شرح العقيدة الطحاوية
اتصاف الرب تعالى بصفات الكمال أزلا وأبدا

اتصاف الرب تعالى بصفات الكمال أزلا وأبدا

قَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا .


ما زال بصفاته قديما قبل خلقه لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته وكما كان بصفاته أزليا كان بصفاته أبديا المعنى: أن الله -سبحانه وتعالى- لم يزل متصفا بصفات الكمال، صفات الذات، وصفات الفعل لم يزل -سبحانه وتعالى- متصفا بها، ولم يكن فاقدا لشيء منها في وقت من الأوقات، ومتصف بصفات الكمال قبل خلقه وبعد خلقه، والصفات تنقسم إلى قسمين: صفات الذات وصفات الأفعال، وصفات الذات ضابطها هي التي لا تنفك عن الباري كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر.

وصفات الأفعال ضابطها هي التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، كالنزول والاستواء والإحياء والإماتة والقبض والبسط والرضا والغضب والكراهة والسخط إلى غير ذلك من صفات الأفعال.

وصفات الأفعال عند أهل العلم، وعند أهل الحكمة حقا يقولون: إن قديمة النوع حادثة الآحاد يعني نوعها قديم وإن كانت حادثة، مثلا الكلام قديم النوع، نوع الكلام قديم لكن أفعاله حادثة، فالله تعالى يكلِّم رسله، يكلم أنبياءه، يكلم الناس يوم القيامة، ويكلم آدم، ويكلم أهل الجنة.

أفراد الكلام حادثة، وإن كان نوع الكلام قديما، هذه صفات الأفعال، قديمة النوع حادثة الأفعال، والرب -سبحانه وتعالى- لم يزل متصفا بصفاته، ولم تحدث له صفة من الصفات بعد خلقه، بل كان متصفا بصفة الكمال أزلا وأبدا؛ لأن هذه الصفات صفة كمال، ولا يمكن أن يكون فاقدا لهذا الكمال في وقت من الأوقات.

ولأن فقدها نقص، ولا يمكن أن يتصف الرب بالنقص في أي وقت من الأوقات، ولا يرد على هذا صفات الأفعال مثل الكلام والاستواء والتصوير والطيّ والقبض والبسط والنزول، إلى غير ذلك؛ لأنها قديمة النوع حادثة الآحاد، قديمة النوع حادثة الآحاد، وأراد المصنف الطحاوي -رحمه الله- الرد على أهل الكلام مثل الجهمية والمعتزلة ومَن وافقهم من الشيعة، الذين يقولون: إن صفات الأفعال كانت ممتنعة عن الرب -سبحانه وتعالى-.

كان الرب لا يتكلم ولا يفعل يقولون، الجهمية والمعتزلة ومَن وافقهم من الشيعة يقولون: كان الرب لا يتكلم ولا يفعل، هناك فترة ليس هناك كلام ولا فعل، بل إن الكلام والفعل ممتنع عن الرب، ثم انقلب فجأة فسار الكلام والفعل ممكنا، انقلب من الامتناع إلى الإمكان، الإمكان معناه القدرة، القدرة على الشيء، والامتناع معناه عدم إمكان وجود الكلام والفعل.

قالوا: إن الرب لا يقدر على الكلام، ولا على الفعل أولا، ثم انقلب فجأة فصار ممكنا، هذا من أبطل الباطل، ووافقهم ابن كُلَّاب، عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب في أن صفات الأفعال كذلك كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة إلا الكلام.

والكلام عنده متعلق بصفة الرب، لا يتعلق بقدرة ومشيئة، متعلق بذات الرب لا يتعلق بقدرة ومشيئة، وهذا كلام باطل.

هذا مذهب هؤلاء أهل الكلام وأهل البدع وأهل الباطل، وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب -سبحانه وتعالى- لم يزل متكلما، ولم يزل فاعلا إلى ما لا نهاية؛ لأن الرب فعَّال قال -سبحانه وتعالى- ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (1) .

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (2) وقال سبحانه: ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (3) وقال سبحانه: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (4) وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (5) .

فهذه النصوص تدل على أن الرب فعَّال، وكل حي فعَّال، والفعل صفة كمال، فلا يمكن أن يكون فاقدا لهذا الكمال في وقت من الأوقات.

قال بعض أهل العلم: لا بد أن يوجد فترة ليس فيها كلام ولا فعل، هناك فترة ما فيها كلام ولا فعل. قالوا: لأننا لو قلنا إن الكلام متسلسل، والفعل متسلسل معناه: انسدَّ علينا طريق إثبات الصانع، وهو الله فلا ندري هل هذه الأفعال أو الحوادث سابقة لله أو هو سابق عليها؟.

فلا بد في إثبات أن الله هو الأول لا بد أنه فيه فترة ما فيه كلام ولا فعل، ثم بعد ذلك يأتي الكلام والفعل حتى يكون الله هو الأول.

هذه شبهتهم.أهل السنة ردوا عليهم وقالوا من وجوه:

الوجه الأول: أن إثبات الفترة التي ليس فيها كلام، ولا فعل لا دليل عليها.

لا دليل على أن هناك فترة لا يتكلم فيها الرب.

ثانيا: أن إثبات هذه الفترة تعطيل للرب من الكمال والرب فعال، فعَّال لما يريد، فلا يمكن أن يكون فاقدا لهذا الكمال في وقت من الأوقات.

ثالثا: أن قولكم: إن الكلام والفعل كان ممتنعا على الرب ثم انتقل فجأة فصار ممكنا، ما الذي جعله ينقلب من الامتناع إلى الإمكان إذا كان الرب فعَّالا وكان الرب كاملا -سبحانه وتعالى- وكان له الكمال ولم يتجدد له شيء فما الذي جعل الكلام والفعل ممتنعا ثم جعله ممكنا؛ ولأنه ما من وقت يقدر، الإمكان، ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله إلى ما لا نهاية.

فلا تستطيعون أن تحددوا وقتا يكون بدءا للفعل والإمكان، وثالثا أنه يلزمكم على هذا أن العالَم ليس حادثا، والعالَم حادث، والحادث ممكن، والمعنى ممكن أنه يجوز أن يوجد، ويجوز ألا يوجد إذا أراد الله إيجاده أوجده، وإذا لم يرد فلا إذا أراد الله شيئا من خلقه وُجدوا إذا لم يرد لا يوجد.

وقولكم: إن الرب هو الأول، نعم إن الرب هو الأول الذي ليس قبله شيء، وكون الحوادث متسلسلة في المستقبل لا يمنع أن يكون الله هو الأول؛ لأننا نقول: كل فرد من أفراد الحوادث مسبوق بالعدم موجود بإيجاد الله له كل فرد من أفراد الحوادث والمخلوقات مسبوق بالعدم، والله تعالى أوجده بعد أن كان معدوما.

وإذا وصفنا بهذا الوصف لا يلزم هذه الفترة. فنقول: الحوادث متسلسلة في الأزل في الماضي إلى ما لا نهاية.

وأيضا من الردود أنكم خالفتم النصوص فإن النصوص فيها أن الرب فعَّال ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (2) ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (1) ﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (3) .

ولأنكم بهذا تنقصتم الرب -سبحانه وتعالى- حيث نفيتم عنه صفة الكمال، وهو الفعل والكلام، وهذه تسمى مسألة تسلسل الحوادث.

الحوادث: المخلوقات، النبات، الحيوان، الأشجار، والطيور والحيوانات والسماوات والأرضين... إلى غيرها تسمى حوادث هذه هي الحوادث المتسلسلة.

قال أهل السنة: الحوادث متسلسلة في الماضي بمعنى أن الرب لم يزل يفعل ويخلق خلقا بعد خلق إلى ما لا نهاية في الأزل، ولكن كل فرد من أفراد هذه المخلوقات مسبوق بالعدم، موجود بإيجاد الله له، ليس له من نفسه وجود ولا عدم، الله أوجده بعد أن كان معدوما.

كل فرد من أفراد... أما نوع الحوادث فهو متسلسل إلى ما لا نهاية، كما أن الحوادث متسلسلة في المستقبل إلى ما لا نهاية، فكما أن تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الله هو الآخر فكذلك تسلسلها في الماضي لا يمنع أن يكون الله هو الأول؛ لأن الحوادث متسلسلة في المستقبل بالاتفاق حتى أهل البدع وافقوا على أن الحوادث متسلسلة في المستقبل؛ لأن الله لا يزال يُحْدِث لأهل الجنة نعيما بعد نعيم إلى ما لا نهاية.

والمقصود أن معنى الحوادث متسلسلة، الحوادث: يعني المخلوقات، متسلسلة يعني مستمرة.

الصور العقلية التي يتصورها العقل أربع صور:

الصورة الأولى: الحوادث متسلسلة في الماضي وفي المستقبل.

الصورة الثانية: الحوادث غير متسلسلة لا في الماضي ولا في المستقبل.

والصورة الثالثة: الحوادث متسلسلة في المستقبل لا في الماضي.

الصورة الرابعة: الحوادث متسلسلة في الماضي لا في المستقبل.

هذه صور عقلية، ثلاث صور قال بها الناس، وصورة لم يقل بها أحد، الحوادث متسلسلة في الماضي وفي المستقبل هذا قول أهل السنة والجماعة، وهذا هو الصواب والذي تدل عنه النصوص.

الحوادث غير متسلسلة لا في الماضي ولا في المستقبل هذا قول جهم بن صفوان والحذير بن علاف، وأنكر عليه ذلك أهل السنة وبَدَّعُوه وصاحوا به.

الحوادث متسلسلة في المستقبل دون الماضي هذا قول كثير من أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة.

الحوادث متسلسلة في الماضي لا في المستقبل ما قال به أحد، صورة عقلية ما قال بها أحد. تكون الصور أربع. ثلاث صور قال بها أحد وصورة لم يقل بها أحد.

يقول الشيخ الطحاوي -رحمه الله-: "مازال من صفاته القديم قبل خلقه" أراد بذلك الرد على أهل الكلام وأهل البدع الذين يقولون: إن الحوادث غير متسلسلة في الماضي، وإن هناك فترة عطلوا فيها الرب عن الكلام والفعل.

ولهذا قال لهم أهل السنة: ما الفرق بين تسلسل الحوادث في الماضي وفى المستقبل أنتم وافقتم على أن الحوادث متسلسلة في المستقبل، وأن الرب لا يزال يزيد أهل الجنة نعيما إلى نعيم، إلى ما لا نهاية، وهذا لا يمنع أن يكون سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، وكذلك تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ لأننا نقول كل فرد من أفراد الحوادث مسبوق بالعدم مخلوق بعد أن لم يكن أوجده الله بعد أن كان معدوما، ويكفينا ما نذكر فترة...

ونقول: نوع الحوادث متسلسل ومستمر في الماضي كما أن نوع الحوادث متسلسل ومستمر في المستقبل.

والصفات -كما سبق- الذاتية والفعلية ثابتة للرب -سبحانه وتعالى- بخلاف أهل البدع، فإنهم أنكروا الصفات الذاتية والفعلية كالجهمية والمعتزلة، وأما الكُلابية فإنهم أثبتوا الصفات الذاتية وأنكروا الصفات الفعلية فتكون المذاهب ثلاثة:

أهل السنة أثبتوا الصفات الذاتية والفعلية. أهل البدع من الجهمية والمعتزلة نفوا الصفات الذاتية والفعلية، عبد الله بن سعيد كلاب زعيم الكلابية أثبت الصفات الذاتية، ونفى الصفات الفعلية وشبهته في ذلك يقول: لئلا تحل الحوادث بذات الرب يسمونها مسألة حلول الحوادث. يقولون: (الكلابية والأشاعرة):

لو أثبتنا الصفة الفعلية من الغضب والرضا والكراهة والسخط والقبض والبسط والإحياء والإماتة والخفض والرفع والطي والاستواء والنزول لَلَزِمَ من ذلك حلول الحوادث بذات الرب، والله منزه عن حلول الحوادث.

قال أهل السنة: ما مرادكم بحلول الحوادث؟ هذا القول وهو حلول الحوادث قول مُجْمَل لا بد فيه من التفصيل، إن أردتم بحلول الحوادث أن الله يحل في بذاته شيء من مخلوقاته هذا ما حصل فالله -سبحانه وتعالى- لا يحل في ذاته شيء من مخلوقاته.

وإن أردتم بأن الله تجدد له صفات لم يكن متصفا بها خلقها لنفسه أو سماه بها الناس فهذا باطل، وإن أردتم بحلول الحادث نفي أن يكون الله يغضب ويرضى ويكره ويسخط، ويستوي، ينزل كما يشاء، ويكون متصفا بالاستواء، بالنزول، بالطي، بالقبض والبسط والخفض والرفع، هذا باطل هذه المعاني.

وهذه الصفات ثابتة لله ولا ننفيها عن الله بتسميتكم إياها بأنها حلول الحوادث، بل نقول: هذه الصفة ثابتة لله وقولكم: إن تسميتكم لها بحلول الحوادث هذا باطل.

ويتبع هذا البحث مسائل: المسألة الأولى الصفة، هل هي زائدة على الموصوف أو غير زائدة، وهل الصفة غير الموصوف أو الصفة هي الموصوف؟ هل الصفة زائدة على الموصوف أو غير زائدة؟ وهل الصفة غير الموصوف أو ليست غيرها؟ والجواب أن هذا مفهوم مجمل لا بد فيه من التفصيل فلا يقال: إن الصفة غير الموصوف، ولا يقال: إنها هي الموصوف، ولا يقال: الصفة زائدة على الموصوف، ولا يقال غير زائدة بل لا بد من التفصيل، بل يقال: إن أردتم بذلك أن الرب -سبحانه وتعالى- له ذات منفصلة عن الصفة فهذا قول باطل.

قول الصفة غير الموصوف، وأن ذات الرب -سبحانه وتعالى- غير متصفة بالصفات، وأن هناك ذات مجردة منفصلة عن الصفات فهذا باطل.

وإن أردتم أن الصفات لها معنى يفهم منها غير ما يفهم من الصفات فهذا صحيح، لكن ليس هناك ذات منفصلة عن الصفات، بل الذات لا بد أن توصف بالصفات، فليس هناك ذات مجردة إلا في الذهن.

فإن أردتم أن هناك ذاتا مجردة منقطعة عن الصفات فهذا باطل فلا يقال: إن الصفات غير ذلك، وإن أردتم أن الذات متصلة بالصفات فهذا معنى صحيح.

وهناك فرق بين أن يقال: الصفات غير الذات وبين أن يقال: الصفات غير الله، فالقول بأن الصفات غير الله باطل؛ لأن الله -تعالى- لأن اسم الله اسم له -سبحانه وتعالى- متصف بصفاته اسم للذات المقدسة لأسمائه وصفاته، أما الصفات غير الرب -سبحانه وتعالى- نعم الصفات لها معان غير معنى الذات.

أما الرب، فلا يقال إن الله، إن صفات الله غير الله، ما يقال: إن صفات الله غير الله؛ لأن الله -تعالى- اسم الرب -سبحانه وتعالى- اسم الله، اسم لذاته -سبحانه وتعالى- متصفا بالصفات؛ ولهذا استعان النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصفات: « أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر »(6) « أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق »(7) ولا يعوذ بمخلوق عليه الصلاة والسلام « اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك »(8) « وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي »(9) استعان بالعظمة « أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات »(10) هذا استعانة بالله، فالصفات لا تنفصل عن الذات.

فالله -تعالى- هو الذات المقدسة المتصفة بالصفات، فالله -تعالى- بذاته وصفاته وأسمائه هو الخالق وغيره مخلوق، فإن أريد أن هناك ذات منفصلة مجردة عن الصفات فهذا باطل، وأن أريد أن الذات متصلة بصفاتها، نعم فهذا صحيح.

وكذلك أيضا من المسائل: المسألة الثانية: قولهم: الاسم. هل الاسم غير المسمى أو عين المسمى؟ هل الاسم هو المسمى أو غير المسمى؟ يقولون: اسم الله هل هو المسمى أو غير المسمى؟ أيضا فيه تفصيل، فلا يقال: إنه هو المسمى، ولا يقال غير المسمى بل فيه تفصيل، فإن أريد الاسم هو المسمى تارة يراد بالاسم المسمى، كما تقول: قال الله كذا كما تقول: سمع الله لمن حمده.

فالاسم يراد به المسمى، وتارة يراد به اللفظ الدال على المسمى، كما تقول الله اسم عربي والرحمن اسم عربي، الرحمن اسم من أسماء الله، هذا مراد اللفظ الدال على المسمى، أما إذا قال الله، سمع الله لمن حمده فالاسم يراد به المسمى فلا بد من التفصيل في هذه المسائل.

وكذلك قولهم: الصفة لا هي غير الموصوف، ولا هي عين الموصوف. أيضا له معنى الصفة لا هي غير الموصوف ولا عين الموصوف. ليست غير الموصوف؛ لأنه لا يوجد في الخارج ذات إلا متصل بالصفات، ولا هي عين الموصوف؛ لأن الصفة لها معنى غير معنى الذات.

وعلى كل حال فهذه المباحث مباحث عظيمة، ولولا أن أهل الكلام وأهل البدع تكلموا بالكلام الباطل لما تكلم أهل العلم بذلك، ولكن إن كان السلف والسابقون كانوا في عهدهم ذلك، لكن لما تكلم أهل البدع بالكلام الباطل وملئوا بها الأوراق والكتب، اضطر أهل العلم إلى رد الكلام الباطل.

ومن ذلك قول الطحاوي -رحمه الله-: "إنه لم يزل متصفا بصفاته قبل خلقه، وكما كان في صفاته أزليا كذلك لم يزل بصفاته أبديا".

المعنى أن الله -تعالى- متصف بصفاته بالأزل إلى ما لا نهاية في القدم فهو الأول -سبحانه وتعالى- بذاته وصفاته ليس قبله شيء، وهو الآخر -سبحانه وتعالى- ليس بعده شيء.

ما زال في صفاته قديما قبل خلقه. قلنا: إن مذهب أهل السنة والجماعة أن الرب -سبحانه وتعالى- لم يزل متصفا بصفاته الذاتية والفعلية، وأن الرب لم يزل فعالا؛ لأن الفعل من كمال ذاته المقدسة، والرب لم يزل يفعل، ويخلق الخلق من بعد خلق، إلى ما لا نهاية في الأزل.

ولا ينفي أن يكون -سبحانه وتعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، فهو الأول ليس قبله شيء، ولكنه -سبحانه وتعالى- متصف بصفات الكمال، والفعل صفة الكمال ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (3) .

فلم يزل يفعل، ويخلق بعد خلقه؛ لأن نوع الحوادث دائمة في الماضي، كما أنها دائمة في المستقبل، وهذا ما يسمى بتسلسل الحوادث في الماضي، ولكن كل فرد من أفراد هذه الحوادث والمخلوقات مسبوق بالعدم، كائن بعد أن لم يكن، وليس لها من نفسها وجود أو عدم، بل الله يوجدها بعد أن كانت معدومة.

والله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهي موجودة باختياره -سبحانه وتعالى- وإرادته، وليس هناك فترة يعطل فيها الرب، هذا هو قول أهل السنة والجماعة الذي تشهد له النصوص.

أما أهل الكلام كالجهمية والمعتزلة وغيرهم فأثبتوا فترة عطلوا فيها الرب عن الفعل والكلام، وزعموا بذلك أنهم يريدون أن يثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وأنه إذا قيل: إن الحوادث متسلسلة ودائمة في الماضي يذهب بذلك أن لا يكون الله هو الأول.

وهذا باطل؛ فإن أهل الكلام يثبتون فترة يعطلون فيها الرب، وأهل السنة لا يثبتون فترة، ويقولون إن الحوادث متسلسلة ودائمة، لكنها مخلوقة بعد أن لم تكن، خلقها الله بإرادته واختياره.

أما مذهب الفلاسفة كأرسطو والفارابي وابن سينا وغيرهم من الفلاسفة المتأخرين، وهم الذين يسمون الفلاسفة الإلهيين، فإنهم قالوا: إن المخلوقات والحوادث مقارنة للرب، ملازمة له في الأزل وفي الأبد.

قالوا: إنها مقارِنة للرب، فلم يثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، بل قالوا: إنها مقارنة له في الزمان، فهذه المخلوقات مقارنة له في الزمان، هذا أزلا وأبدا، وهي لازمة له، لا يستطيع الانفكاك عنها، ليست مخلوقة باختياره وإرادته، بل هي لازمة له أزلا وأبدا؛ لأنه علتها، وهي المعلولة، وتقدمه عليها إنما هو كتقدم العلة للمعلول، وهي لازمة له كلزوم النور للسراج والمصباح، لا يستطيع الفكاك عنها، فهي لازمة له أزلا وأبدا.

ولم يثبت أرسطو وجودا لله إلا من جهة كونه مبدأ للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك، بل هذه الكثرة وهذه المخلوقات مبدؤها الله، أي كأنه جزء منها -أعوذ بالله-، وهو العلة لها، محرك لها.

كفرهم العلماء، كفرهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وقال: أنتم أنكرتم أن يكون الله متقدما في الزمان، وأنكرتم أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، حينما قلتم: إن الحوادث والمخلوقات مقارنة للرب في الزمان، أنكرتم أن يكون الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، ولم تثبتوا أن هذه الحوادث مخلوقة لله بقدرته ومشيئته، وقلتم: إنها لازمة له أزلا وأبدا، فأنكرتم تقدمه في الزمان، فكانوا بذلك كفارا.

ثم ناقش العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ناقشوا أهل البدع -أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة- قالوا: أنتم خالفتم الفلاسفة، فأثبتم فترة حتى تثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، ولم تقولوا كقول الفلاسفة: إن المخلوقات مقارِنة لله في الزمان.

لكنكم حينما أنكرتم العلو -علو الرب على خلقه واستواءه على العرش- وقلتم: إن الله مختلط بالمخلوقات، على قول بعض الجهمية، أنكروا العلو والاستواء، وقالوا: إنه مختلط بالمخلوقات -تعالى الله عما يقولون-.

وقال بعضهم، ونفى بعضهم عنه الوصفين المتقابلين فقالوا: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايز له، ولا متصل به، ولا منفصل عنه.

فالجهمية الأولى قالوا بالحلول -بحلول الرب-، والجهمية المتأخرون قالوا بنفي النقيضين: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايز له، ولا متصل به ولا منفصل عنه. ماذا يكون؟ عدم، بل ممتنع، فالطائفتان -الجهمية الأولى والثانية- كلاهما لم يثبت أن الله فوق المخلوقات، وأنه مستو على العرش، بائن من خلقه.

قال شيخ الإسلام: أنكرتم أن يكون الله متقدما في المكان، فلم تثبتوا أن الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، كما أن الفلاسفة أنكروا تقدم الله في الزمان، وأن يكون هو الأول الذي ليس قبله شيء، فأنتم أنكرتم تقدم الله في المكان، فلم تثبتوا أن الله فوق المخلوقات، فصرتم بهذا مماثلين للفلاسفة.

الفلاسفة أنكروا تقدم الله في الزمان، فلم يثبتوا أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وأنتم أنكرتم تقدم الله في المكان، فلم تثبتوا أن الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والله تعالى وصف نفسه بهذه الصفات الأربع، وبهذه الأسماء الأربعة متقابلة: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) .

ففسرها النبي -صلى الله عليه وسلم-: فسر الأولية بنفي تقدم شيء عليه، وفسر الآخِر بنفي أن يكون بعده شيء، وفسر الظاهر بنفي أن يكون فوقه شيء، فقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: « اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء »(12) .

فما الفرق بين كفركم وكفر الفلاسفة؟ الفلاسفة كفروا لأنهم أنكروا تقدم الله في الزمان، وأنتم كفرتم لأنكم أنكرتم تقدم الله في المكان.

فهذه فائدة مهمة في بيان ما عليه أهل البدع من الجهمية والمعتزلة، في إنكراهم علو الله على عرشه، وأنه مماثل لإنكار الفلاسفة، فالفلاسفة أنكروا تقدم الله في الزمان، وهؤلاء أنكروا تقدم الله في المكان.

المسألة الثانية: سبق في مسألة "هل الصفات زائدة على الذات أو ليست زائدة؟" وقلنا: إنه يفرق بين صفات الله وصفات غيره، فغير الله يقال إن الصفة زائدة على الذات، بمعنى أن لها معنى غير معنى الذات، وإن كان لا يتصور أن هناك ذاتا منفصلة عن الصفات، لكن يفهم من معاني الصفات ما لا يفهم من الذات، فإن أريد أن هناك ذاتا مجردة فهذا ليس بصحيح، وإن أريد أن الصفات لها معنى غير معنى الذات فهذا صحيح.

أما الله -سبحانه وتعالى- فلا يقال: إن صفاته غير ذاته، بل الله -سبحانه وتعالى- بذاته وصفاته هو الله، الله بذاته وصفاته، مسمى الله يدخل فيه الذات والصفات، فلا يقال: إن الصفات غير الذات، فلا يقال: الله وعلمه الله وقدرته.

ولهذا أنكر الإمام أحمد -رحمه الله- في الرد على الجهمية -كتاب الرد على الزنادقة- على أهل البدع لما قالوا: الله وقدرته، الله وعلمه، الله ونوره. قال: لا نقول هذا، لا نقول الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره. بل نقول: الله بعلمه وقدرته ونوره، هو الحي الذي لا إله إلا هو، هو الله لا إله إلا هو بعلمه وقدرته. ولا نقول: الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره؛ لأن الواو تفيد المغايرة، بل نقول: الله بعلمه وقدرته ونوره، هو الله الذي لا إله إلا هو.


(1) آل عمران: 40
(2) البقرة: 253
(3) هود: 107
(4) الكهف: 109
(5) لقمان: 27
(6) مسلم : السلام (2202) , والترمذي : الطب (2080) , وأبو داود : الطب (3891) , وابن ماجه : الطب (3522) , وأحمد (4/217) , ومالك : الجامع (1754).
(7) مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي : الدعوات (3437) , وابن ماجه : الطب (3547) , وأحمد (6/409) , والدارمي : الاستئذان (2680).
(8) مسلم : الصلاة (486) , والترمذي : الدعوات (3493) , والنسائي : التطبيق (1130) , وأبو داود : الصلاة (879) , وابن ماجه : الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك : النداء للصلاة (497).
(9) النسائي : الاستعاذة (5529) , وأبو داود : الأدب (5074) , وابن ماجه : الدعاء (3871) , وأحمد (2/25).
(10)
(11) الحديد: 3
(12) مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) , والترمذي : الدعوات (3481) , وأبو داود : الأدب (5051) , وابن ماجه : الدعاء (3831) , وأحمد (2/536).


 مواد ذات صلة: