شرح العقيدة الطحاوية
وإن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى

وإن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى

قال -رحمه الله-: وإن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى .

قال -رحمه الله-: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى .


وإن "وإن محمدا" إن عطف على قوله: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له". فالصواب "إن" كما سبق؛ لأن "إن" تكسر بعد القول. تقرأ الجملة الأولى: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، وإن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى" هذه معطوفة عليه، إن محمدا" معطوفة على "إن الله وحده لا شريك له". تقرأ الجملة الأولى علشان نصحح الخطأ الذي سبق قبل ليلتين، و"إن" مكسورة، تكسر بعد القول ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ (1) ﴿يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (2) ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (3) . نعم.

نعم، عطف إثبات النبوة على إثبات التوحيد "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له". هذا إثبات التوحيد: توحيد الله في ربوبيته، وفي أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي ألوهيته وعبادته.

ثم قال: "وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى". المجتبى والمصطفى والمرتضى متقاربة، يعني أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي العربي المكي ثم المدني هو رسول الله، عبد الله ورسوله، اجتباه الله، واصطفاه، وارتضاه، واختصه بالرسالة والنبوة -عليه الصلاة والسلام-، واصطفاه على العالمين.

لا بد من الإيمان بهذا: بأن محمدا رسول الله، عبد الله ورسوله، وأنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده، وأنه أفضل الأنبياء.

من لم يؤمن بهذا، وأنه رسول الله إلى العرب والعجم، والجن والإنس، من لم يؤمن بهذا فليس بمؤمن، ولو زعم أنه يوحد الله، وأنه يعبد الله، وأنه يوحد الله في ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو لا يشهد أن محمدا رسول الله لا يصح إيمانه ولا توحيده، ولو قال زعم أنه يشهد أن لا إله إلا الله، ولكنه لا يشهد أن محمدا رسول الله لم يصح التوحيد، يكون كافرا.

شهادتان لا تصح إحداهما بدون الأخرى: من شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمدا رسول لم تقبل منه، ومن شهد أن محمدا رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، لا بد من الشهادتين.

وإذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى، إذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى، وإذا اجتمعتا تُفسر الشهادة الأولى بتوحيد الله، والثانية الشهادة برسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ولهذا نفى الله الإيمان عن أهل الكتاب: اليهود والنصارى؛ لأنهم لم يشهدوا أن محمدا رسول الله، وإن كانوا يزعمون أنهم مؤمنون بالله.

قال الله تعالى في سورة براءة: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (4) .

نفى عنهم الإيمان؛ لأنهم ما آمنوا بمحمد، ما شهدوا أن محمدا رسول الله، وإن كانوا يزعمون أنهم آمنوا بالله، وأنهم يعملون بكتبهم، لكن هذا الإيمان، الإيمان نفي عنهم، ما صح ولا اعتبر إيمانا؛ لأنهم لم يشهدوا أن محمدا رسول الله، فلا بد من الشهادة بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العربي المكي ثم المدني أنه رسول الله حقا، وأنه عبد الله ورسوله.

وقد جمع الله له بين العبودية والرسالة، وهذه أفضل المقامات، أكمل المقامات -مقامة العبد- العبودية والرسالة، وكلما حقق الإنسان العبودية لله كلما علت درجته ومرتبته عند الله.

ولا يمكن أن يخرج أحد عن العبودية أبدا، فالناس -بل جميع المخلوقات- معبدة لله العبودية العامة، قال سبحانه: ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (5) كل من في السموات والأرض يأتي معبدا، هذه العبودية العامة، ومعناها أن كل مخلوق تنفذ فيه مشيئة الله وقدرته وإرادته، لا يمتنع.

وأما العبودية الخاصة، فهذه خاصة بالمكلفين الذين يعبدون الله باختيارهم، يعبدون الله ويوحدونه من الجن والإنس والملائكة، هذه العبادة خاصة، وأكمل المقامات للنبي -صلى الله عليه وسلم- هي العبودية الخاصة والرسالة.

ولهذا وصف الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- في أشرف المقامات بالعبودية والرسالة، وصف الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات.

والرسول -عليه الصلاة والسلام- أكثر الناس عبودية لله -عز وجل-، مقام العبودية هو أكبر المقامات، ولا يخرج أحد عن عبودية الله، وكلما حقق الإنسان عبوديته لله كلما علت درجته ومرتبته.

ولما كان الأنبياء أكثر الناس عبودية لله كانوا أفضل الناس وأقرب الناس إلى ربهم -عز وجل-.

ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس في عبوديته؛ ولهذا وصفه الله بالعبودية في المقامات الشريفة:

وصفه بالعبودية في مقام الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (6) .

وصفه بالعبودية في مقام الدعوة إلى الله: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (7) .

وصفه بالعبودية في مقام الوحي: ﴿ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (8) .

وصفه بالعبودية في مقام التحدي: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (9) .

فهذه أكمل المقامات، أشرف المقامات، وصف الله نبيه محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية، وهو أكمل الناس تحقيقا للعبودية -عليه الصلاة والسلام-، وهو أعبد الناس، وأتقى الناس، وأزهد الناس، وأخشع الناس، وأكرم الناس -عليه الصلاة والسلام-، وأكرم الناس، وأطوع الناس لربه -عز وجل-.

والنبوة في ثبوتها كلام للناس، كثير من أهل الكلام والنظر، كثير من أهل الكلام ومن أهل النظر يثبتون النبوة بالمعجزات، فيرون أن المعجزات هي الدليل على النبوة.

والمعجزات لا شك أنها من دلائل النبوة، لكن ليست دلائل النبوة محصورة في المعجزات، بل دلائل النبوة كثيرة، دلائل تدل على نبوة النبي كثيرة، منها المعجزات، وخوارق العادات التي يجريها الله على يد النبي، مثل الإسراء والمعراج.

وكذلك من أعظم المعجزات أيضا القرآن الكريم من دلائل نبوته -عليه الصلاة والسلام-، ومنها نبع الماء بين أصابعه -عليه الصلاة والسلام-، وتكثير الطعام، إخباره عن المغيبات، ما يخبره الله -عز وجل- من دلائل نبوته.

هذه من دلائل النبوة -المعجزات-، ولكن هناك أيضا دلائل كثيرة، حتى ألف العلماء مؤلفات كدلائل النبوة للبيهقي وغيره.

والناس يعرفون الصادق من الكاذب في أمورهم وأمور دنياهم، والنبوة يدعيها أصدق الناس، ويدعيها أكذب الناس، والناس يفرقون بين الصادق وبين الكاذب.

يعرفون الصادق من الكاذب في أخباره وأقواله وأفعاله، فلا بد أن يقول للناس كلاما، ولا بد أن يخبرهم بأخبار، ولا بد أن يفعل أشياء، فيعرف الناس الصادق من الكاذب.

بل إن الناس يعرفون الصادق من الكاذب في غير دعوى النبوة، فأنت تعرف الصادق من الكاذب في بيعه وشرائه، تعرف المهندس الصادق، تعرف الطبيب الصادق الناصح؛ ولهذا تجد بعض الناس يشترى من فلان لأنه صادق، ولا يشتري من فلان لأنه كاذب.

فإذا كان هذا في أمور الناس، يعرفون الصادق من الكاذب، فكيف لا يُعرف الصادق من الكاذب في دعوى النبوة؟!

فالنبي يعرف الناس صدقه فيما يخبر به من الأخبار، وبما يفعله من أمور كلها مشتملة على علوم وأحوال يتبين بها صدقه، فصدق النبي ووفائه ومطابقة أقواله لأفعاله دليل على نبوته.

ومن أمثلة ذلك: استدلال خديجة، استدلال خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- بما جبل الله نبيه على الصفات الحميدة على أنه الصادق، وبما جبله الله عليه من الأخلاق: الصدق والوفاء والشيم، بأن الله لا يخزيه؛ لأنه صادق.

لما جاءه جبريل في أول البعثة في صورته التي خلق عليها، وقد ملأ ما بين السماء والأرض، رعب النبي -صلى الله عليه وسلم- رعبا شديدا، وجاء إلى زوجه خديجة، وقال: خفت أن يختلج عقلي.

وهدَّأت من روعه وقالت: « كلا والله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق »(10) فاستدلت بهذه الصفات العظيمة، وأن من جبله على هذه الصفات العظيمة لا يخزيه الله أبدا.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أنه صادق، ولكن يخشى أن يكون عرض له عارض سوء، فبينت له خديجة أنه لا يمكن أن يعرض له عارض سوء؛ لأن الله لما جبله على هذه الصفات الحميدة فلا يخزيه -سبحانه وتعالى-، هذا من الأدلة التي يستدل بها على نبوة النبي، ادعى النبوة، وصدقته خديجة في الحال، استدلت على صدقه بهذه الأعمال.

ومن ذلك أيضا: تصديق ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب من الإنجيل بالعربية، فجاءت خديجة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ابن عمها، وقالت: اسمع من ابن أخيك.

فأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- خبره، فآمن به وصدقه في الحال، واعترف بنبوته، وقال: « هذا الناموس الذي كان يأتي موسى »(11) الناموس هو صاحب السر، أو صاحب السر في الخير، وهو جبريل، هذا جبريل الذي ينزل على موسى، وآمن في الحال، وتمنى أن يكون جذعا، كان شيخا كبيرا قد عمي وطعن في السن، فتمنى أن يكون جذعا حين يخرجه قومه.

قال: « ليتني كنت جذعا حين يخرجك قومك. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أوَمُخرجيّ هم؟! قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي »(12) .

فآمن -رضي الله عنه- فهو ممن آمن، جاء في حديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد له بالجنة، المقصود أن ورقة استدل بذلك على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وكذلك أيضا هرقل ملك الروم لما كتب له النبي -صلى الله عليه وسلم- له الكتاب يدعوه إلى الإسلام كتب له:

« من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد.. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن عليك إثم الأريسيين و ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ »(13) .

قال في أول الكتاب: « السلام على من اتبع الهدى »(15) فاهتم هرقل بهذا الكتاب اهتماما عظيما، وسأل في بلده: هل يوجد أحد من العرب؟ -وكان أبو سفيان في ذلك الوقت في الشام في تجارة ومعه أصحابه- فقيل: نعم هاهنا. فقال: علي به.

فجيء بأبي سفيان ومعه قومه، ووضع أبا سفيان أمامه، ووضع أصحابه خلفه، وقال لترجمانه -ترجمة-: قل لهم: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل؟ فقالوا: أبو سفيان.

تقدم أبو سفيان وجعلهم خلفه، وقال لترجمانه: نسائل هذا الرجل مسائل فإن كذبني فكذبوه، ولهذا تحاشى أبو سفيان الكذب وهو في كفره وقال: لولا أن يؤثر علي الكذب لكذبت.

فسأله أسئلة استدل بها على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، واعترف بنبوته، قال له: كيف هذا الرجل؟ « كيف نسب هذا الرجل؟ قال: هو ذو حسب فينا »(16) .

ثم أجاب لما سأله عشرة أسئلة أو أكثر، أكثر من عشرة أسئلة، أجاب على كل سؤال قال: « وكذلك الأنبياء تبعث في أحسابهم »(17) .

وسأله قال: « هل في آبائه من ملك؟ قالوا: لا. فقال: لو كان في آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه »(18) .

وسأله « هل أتباعه ضعفاء الناس أو أشرافهم؟ فقالوا: ضعفاؤهم. فقال: وكذلك أتباع الرسل في أول الأمر »(19) .

وسأله « أتباعه هل يزيدون أو ينقصون؟ فقال: يزيدون. فقال: وكذلك أتباع الرسل »(20) .

وسأله فقال: « هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قالوا: لا. قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب »(21) .

وسأله « كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: سجال ندال عليه ويدالون علينا »(22) يعني مرة ننتصر عليه، ومرة ينتصر علينا فقال: « كذلك الرسل تبتلى في أول أمرها ثم تكون لها العاقبة »(23) .

وسأله « ماذا يأمركم؟ قال: يأمرنا بعبادة الله، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصلة والعفاف والصدق. قال: وكذلك الرسل »(24) .

ثم قال لهم: « إن هذا هو النبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، لكن ما أظن أنه فيكم، ولو أستطيع أن أصل إليه لغسلت عن قدميه »(25) لولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه وغسلت عن قدميه، « وإن كنت صادقا فسيملك موضع قدميَّ هاتين »(26) .

ثم أُخرج أبو سفيان وقومه، فقال لهم أبو سفيان حين خرج: « لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر »(27) "أَمِرَ" يعني عظم، لقد أَمِرَ يعني عظم شأنه، "ابن أبي كبشة" نسبة إلى أحد أجداده الغامضين من جهة الرضاع، وكانت العرب إذا كانت تكره الإنسان تنسبه إلى جد غامض.

قال أبو سفيان: « فما زلت موقنا أن الإسلام سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره »(28) .

فهذا هرقل استدل على نبوة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الأدلة من غير خوارق العادات، من غير المعجزات.

وكذلك النجاشي -رحمه الله ورضي عنه- لما جاءه الصحابة وهاجروا إليه سألهم، واستخبرهم خبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه، فقال لهم: « إن هذا والذي آتى به موسى من مشكاة واحدة »(29) .

وبهذا يتبين أن الأدلة على نبوة الأنبياء كثيرة، ليست خاصة بالمعجزات وخوارق العادات كما يزعمه بعض أهل الكلام والنظر من الأشاعرة وغيرهم، بل الأدلة -دلائل النبوة- كثيرة، منها المعجزات، ومنها خوارق العادات، ومنها معرفة حال الشخص وأخباره، يُعرف صدقه من أخباره، ومن أقواله، ومن أعماله، ومن وفائه وصدقه، ومن مطابقة أقواله لأعماله، كما سبق في هذه الأمثلة.

ولكن أهل الكلام في هذا يخصون دلائل النبوة بالمعجزات، حتى إن المعتزلة أنكروا خوارق العادات التي تجري على أيدي المؤمنين، وخوارق العادات التي تجري على أيدي السحرة، قالوا: حتى لا يلتبس النبي بغيره.

قالوا: خوارق العادات لا تجري إلا على أيدي نبي. أما خوارق السحرة أنكروها، مع أنها واقعة، وأنكروا الخوارق، كرامات الأولياء، قالوا: لو أثبتنا كرامات الأولياء وخوارق السحرة لالتبس النبي بغيره، ففرارا من ذلك أنكروا خوارق العادات، وقالوا: لا خوارق للعادة إلا على يد نبي.

وهذا من أبطل الباطل، وهذا من جهلهم، ظنوا أنه ليس هناك دليل على نبوة النبي إلا خوارق العادات والمعجزات، ودلائل النبوة كثيرة.

والأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- على مراتب ودرجات، فالرسل أفضل من الأنبياء، وهل هناك فرق بين النبي والرسول؟

نعم، هناك فرق بين النبي والرسول، من العلماء من قال: إن الفرق بين النبي والرسول أن كلا من النبي والرسول يوحى إليه، لكن الرسول يوحى إليه بشرع ويؤمر بتبليغه، والنبي يوحى إليه ولا يؤمر بتبليغه، فإذا أوحي إليه وأمر بتبليغه كان رسولا، وإن لم يأمر بتبليغه كان نبيا.

ولكن هذا قول مرجوح، والصواب أن الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول هو الذي يرسل إلى أمة كافرة فيؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم، نوح -عليه الصلاة والسلام- أرسل إلى الكفار، آمن به بعضهم وكفر به بعضهم، هود رسول، صالح رسول.

والذين أرسلوا بشرائع يرسلون إلى أمم كافرة، وينزل عليهم شرائع، أوامر ونواهٍ، يؤمن به بعضهم، ويكفر به بعضهم، مثل نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

أما النبي فهو الذي يرسل إلى قوم مؤمنين -ما يرسل إلى الكفار- يرسل إلى قوم مؤمنين، ويكلف بالعمل بشريعة سابقة، فمثلا آدم -عليه الصلاة والسلام- نبي، لكنه نبي إلى بنيه، ولم يقع الشرك في زمانه، وشيث نبي.

ولهذا كان نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، فنوح أول رسول بعثه الله بعد وقوع الشرك، ولأنه أرسل إلى بنيه وإلى غير بنيه، أما آدم قبله، وكذلك أيضا شيث قبله، لكن ما وقع الشرك، وقعت المعاصي كما قتل قابيل أخاه هابيل.

ولهذا قال الله سبحانه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ (30) ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا (31) .

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم وقع الشرك، هذا معنى قوله: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (30) .

وبالمثل داود وسليمان أنبياء؛ لأنهم كلفوا بالعمل بالتوراة جميعا إلى بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى، داود وسليمان وزكريا ويحيى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة حتى جاء عيسى، هؤلاء هم الأنبياء، فالأنبياء على هذا.

فالصواب الذي أقره وحكمه أهل العلم: أن الرسول هو الذي يبعث إلى أمة من أهل الشرائع الكبيرة، الذين يرسلون إلى أمم، إلى أمة كافرة، يؤمن به بعضهم ويكفر بعضهم.

والأنبياء هم الذين يوحى إليهم، ويرسلون إلى المؤمنين خاصة، ويكلفون بالعمل بشريعة سابقة.

وإلى هنا نكتفي، وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصادق، وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم.

سبق بالأمس الكلام على الفروق بين النبي وبين الرسول، وقلنا: إن الصواب أن الفرق بين النبي والرسول أن الرسول هو الذي يأتي بشريعة مستقلة، وأنه يرسل إلى قوم يؤمن به بعضهم ويكفر به بعضهم، كنوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام-.

أما النبي فهو الذي يكلف بالعمل بشريعة سابقة، أو يرسل إلى مؤمنين، فأنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى -عليه الصلاة والسلام- كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة، ويسمون أنبياء، داود وسليمان وزكريا ويحيى إلى آخره حتى جاء عيسى، وعيسى -عليه السلام- جاء بشريعة مستقلة، وهو تابع أيضا لما جاء في التوراة، ولكنه خفف بعض الأحكام وقال: ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (32) .

وجاء سؤال بالأمس في قصة يونس -عليه الصلاة والسلام-، وأنه أُرسل إلى أمة، وأنهم آمنوا، كان السؤال هل ينطبق هذا على يونس؟ نقول: نعم، ينطبق هذا على يونس؛ لأن يونس جاء بشريعة مستقلة.

وثانيا: أن يونس في الأول ردوا عليه دعوته، ردوا عليه دعوته فغاضبهم نبيهم يونس، وتركهم وذهب، وركب البحر وهو مغاضب ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (33) فلما ذهب ندم قومه، وتمنوا رجوعه، لما رأوا أسباب العذاب تمنوا رجوعه، ثم أرسله الله إليهم مرة أخرى فآمنوا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: « أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا »(34) .

فهم في الأول صدوا، ما آمنوا أولا أنه جاء بشريعة مستقلة، ثانيا: أنهم أولا ردوا عليه دعوته، ثم آمنوا بعد ذلك، وثالثا: أن الله استثنى عليهم -هذه الأمة- لأن الله -سبحانه وتعالى- إذا جاءت أسباب العذاب وانعقدت أسباب العذاب فلا يفيد الإيمان بعد ذلك، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (35) .

إذا جاءت أسباب العذاب ونزل العذاب لا ينفع الإيمان، وكما حصل لفرعون فإن فرعون الذي ادعى الربوبية وقال ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (36) لما نزل به العذاب آمن، لكن ما نفع، قال الله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (37) .

فرعون الذي يقول للناس: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (36) قال: آمنت وأنا من المسلمين. لكن هل نفع؟ ما نفع قال الله: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (38) لماذا؟ ما نفع لأن العذاب إذا نزل ما ينفع، إذا نزل العذاب وانعقدت أسباب العذاب ما ينفع الإيمان، كما في الآية الكريمة: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (35) .

قوم يونس استثناهم الله، مستثنون، استثناهم الله، انعقدت أسباب العذاب وآمنوا، فصح منهم الإيمان، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ (39) إذن قوم يونس مستثنون ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (39) .

وبهذا يتبين أن أمة يونس ليست خارجة عن القاعدة، أرسلت بشريعة مستقلة، وردوا عليه دعوته في أول الأمر، ثم بعد ذلك آمنوا لما انعقدت أسباب العذاب، واستثناهم الله.

المسألة الرابعة: هناك أيضا من دلائل النبوة -دلائل النبوة كما سبق كثيرة- من دلائل النبوة: ما أبقاه الله تعالى من الآثار، من آثار الأمم، فإن الله تعالى أبقى آثار الأمم المهلَكة، فإن الله تعالى ينصر المؤمنين، ويؤيدهم على القوم الكافرين.

والكفار يهلكهم ويعاقبهم، وبقيت آثارهم متواترة، يعرفها الناس جميعا، متواترة كتواتر الطوفان الذي أغرق الله به قوم نوح، وغرق فرعون، وكذلك أيضا آثار الأمم المهلَكة كآثار قوم لوط، وقوم هود، وقوم صالح.

ولهذا في سورة الشعراء يقول الله تعالى بعد كل قصة، لما ذكر قصة موسى، ثم قصة إبراهيم، ثم قصة نوح، ثم قصة هود، ثم قصة صالح، ثم قصة لوط، ثم قصة شعيب قال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (40) .

ومن دلائل النبوة: ما اشتملت عليه الشرائع التي جاء بها الأنبياء من العلوم والأعمال والأحوال العظيمة، وما اشتملت عليه من الرحمة للخلق، ودعوتهم إلى ما فيه خلاصهم ونجاتهم، ودعوتهم إلى ترك ما فيه هلاكهم، هي مشتملة على علوم وأحوال وصفات إذا تخلق بها الناس وعملوا بها حصلت لهم السعادة، وتحذر مشتملة على التحذير من أسباب الهلاك، ومن الأخلاق السيئة، والأخلاق الرذيلة، فهذه من دلائل النبوة. نعم.

س: أحسن الله إليكم، فضيلة الشيخ هل يلزم من كون الرسول أن يكفر به بعض أمته لأن يونس عليه الصلاة والسلام؟

- هل يلزم إيش؟

-هل يلزم من كون الرسول أو تعريفه أن يكفر به البعض، ويونس عليه السلام أرسله الله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا؟ .

 ج: لكن في الأول ردوا دعوته، هذا هو المعروف الآن، لكن يصدق عليهم أنهم ردوا دعوته أول الأمر ثم آمنوا، نعم، هذا هو المعروف عند أهل العلم.

وتجد الأنبياء كلهم هكذا، موسى، وعيسى، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإبراهيم، وهود، وصالح، وشعيب كلهم كفر بهم كثير وآمن بهم قليل.

فنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تابعا كما قال -صلى الله عليه وسلم-: « إني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا »(41) لكن هناك من لم يؤمن من أمته؛ لأن الرسول رسول إلى الثقلين -الجن والإنس- إلى قيام الساعة، وهذه الأمة -أمة الرسول عليه الصلاة والسلام- فيها أمة الإجابة وأمة الدعوة، أمة الدعوة الكفار.. نعم.

س: أحسن الله إليكم. سائل يقول: يستدل بعض أهل السنة على منع تسلسل الحوادث في الماضي لما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: « أول ما خلق الله القلم »(42) فهل يدل على أن في المخلوقات أولا؟ .

ج: أولا: مسألة التسلسل هذه من المسائل المجملة التي لم تأت في الكتاب والسنة، والمراد دوام الحوادث، المراد الدوام والاستمرار، وهذا الحديث: « أول ما خلق الله القلم قال له اكتب »(42) قال بعضهم: إنه أول المخلوقات.

والصواب أن العرش سابق له، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

والناس مختلفون فـي القلم الذي *** كـتب القضـاء بـه مـن الديـان

هـل كان قبل العرش أو هو بعده *** قـولان عنـد أبـي العلا الهمـذاني

والحـق أن العـرش قبـل لأنـه *** قبــل الكتابــة كـان ذا أركـان

فالصواب أن العرش مخلوق قبل القلم، أما قوله: « أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب »(42) فالأولية مقيدة بالكتابة، والمعنى أنه قال له: اكتب عند أول خلقه « أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب »(42) والمعنى: قال له: اكتب أول ما خلقه، الأولية مقيدة بالكتابة.. نعم. أحسن الله إليكم.

س: يقول السائل: في آخر كتاب "العقل والنقل" ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- الخلاف في علم الله: هل يتجدد أو لا؟ ورجح -رحمه الله- أنه يتجدد. فما المراد بتجدد علم الله سبحانه؟ .

ج: ما أعرف، هذا يحتاج إلى تأمل والنظر في العبارة وما قبلها وما بعدها. نعم.

س: أحسن الله إليكم يقول السائل: ما حكم قول "شاء القدر" "وتدخلت عناية السماء" خاصة أن مثل هذه الألفاظ تكثر عند بعض الكتاب والمثقفين المعاصرين؟ .

ج - نعم، الأولى تركه، الأولى أن يقول: "شاء الله" ولا يقول: "شاءت الأقدار" الأولى تركه، والأولى أن يعبر بالتعبيرات التي وردت في النصوص التي جاء فيها: "اقتضت حكمة الله" "واقتضت حكمة الله" "وعناية الله" جاء التعبير بها عند بعض السلف، ابن القيم ذكر هذا.

أما قول: "شاءت الأقدار" هذا ما ورد، الأولى أن يلتزم الإنسان بألفاظ النصوص، ولا يأت بشيء من عند نفسه. نعم.

س: أحسن الله إليكم.يقول السائل: ما الفرق بين القضاء والقدر، وما المراد بالحديث: « لا يرد القضاء إلا الدعاء »(43) ؟ .

ج: هناك فروق بينهما ذكرها العلماء، وذكروا أنه قد يجتمعان وقد يفترقان، فالقضاء يطلق على أمور، ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ (44) قُضي الأمر: فُرغ منه، له معان عدة، ولكن قد يجتمعان ويراد بالقضاء القدر، و قد يفترقان، قد ذكر هذا الطحاوي ابن عامر في القضاء، يرجع إليه.

أما الحديث: « لا يرد القدر إلا الدعاء »(45) معناه: أن الله تعالى يقدر، الدعاء مقدر، فالله تعالى يجعل المقدور له سبب، وسببه الدعاء.

وكما جاء في الحديث أن « القدر والدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض فأيهما غلب »(34) فالمعنى أن الله تعالى قد يستجيب لدعاء الشخص، ويجعل الله الدعاء سببا في حصول المقدور، ويكون هذا مقدر في الأزل، مثل صلة الرحم، ثم قدر أن يعافي الله هذا العبد من مرضه بدعائه، فالله قدر الدعاء وقدر العافية، وجعل الدعاء سببا في العافية، فيكون القدر سببا، وهو من القدر، هو من القدر الذي قدره الله. أي نعم.

س: يقول السائل: هل يجوز لعن الكافر بعينه، وهل يفرق بين الحي والميت؟ .

ج: لا ينبغي لعن الكافر الحي بعينه، بل يدعى له بالهداية، إلا من اشتد أذاه، أذية المسلمين، فلا بأس إذا اشتد أذاه كما آذى المسلمين فلا بأس.

أما الميت فلا يلعن، قال النبي: « لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا »(46) إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة للأحياء، كأن يحذر الإنسان من كفر هذا الكافر أو من بدعته، حتى لا يضر الناس، فلا بأس، هذا مستثنى، وأما بدون مصلحة فلا يسب الميت « لا تسبوا الأموات »(46) يقول النبي: « لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا »(46) .

وأما لعن الفاسق والكافر: فالفاسق لا يلعن بعينه، ولهذا لما جيء للنبي -صلى الله عليه وسلم- برجل شرب الخمر لعنه بعض الصحابة فقالوا: لعنه الله -أو أخزاه- ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله »(47) .

والمشروع أن يلعن العصاة على العموم، يقول: لعن الله من شرب الخمر، /5 لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده /5، لعن الله الخمر، لعن الله شارب الخمر، لعن الله آكل الربا، أما فلان بن فلان آكل الربا لا تلعنه، فلان بن فلان السارق لا تلعنه، ادع له بالهداية.

وكذلك الكافر بعينه لا تلعنه؛ لأنه قد يهديه الله، فادع له بالهداية، ويستثنى من هذا ما إذا اشتد أذاه، فلا بأس بلعنه إذا اشتد أذاه على المسلمين، فلا بأس كما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعض الكفار، فلما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن دوسا عصت فادع الله عليهم، قيل: هلكت دوس. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « اللهم اهد دوسا وأت بهم »(48) فهداهم الله للإسلام.

س: أحسن الله إليكم. يقول السائل: هل أسلم النجاشي، وهل يعد صحابيا؟ .

ج: نعم، أسلم النجاشي، أسلم لا شك في هذا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي لما مات كما ذكر البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي حين مات، وصلى عليه، ذهب بالصحابة إلى الصحراء وصلى عليه وكبر عليه أربعا وقال: « مات أخوكم »(34) نعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

صحابي لا، هو ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، من شرط الصحابي أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-. نعم.

س: أحسن الله إليكم.السؤال الأخير يقول: إن من يرى واقع الكفار في هذا العصر يرى أنهم لا يسمعون عن الإسلام إلا كل أمر قبيح، ولم يتيسر لهم أن يعيشوا في مجتمعات مسلمة، وقد يقع في القلب شيء من أن ذلك ينافي عدل الله وحكمته، فهل هؤلاء الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة بشكلها الصحيح.

-أعد السؤال..

إن من يرى واقع الكفار في هذا العصر يرى أنهم لا يسمعون عن الإسلام إلا كل أمر قبيح، ولم يتيسر لهم أن يعيشوا في مجتمعات مسلمة، وقد يقع في القلب شيء من أن ذلك ينافي عدل الله، فهل هؤلاء الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة بشكلها الصحيح معذورون أو لا، وما رأي فضيلتكم فيمن زعم بأن هذا ظلم من الله لهم، وهل يبلغ حد الكفر بقوله هذا ؟ .

ج:القول بأنه ما بلغتهم، هذا بعيد؛ لأن وسائل الإبلاغ ووسائل الإعلام كثيرة الآن، فالظاهر أن الدعوة بلغتهم، ولكن لو قدر أن هناك أحدا لم تبلغه الدعوة فهو في حكمه حكم الفترات، حكم أهل الفترات، والله تعالى يقول: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (49) .

وأهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة فيهم أقوال لأهل العلم، ذكر الحافظ رحمه الله في الفتح أقوالا، وذكر أيضا العلامة ابن القيم في أواخر "طريق الهجرتين" أرجحها: أنهم يمتحنون يوم القيامة، وأنهم يجرى لهم امتحان، وأنهم يخرج لهم عنق من النار ويردونها، فمن وردها كانت عليه بردا وسلاما، ومن عصى تبين فيه علم الله.

وجاء هذا في أحاديث كثيرة لا تخلو من ضعف سرية وغيره، وأنه يؤتى بأهل الفترة وبالأصم وبالشيخ الهرم وبالمجنون، وأنهم يمتحنون، ولكن الأحاديث يشد بعضها بعضا فتكون من باب الحسن لغيره كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، هذا أصح ما قيل فيه، فيكون حكمه حكم أهل الفترات.

وأما مسألة كونهم لم يتبين عدل الله فيهم: نعم الله تعالى يقول: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (49) فمن لم تبلغه الدعوة فإنه لا يعذب حتى تقوم عليه الحجة، وأهل الفترات يمتحنون.

أما قوله: لم يتبين فيهم عدل الله، وأن هذا يصل لدرجة الكفر. نقول: لا، الجواب هو أن من لم تبلغه الدعوة لا يعذب حتى تقوم عليه الحجة، أمره إلى الله، والله تعالى عادل، وقد قال: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (49) من لم تبلغه الدعوة ولم يبلغه الرسول ولم يبلغه القرآن لا يعذب، وهو معذور، وله امتحان آخر.. نعم.

أحسن الله إليكم، ومتع بكم على طاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه.

وفق الله الجميع على طاعته.


(1) مريم: 30
(2) الصافات: 52
)3) الصافات: 51، 52
(4) التوبة: 29
(5) مريم: 93
(6) الإسراء: 1
(7) الجن: 19
(8) النجم: 10
(9) البقرة: 23
(10) البخاري : بدء الوحي (4) , ومسلم : الإيمان (160) , وأحمد (6/232).
(11) البخاري : تفسير القرآن (4954) , ومسلم : الإيمان (160) , وأحمد (6/232).
(12) البخاري : التعبير (6982) , ومسلم : الإيمان (160) , وأحمد (6/232).
(13) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , والترمذي : الاستئذان والآداب (2717) , وأبو داود : الأدب (5136) , وأحمد (1/262).
(14) آل عمران: 64
(15) البخاري : الاستئذان (6261) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , والترمذي : الاستئذان والآداب (2717) , وأبو داود : الأدب (5136) , وأحمد (1/262).
(16) البخاري : تفسير القرآن (4553) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(17) البخاري : تفسير القرآن (4553) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(18) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(19) البخاري : تفسير القرآن (4553) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(20) البخاري : تفسير القرآن (4553) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(21) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(22) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(23) البخاري : الجهاد والسير (2941) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(24) البخاري : الجهاد والسير (2941) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(25) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(26) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(27) البخاري : تفسير القرآن (4553) , ومسلم : الجهاد والسير (1773) , وأحمد (1/262).
(28) البخاري : بدء الوحي (7) , ومسلم : الجهاد والسير (1773).
(29) أحمد (1/201).
(30) البقرة: 213
(31) يونس: 19
(32) آل عمران: 50
(33) الصافات: 142
(34)
(35) غافر: 84، 85
(36) النازعات: 24
(37) يونس: 90
(38) يونس: 91
(39) يونس: 98
(40) الشعراء: 8، 9
(41) البخاري : فضائل القرآن (4981) , ومسلم : الإيمان (152) , وأحمد (2/451).
(42) الترمذي : القدر (2155).
(43) الترمذي : القدر (2139).
(44) فصلت: 12
(45) ابن ماجه : المقدمة (90) , وأحمد (5/280).
(46) البخاري : الجنائز (1393) , والنسائي : الجنائز (1936) , وأحمد (6/180) , والدارمي : السير (2511).
(47) البخاري : الحدود (6780).
(48) البخاري : الجهاد والسير (2937) , ومسلم : فضائل الصحابة (2524) , وأحمد (2/243).
(49) الإسراء: 15


 مواد ذات صلة: