ولا جزار ولا كذا لكن هذا فيه إساءة أدب.

وإنما الكمال أن تأتي بالنفي المجمل فتقول: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأجل وأكمل، فهذا يكون مدحا، إذا كان هذا في حق المخلوق ففي حق الخالق أولى، فإذن منهج الكتاب والسنة في الإثبات والنفي أن يكون النفي مجملا، نفي النقائص والعيوب يكون مجملا، والإثبات يكون مفصلا، إثبات السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وقد يأتي النفي مفصلا للرد على أهل البدع.

لقوله -سبحانه وتعالى-: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (16) للرد على الكفرة الذين نسبوا الولد إلى الله ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (16) هذا لأجل الرد عليهم، أما أهل البدع فإنهم ينفون نفيا مفصلا ويثبتون إثباتا مجملا، فينبغي للمسلم أن يعلم ما دل عليه الكتاب والسنة، وأن يحذر طريقة أهل البدع. نعم.


(1) البقرة: 20
(2) الكهف: 45
(3) فاطر: 44
(4) النساء: 11
(5) الكهف: 49
(6) سبأ: 3
(7) البقرة: 255
(8) الأنعام: 103
(9) مريم: 65
(10) الإخلاص: 4
(11) النحل: 74
(12) البقرة: 22
(13) المائدة: 120
(14) الحشر: 23 - 24
(15) الحشر: 22 - 24
(16) الإخلاص: 3


 مواد ذات صلة: