شرح العقيدة الطحاوية
لا يجوز تكفير المسلم بذنب لم يستحله

لا يجوز تكفير المسلم بذنب لم يستحله

ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله .


هذا معتقد أهل السنة والجماعة، أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، وعرفنا أهل القبلة من هم أهل القبلة، هم الذين استقبلوا القبلة في الصلاة والذبح والتزموا بالإسلام، ولم يفعلوا شيئا من نواقض الإسلام، لا نكفر أحدا منهم، ولو فعل ذنبا ولو زنا أو سرق، إذا لم يستحله، لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، يعني إذا فعل كبيرة المسلم زنا أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا، أو عق والديه، أو قطع الرحم، نقول: هذا عاصٍ، عاصٍ مرتكب لكبيرة، ضعيف الإيمان ناقص الإيمان، إلا إذا استحلها، إذا قال الزنا حلال أو الخمر حلال أو الربا حلال أو عقوق الوالدين حلال، كفر؛ لأنه مكذب لله، مكذب لله في تحريم الزنا، مكذب لله في تحريم الربا، مكذب لله في تحريم عقوق الوالدين، ولا بد أن يكون هذا الذي استحله ما فيه خلاف بين أهل العلم، أمر قطعي، إما واجب أو حرام إذا أنكر أمرا واجبا، كأن أنكر وجوب الصلاة، أو أنكر وجوب الزكاة، أو أنكر وجوب الحج، هذه أمور قطعية -كفر، أو أنكر تحريم أمر معلوم من الدين بالضرورة، أنكر تحريم الزنا أو تحريم الخمر أو تحريم الربا أو تحريم عقوق الوالدين -كفر، أما إذا فعله ويعلم أنه حرام، ويعلم أنه.. أن الزنا حرام، يعلم أن الربا حرام، لكن فعل الزنا غلبته الشهوة طاعة للشيطان، فعل الربا غلبه حب المال، نقول هذا عاص ضعيف الإيمان، مرتكب لكبيرة.

هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة والناس لهم في هذه المسألة أربعة مذاهب.

المذهب الأول: مذهب أهل السنة والجماعة أن مرتكب الكبيرة سواء كانت هذه الكبيرة عملية أو كبيرة قولية؛ ضعيف الإيمان وناقص الإيمان كما سيأتي ولا يكفر.

المذهب الثاني: مذهب المرجئة، المرجئة الغلاة كالجهمي وغيره، تنفي التكفير نفيا عاما، فتعمم النفي والسلب، فتقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، بل هو.. بل يقولون: إنه كامل الإيمان، يقولوا: الزاني والسارق وشارب الخمر إيمانه كامل، ويدخل الجنة من أول وهلة، هذا مذهب من؟ هذا مذهب المرجئة.

المذهب الثاني: مذهب الخوارج عكس هؤلاء الخوارج والمعتزلة، يقولون:.. يطلقون التكفير، فيكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب، فهم يقولون: يكفر المسلم بكل ذنب أو بكل ذنب كبير، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه بالارتداد عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما.. فيقولون: الزاني كافر، وشارب الخمر كافر، والمرابي كافر، والعاق لوالديه كافر، ومن تكلم بكلمة الكفر كلمة من الكبائر كفر، هذا مذهب من مذهب الخوارج والمعتزلة.

المذهب الثالث: مذهب طوائف من أهل الكلام والفقه، يقولون: نفرق بين العمل وبين القول والابتداع، فيقولون: إن مرتكب الكبيرة لا يكفر كما يقول أهل السنة، لكن المبتدع الذي ابتدع وتكلم بكلام كفري أو بكلام هو كبيرة نكفره، ما هو دليلهم في هذا؟ يقولون: إن البدع مظنة الردة، فتعطى حكمها، فالبدع مظنة للردة، فتعطى حكمها؛ فلذلك يقولون، وهم طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث، يفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، فلا يكفرون الذين يعملون الكبائر ويكفرون أصحاب الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولا، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، أو يقولون: يكفر كل مبتدع، شبهتهم: أن البدع مظنة النفاق والردة، فحملوا النصوص عليها، حملوا النصوص على هذا، يقولون: يكفر كل مبتدع، المبتدع وكل من تكلم بقول مبتدع أو ابتدع بدعة يكفر، أما من عمل كبيرة، فلا يكفر، أما أهل السنة والجماعة، فهم خالفوا هؤلاء الطوائف كلها، فيقولون: من ارتكب الكبيرة سواء كانت الكبيرة عملية أو بدعية أو قولية، هذا لا يكفر إلا إذا استحلها، ولكن نسميه، ولكن نصفه بأنه ضعيف الإيمان وناقص الإيمان، فلا يسلبون عنه اسم الإيمان ولا يعطونه اسم الإيمان.

فيقولون: لا نطلق عليه.. لا نعطيه اسم الإيمان المطلق، ولا نسلبه مطلق الإيمان، فلا يعطى الإيمان المطلق، فلا يقولون: هو مؤمن ولا يقولون: ليس بمؤمن، عند أهل السنة العاصي كالزاني والسارق وشارب الخمر، ماذا يقولون له؟ يقولون: مؤمن، ما يقولون: مؤمن ويسكتوا، ولا يقولون: ليس بمؤمن، لا بد من التقييد في الإثبات والنفي، فإذا أثبت تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي ما تقول: ليس بمؤمن وتسكت، تقول: ليس بمؤمن حقا، ليس بصادق الإيمان، فالعاصي ومرتكب الكبيرة عند أهل السنة إذا قلت: مؤمن وسكت تكن مخطئا، وإذا قلت: ليس بمؤمن، وسكت تكن مخطئا، ماذا تعمل؟ قيد في النفي وفي الإثبات، في الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، في النفي ليس بصادق الإيمان ليس بمؤمن حقا، أما الأدلة والمناقشات والردود يأتي الكلام عليها فيما بعد -إن شاء الله- ستسجل فيما بعد.

أهل الكبائر، أهل الكبائر، حكم أهل الكبائر والفساق والعصاة وأهل البدع من أهل القبلة ومذاهب الناس فيهم، قلنا: إن للناس في هذا مذاهب سبق استعراض المذاهب.

وإن المذهب الأول مذهب المرجئة، تنفي التكفير نفيا عاما، فتعمم النفي والسلب، فتقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، وهذا قول غلاة المرجئة، ولهم شبة ومن شبههم وأدلتهم عموما نصوص الوعد. نصوص الوعد، مثل: « من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق »(1) ومثل حديث: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله »(2) .

ومثل حديث البطاقة، وفيها: « يؤتى برجل فيخرج له تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر سيئا، ثم يخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة »(3) ومنها أحاديث الشفاعة كحديث: « أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان »(4) وحديث أبي هريرة: « أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه »(5) .

ويناقش المرجئة في قولهم: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يناقش أصل مذهبهم أولا، نقول: قولكم: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، يرد عليه بأمرين:

الأمر الأول : أن في أهل القبلة المنافق، أن في أهل القبلة المنافقين الذين يتظاهرون بالشهادتين، ويتجهون إلى القبلة في الصلاة والذبح، ويتظاهرون ببعض ما يمكنهم إظهاره من شعائر الإسلام، وفيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (6) فقولكم: لا نكفر من أهل القبلة أحدا بذنب، يلزمكم أن لا تكفروا المنافقين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، هم من أهل القبلة.

ثانيا: أنه لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمة، أو المحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا؛ لأنه أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، أنكر وجوب الصلاة أو وجوب الزكاة أو وجوب الحج، أو أنكر تحريم الزنا أو تحريم الربا، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، ويرد أيضا عليهم بنصوص الوعيد، فإن نصوص الوعد تدل على بقاء الإيمان معهم، ونصوص الوعيد تدل على أن الإيمان يضعف وينقص، فقولكم: لا يتأثر إيمانه، هو كامل الإيمان، باطل ترده نصوص الوعيد.

المذهب الثاني: مذهب الخوارج والمعتزلة، يطلقون التكفير، فيكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب، فإنهم يقولون: يكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفرون من خالفهم، ويستحلون منه الارتداد عندهم مالا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- « يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان »(7) ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهم، وكفروا أهل صفين الطائفتين، في نحو ذلك من المقالات الخبيثة لهم، ومستندهم شبهتهم نصوص الوعيد، مثل حديث: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن »(8) .

فإن قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (9) وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) ويرد عليهم أولا بنصوص الوعد التي استدل بها المرجئة، فيرد على الخوارج بنصوص الوعد التي استدل بها المرجئة، فإنها تدل على بقاء الإيمان تدل على بقاء الإيمان، وأنهم لا يكفر، كما أنه يرد على المرجئة القائلين بأنه مؤمن كامل الإيمان بنصوص الوعد التي استدل بها الخوارج، تدل على أن الإيمان يضعف وينقص، ويرد أيضا على الخوارج في تكفيرهم أهل الكبائر، نقول: إن الله أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتدا لوجب قتله، ولا يقام عليه الحد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « من بدل دينه فاقتلوه »(11) وقال: « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إسلام وزنا بعد إحصان وقتل نفس يقتل بها »(12) وأمر الله بجلد الزانيين وجلد القاذف، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلد شارب الخمر، ولم يقتله، فلو كان من ارتكب الكبيرة كافرا؛ لوجب قتله، ولا تقام عليه الحدود، ويرد عليهم أيضا بالإجماع الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة وانتحلوا دعوة الإسلام من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال، فلو كان الزاني والسارق وشارب الخمر كافرا لما ورث، لما ورث من أقاربهم المستقيمين، فكونهم يرثون يدل على أنهم ليسوا كفارا، كما يقول هؤلاء الخوارج، ويرد عليهم أيضا أنه ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لعن رجل يشرب الخمر، وكان اسمه حمارا، وكان يضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان كلما أتي به إليه جلده، فأتي إليه مرة فلقيه فلعنه رجل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله »(13) فنهى عن لعنه في عينه، وشهد له بحب الله ورسوله مع أنه قد لعن شارب الخمر عموما « لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وعاصرها »(14) لكن بالخصوص بعينه لا يلعن، ويرد عليهم -أيضا- بأن الله -تعالى- قال: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ (15) إلى قوله: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )16) وقد وصفهم الله بالإيمان والإخوة، وأمر بالإصلاح بينهم مع أنهم يقتتلون، وهذا من الكبائر، والقتال من الكبائر، فدل على أن على أن الكبيرة لا تخرجه من الإسلام.

الطائفة الثالثة: الذين يفرقون بين البدعة بين الأقوال المبتدعه بين البدعة وبين الأقوال وبين الأعمال، فيقولون: إذا ارتكب إذا ارتكب بدعة، أو قال قولا مبتدعا، فإنه يكفر أما إذا أما إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب، فإنه لا يكفر.

فيفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، وهذا ينسب إلى طوائف من أهل الكلام والفقه والحديث، يفرقون بين الأعمال وبين الاعتقادات البدعية، فلا يكفرون الذين يعملون الكبائر ويكفرون أصحاب الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولا، فيقولون يكفر من قال هذا القول، يكفر من قال هذا القول لا يفرقون بين مجتهد بين مجتهد مخطئ وغيره، أو يقولون يكفر كل مبتدع، شبهتهم قالوا: إن البدعة مظنتها البدعة مظنتها النفاق والردة، فهي أصل البدع، مظنتها النفاق والردة، فهي أصل وسببه، فحملوا النصوص على هذا، وقالوا إنه إذا ارتكب بدعة أو قال قولا مبتدعا يكفر، أما إذا فعل كبيرة عملية فلا يكفر.

ويرد عليهم.

أولا أن البدع الاعتقادية من جنس الأعمال، لا فرق بينها، فإن الرجل يكون مؤمنا باطنا وظاهرا، لكن تأول تأويلا أخطأ فيه، إما مجتهدا وإما مفرطا مذنبا، فلا يقال: إن إيمانه يحبط بمجرد ذلك الاعتقاد أو العمل بغير دليل شرعي، بل هذا يوافق قول الخوارج والمعتزلة، ولا يقال: لا يكفر، بل يفرق بين المقالة والقائل.

ثانيا: أن نصوص كثيرة قد دلت على أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وهذا يشمل الاعتقادات والأعمال، ولهذا فإن مذهب أهل السنة: ألا يقال لا نكفر أحدا بذنب، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفر أحدا من أهل القبلة بكل ذنب، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب الذين يعممون السلب، فيقولون يكفر بكل ذنب أو بكل ذنب كبير.

ثالثا: سلك أهل السنة مسلكا عدلا، هو الوسط، وهو الفرق بين الأقوال والقائل المعين، فالأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفى ما أثبته الله ما أثبته الرسول، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال من قالها فهو كافر، وهذا عام لا يعين شخصا بعينه كالقول بخلق القرآن والوعيد في الظلم في النفس والأموال، فيقال من قال بخلق القرآن، فهو كافر، وأما الشخص المعين، فلا نشهد عليه أنه من أهل الوعيد، وأنه كافر إلا بأمر تجوز معه الشهادة، كأن يعلم بأنه منافق، أو ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويستتاب فلا يتوب؛ لأن الحكم عليه بالكفر بدون دليل من أعظم البغي، من أعظم البغي أن نشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت، كما بوب أبو داود في سننه باب النهي عن البغي، وذكر فيه قصة الرجلين المتواخيين من بني إسرائيل أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة فالشهادة …إلى آخر الحديث، وأن المجتهد كان يأتي المذنب، ويقول: « اتق الله فرآه يوما على ذنب، فقال له: اتق الله فغضب المذنب، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا، فقال المجتهد: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال: من ذا الذي تألى علي ألا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته »(17) .

فالشهادة على المعين بالكفر من البغي. وثانيا: لأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مخطئا مغفورا له. وثالثا: يمكن أن يكون لم يبلغه ما وراء ذلك القول من النص من النصوص، فيكون معذورا لجهله بالنصوص.

ورابعا: يمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غفر الله للذي قال: « إذا مت فاسحقوني، ثم أذروني »(18) ثم غفر الله له من خشيته، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته أو شك في ذلك.

وهذا في الصحيحين قصة الرجل الذي من بني إسرائيل الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروه في البحر لما حضرته الوفاة جمع أهله وأخذ عليهم العهد والميثاق أن يحرقوه ويذروه، وقال: « إن قدر الله علي ليعذبني عذابا شديدا »(19) وفي بعض ألفاظ الحديث أنهم سحقوه وأحرقوه، وأنه قال: « ذروا بعضي في البحر وبعضي في البر، ففعلوا ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه، والبر فجمع ما فيه، فقال: قم فإذا هو قائم قال الله: ما حملك على ذلك، قال: خشيتك »(20) قال: في الحديث « فما تلافاه بل رحمه »(21) قال العلماء: إن هذا الرجل إنما فعل ذلك عن جهل ليس معاندا ولا مكذبا ولا متعنتا، ولكن فعله عن جهل، وحمله على ذلك الخوف العظيم، أما لو أنكر البعث أو أنكر ثم أيضا، هو لم ينكر البعث، بل هو معترف مقر بالبعث، ولم ينكر قدرة الله، لكن ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة وأحرق وسحق وذري في البحر والبر، إنه يفوت على الله، وإلا فهو معترف ومصدق بأنه لو ترك على حاله لبعثه الله.

وإن الله يقدر عليه، لكن هذه مسألة دقيقة خفيت عليه، ولهذا قال العلماء: وأن من أنكر أمرا دقيقا مثله يجهله؛ يكون معذور فلا يكفر في هذه الحالة، أما لو كان متعمدا أنكر البعث متعمدا عن عناد وعن تكذيب، فهذا لا شك في كفره، لكن هذا الرجل ما فعل ذلك عامدا ولا متعنتا، ولكن فعل ذلك عن جهل، وحمله عليه الخوف العظيم، فلهذا ما يحكم على الشخص المعين بالكفر إلا بعد التثبت ومعرفة حاله.

وخامسا: قد يكون حديث الإسلام، وحديث عهد بالإسلام، قد يكون نشأ في بادية بعيدة عن الإسلام، ولكن التوقف في أمر الآخرة في أهل البدع لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا، لمنع بدعته وأن نستتيبه فإن تاب وإلا قتلناه، إذا كان مستحقا للقتل، ثم إذا كان القول في نفسه كفرا، قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، أما معتقد أهل السنة والجماعة، فكما سبق أنهم لا يكفرون بالكبائر كما يفعل الخوارج والمعتزلة أو الخوارج، ولا يخرجونهم من الإيمان كما تفعل الخوارج، ولا يقولون: إنه كامل الإيمان كما تقول المرجئة، بل يقولون: إنه مؤمن، يثبتون له أصل الإيمان، وينفون عنه مطلق الإيمان، يثبتون أصل الإيمان، وهو مطلق الإيمان، وينفون عنه الإيمان المطلق، فيقولوا مطلق الإيمان ثابت له، والإيمان المطلق منفي عنه، فلا بد من التقييد، فيقولون هو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن عاص، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وكذلك في النفي لا ينفون عنه الإيمان، ويسكتون، بل لا بد من التفصيل ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا، كما هو الأدلة على هذا كثيرة من الكتاب والسنة والله أعلم.


(1) البخاري : اللباس (5827) , ومسلم : الإيمان (94) , والترمذي : الإيمان (2644) , وأحمد (5/152).
(2) البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).
(3) الترمذي : الإيمان (2639) , وابن ماجه : الزهد (4300) , وأحمد (2/213).
(4) البخاري : التوحيد (7440) , ومسلم : الإيمان (183) , وأحمد (3/94).
(5) البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).
(6) سورة النساء: 145
(7) البخاري : التوحيد (7432) , ومسلم : الزكاة (1064) , والنسائي : الزكاة (2578) , وأبو داود : السنة (4764) , وأحمد (3/68).
(8) البخاري : المظالم والغصب (2475) , ومسلم : الإيمان (57) , والترمذي : الإيمان (2625) , والنسائي : الأشربة (5659) , وأبو داود : السنة (4689) , وابن ماجه : الفتن (3936) , وأحمد (2/386) , والدارمي : الأشربة (2106).
(9) سورة النساء: 93
(10) سورة النساء: 10
(11) البخاري : الجهاد والسير (3017) , والترمذي : الحدود (1458) , والنسائي : تحريم الدم (4060) , وأبو داود : الحدود (4351) , وابن ماجه : الحدود (2535) , وأحمد (1/282).
(12) البخاري : الديات (6878) , ومسلم : القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) , والترمذي : الديات (1402) , والنسائي : تحريم الدم (4016) , وأبو داود : الحدود (4352) , وابن ماجه : الحدود (2534) , وأحمد (1/444) , والدارمي : الحدود (2298).
(13)
(14) أبو داود : الأشربة (3674) , وابن ماجه : الأشربة (3380) , وأحمد (2/97).
(15) سورة الحجرات: 9
(16) سورة الحجرات: 10
(17) أبو داود : الأدب (4901) , وأحمد (2/323).
(18) البخاري : التوحيد (7508) , ومسلم : التوبة (2757) , وأحمد (3/77).
(19) البخاري : أحاديث الأنبياء (3481) , ومسلم : التوبة (2756) , والنسائي : الجنائز (2079) , وابن ماجه : الزهد (4255) , وأحمد (2/269) , ومالك : الجنائز (568).
(20) البخاري : التوحيد (7506) , ومسلم : التوبة (2756) , والنسائي : الجنائز (2079) , وابن ماجه : الزهد (4255) , وأحمد (2/269) , ومالك : الجنائز (568).
(21) البخاري : الرقاق (6481) , ومسلم : التوبة (2757) , وأحمد (3/77).


 مواد ذات صلة: