شرح العقيدة الطحاوية
الإيمان بملك الموت

الإيمان بملك الموت

معتقد أهل السنة في الإيمان بملك الموت

ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين.


نعم وهذا من معتقد أهل السنة الإيمان بملك الموت، وأن الله وكله بقبض أرواح العالمين قال الله تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (1) وإضافة النفس جاء في القرآن، إضافة التوفي إلى ملك الموت كقول الله تعالى: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (1) وجاء إضافته إلى رسل الله، الملائكة -أيضا- كقول الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (2) وجاء إضافة التوفي إلى الله كقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (3) ولا تعارض بين هذه الإضافات؛ لأن الإضافة إلى كل بحسبه، فأضيف التوفي إلى ملك الموت؛ لأنه تولى قبضها واستخراجها من البدن، وأضيف إلى الرسل؛ لأن ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب تأخذها من ملك الموت، ويتولونها بعده، وأضيف إلى الله؛ لأن كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، وأمره، فتضمنت الإضافة إلى كل بحسبه. نعم.

اختلف الناس في الروح ما هي؟ وهل الروح هي الحياة أو غيرها؟

فقيل: هي جسم، وقيل: عرض، وقيل: لا ندري ما الروح أجوهر أم عرض؟ واستدلوا بقول الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (4) ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر، ولا عرض.

وذهب "الجبائي" من المعتزلة: إلى أن الروح جسم، وأنها غير الحياة، والحياة عرض، واستدل بقول أهل اللغة: خرجت روح الإنسان. وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض.

وقيل: ليست الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع التي هي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع، وقال قائلون: الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع، وليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع والروح.

وقيل: الروح الدم الصافي الخالص من الكدرة، وقيل: الروح هي الحرارة الغريزية، وهي الحياة، وقيل: الروح جوهر بسيط منبعث في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدوير، وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غيره.

والقول المختار: أن الروح جسم مخالف لماهية هذا الجسم المحسوس، وهي جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفض في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها، من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم ساريا في هذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارقت الروح البدن، وانفصلت إلى عالم الأرواح، وهذا القول هو الصواب في المسألة، وعليه دل الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة، وكل الأقوال سواه باطلة.

واستدل العلامة ابن القيم -رحمه الله- له بمائة دليل وخمسة عشر دليلا، وزيف كلام ابن سينا وابن حزم، وأمثالهما، ومن أدلة هذا القول من الكتاب قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (3)

ففي الآية ثلاثة أدلة:

الإخبار بتوفيها، وإمساكها، وإرسالها، وهذا شأن الجسم.

ثانيا: قول الله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ (5) إلى قوله: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (6)

وفي الآية أربعة أدلة:

أحدها: بسط الملائكة أيديهم لتناولها.

الثاني: وصفها بالخروج والإخراج.

الثالث: الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم.

الرابع: الإخبار عن مجيئها إلى ربها، وهذا شأن الجسم.

ثالثا قول الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ (7) إلى قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (2)

وفيها ثلاثة أدلة:

الأول: الإخبار بتوفي النفس بالليل.

الثاني: بعثها إلى أجسادها بالنهار.

الثالث: توفي الملائكة له عند الموت، فهذه عشرة أدلة.

ومن الأدلة -أيضا- قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي (8)

وفيه ثلاثة أدلة:

أحدها: وصفها بالرجوع.

الثاني: وصفها بالدخول.

الثالث: وصفها بالرضى.

فهذه ثلاثة عشر دليلا، ومن السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: « إن الروح إذا قبض تبعه البصر »(9) ففيه دليلان:

أحدهما: وصفه بأنه يقبض. الثاني: أن البصر يراه، وهذا شأن الجسم.

ثانيا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: « نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة »(10) فيه دليلان:

أحدهما: كونه طائرا.

الثاني: تعلقها بشجر الجنة وأكلها.

ثالثا: قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث بلال: « قبض أرواحكم، ثم ردها عليكم »(11) ففيه دليلان: وصفها بالقبض والرد.

ومن الأدلة: ما ثبت في عذاب القبر من خطاب ملك الموت لها، وأنها تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد، ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح، وأما الإجماع، فقد علم بالضرورة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قد علم بالضرورة من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء به وأخبر به الأمة، وأنه تنبت أجسادهم في القبور، فإذا نفخ في الصور، رجعت كل روح إلى جسدها، فدخلت فيه، فانشقت الأرض عنه، فخرج من قبره، ومن أدلة هذا الإجماع الحديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، ومعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل، وهذا من أدلة العقل.

الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر، ونعيمه إلى يوم البعث، فمعلوم أن الجسد يتلاشى، ويضمحل، وأن العذاب والنعيم مستمران إلى يوم القيامة، إنما هو على الروح، وكذلك من أدلة العقل أن هذا البدن المشاهد محل لجميع صفات النفس، وإدراكاتها الكلية والجزئية، ومحل للقدرة على الحركات الإرادية، فوجب أن يكون الحامل لتلك الإدراكات والصفات هو البدن، وما سكن فيه.

وأما دليل الفطرة: فإن كل عاقل إذا قيل له ما الإنسان فإنه يشير إلى هذه البنية، وما قام بها لا يخطر بباله أمر مغاير لها مجرد ليس في العالم، ولا خارجه والعلم بذلك ضروري لا يكون شكا.

ومن مباحث الروح:

هل النفس، أو الروح شيء واحد، أو شيئان متغايران؟

اختلف الناس في مسمى النفس والروح هل هما مغايران، أو مسماهما واحد؟

فمن الناس من قال إنهما اثنان لمسمى واحد، وهذا قول الجمهور، ومن الناس من قال إنهما متغايران، والتحقيق أن كلا من النفس والروح تطلق على أمور، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالبا ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة، فتسمية الروح أغلب عليها، وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، والنفس تطلق على أمور.

أولا: تطلق على الدم، فيقال: سالت نفسه أي دمه وفي الحديث « ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، إذا مات فيه »(12) .

ثانيا: وتطلق على الروح يقال: خرجت نفسه، أي روحه، وتطلق على الجسد.

قال الشاعر:

نـبئــت أن بنـي تميـم أدخلـوا *** أبنـاءهم تامـور نفـس المنـذر

والتامور الدم، وتطلق النفس على العين يقال: أصابت فلانا نفس، أي عين.

خامسا: وتطلق النفس على الذات بجملتها كقوله تعالى: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ (13) وقوله: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (14) وقوله: ﴿ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا (15) وقوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (16) .

والروح تطلق على أمور:

تطلق الروح على القرآن كقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا (17) وتطلق الروح على جبريل كقوله تعالى: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (18) وتطلق الروح على الوحي، الذي يوحيه الله إلى أنبيائه ورسله، كقوله تعالى: ﴿ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ (19) وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو داعي الطاعة وواعظ القلب، وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه، ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه، وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فالعلم روح، والإحسان روح، والمحبة روح، والتوكل روح، والصدق روح.

والناس متفاوتون في هذه الروح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح، فيصير روحيا، ومنهم من يفقدها، أو أكثرها، فيصير أرضيا بهيميا، وأما ما يؤيد الله به من القوة والثبات والنصر، فهي روح أخرى كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (20) فهذا معنى سادس، السابع: تطلق الروح على عيسى -عليه الصلاة والسلام- كقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ (21) الثامن: وكذلك القوى التي في البدن؛ فإنها -أيضا- تسمى أرواحا، فيقال: الروح الباسط، والروح السامع، والروح الشام.

والفرق بين النفس والروح فرق بالصفات لا فرق بالذات، وإنما سمي الدم نفسا؛ لأن خروجه الذي يكون معه الموت يلازم خروج النفس، وإن الحياة لا تتم إلا به كما لا تتم إلا بالنفس، ويقال: فاضت نفسه، وخرجت نفسه، وفارقت نفسه كما يقال: خرجت روحه وفارقت روحه.

ومن مباحث الروح:

هل الروح قديمة، أو محدثة مخلوقة؟

في المسألة ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها قديمة غير مخلوقة.

الثاني: أنها محدثة مخلوقة.

الثالث: التوقف.

فلا يقال إنها مخلوقة، ولا غير مخلوقة، استدل أهل القول الأول القائلون بأنها قديمة غير مخلوقة، احتجوا أن الله -سبحانه وتعالى-.

أولا: أن الله تعالى أخبر أن الروح من أمر الله كقوله: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (4) وأمره غير مخلوق وأجيب بأنه ليس المراد هنا بالأمر الطلب، الذي هو أحد أنواع الكلام، فيكون المراد أن الروح كلامه الذي يأمر به، فليس المراد به الأمر الكلامي حتى يكون قديما، وإنما المراد الأمر هنا المأمور، والمصدر يذكر، ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور، وهو عرف مستعمل في لغة العرب، وفي القرآن منه كثير كقوله تعالى: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ (22) أي مأموره الذي قدره وقضاه، وقال له: كن فيكون.

الدليل الثاني: أن الله أضاف الروح إليه كقوله: ﴿ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (23) كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، فكما أن هذه الصفات ليست مخلوقة، فكذلك الروح.

وأجيب بأن المضاف إلى الله -سبحانه- نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها: كالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، فهذه إضافة الصفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وإرادته وحياته صفات له غير مخلوقة، والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح، فهذه إضافة المخلوق إلى خالقه، والمصنوع إلى صانعه، لكنها إضافة تقتضي تخصيصا، وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره.

أما أهل القول الثاني القائلون بأن الروح مخلوقة محدثة، فهذا هو الصواب، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة والأثر، وهو الذي ذهب إليه الصحابة والتابعون.

ومن أدلة هذا القول: الإجماع: فقد أجمعت الرسل على أن الروح محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم، أن العالم محدث، وأجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين، قبل قول هذه الفئة إنها قديمة حتى نبغت هذه النابغة، وزعمت أنها قديمة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهم.

الدليل الثاني من الكتاب: قول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ (24)

ووجه الدلالة: أن هذا اللفظ عام لا تخصيص فيه بوجه ما، فيدخل في عمومه الروح، ولا يدخل في ذلك صفات الله؛ فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال بذاته وصفاته.

ثانيا: قوله تعالى، الدليل الثاني من الكتاب قول الله تعالى لزكريا: ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (25)

ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب لزكريا -عليه الصلاة والسلام- لروحه وبدنه ليس لبدنه، فقط؛ فإن البدن وحده لا يفهم، ولا يخاطب، ولا يعقل، وإنما الذي يفهم، ويعقل، ويخاطب هو الروح.

الدليل الثالث: قول الله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (26)

ووجه الدلالة: أن الإنسان اسم لروحه وجسده.

الدليل الرابع: قوله -عليه الصلاة والسلام- « الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف »(27)

ووجه الدلالة: أن الجنود المجندة لا تكون إلا مخلوقة.

الدليل العقلي: هذه الأدلة من الكتاب، ومن السنة. الدليل الثالث: عقلي مأخوذ من الشرع، وهو أن الروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث المربوط.

أما أهل القول الثالث القائلون بالتوقف، توقف قوم فقالوا: لا نقول الروح مخلوقة، ولا غير مخلوقة، وهؤلاء لم يتبين لهم معاني النصوص، ولم يفهموها ولو تدبروها، وعرفوا معانيها، لظهر لهم أنها مخلوقة محدثة مربوبة.

ومن مباحث الروح:

هل الروح مخلوقة قبل الجسد، أم بعده؟ اختلف في الروح هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟

هذه مسألة للناس فيها قولان معروفان، حكاهما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره.

والقول الأول: أن الأرواح متقدم خلقها على خلق البدن، وممن ذهب إلى ذلك محمد بن نصر المروزي، وأبو محمد ابن حزم، وحكاه ابن حزم إجماعا.

ومن أدلة هؤلاء -أولا- قول الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ (28)

ووجه الدلالة: أن ثم للترتيب والمهلة، ودلت الآية على أن خلقنا مقدم على أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، ومعلوم قطعا أن أبداننا حادثة بعد ذلك، فعلم أنها الأرواح.

ثانيا: استدلوا بقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى (29)

ووجه الدلالة: أن هذا الاستنطاق والإشهاد، إنما كان لأرواحنا إذ لم تكن الأبدان حينئذ موجودة، كما يؤيد ذلك الأحاديث الكثيرة التي تدل على أخذ الميثاق والإشهاد عليه، مما يدل على أن الله جعلهم أرواحا، ثم صورهم واستنطقهم، فتكلموا، فأخذ عليهم العهد والميثاق.

القول الثاني: إن الأرواح تأخر خلقها عن الأجساد، واستدل هؤلاء بما يأتي -أولا- قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى (30) .

ووجه الدلالة: أن هذا الخطاب للإنسان الذي هو روح وبدن، فدل على أن جبلته مخلوقة بعد خلق الأبوين.

ثانيا قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ (31) .

وجه الدلالة: أن الآية صريحة في أن جملة النوع الإنساني أبدانا وأرواحا بعد خلق أصله، وهذا الدليل أصح من سابقه، وهذا القول الثاني هذا، هو الصواب أن الأرواح مخلوقة بعد الأجسام.

وأما أدلة الأولين القائلين بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد:

أما استدلالهم بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ (28) فإن الله -سبحانه وتعالى- رتب الأمر بالسجود لآدم على خلقنا وتصويرنا، المراد خلق أبينا آدم، وتصويره، وجه الخطاب لنا؛ لأن آدم -عليه الصلاة والسلام- هو أصل البشر، ونظيره قول الله تعالى: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ (32) خطاب لليهود في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمظلل عليه آباؤهم؛ لأن الأبناء لهم حكم الآباء.

وأما استدلالهم بآية الميثاق ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (29) الآية، فيجاب عنه بأن الآية لا تدل على خلق الأرواح قبل الأجساد خلقا مستقرا، وإنما غايتها أن تدل على إخراج صورهم وأمثالهم في صور الذر واستنطاقهم، ثم ردهم إلى أصلهم والذي صح إنما، هو إثبات القدر السابق، وتقسيمهم إلى شقي وسعيد.

وأما الآثار المذكورة، فلا تدل -أيضا- على سبق الأرواح الأجساد سبقا مستقرا ثابتا، وغايتها أن تدل بعد صحتها وثبوتها على أن بارئها وفاطرها -سبحانه وتعالى- صور النسم وقدر خلقها وآجالها وأعمالها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا تدل على أنها خلقت خلقا مستقرا، ثم استمرت موجودة حية عالمة ناطقة كلها في موضع واحد، ثم ترسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قال ابن حزم نعم يجيء جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق إليه التقدير أولا، فيجيء خلق الخارج مطابقا للتقدير السابق.

ومن مباحث الروح: هل تموت الروح؟ أم الموت للبدن وحده؟

اختلف الناس في هذا فقالت طائفة: تموت الروح، وتذوق الموت، واستدلوا بما يأتي:

أولا: قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (33) والروح نفس، فلا بد أن تذوق الموت.

ثانيا: قول الله تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (34) وقوله سبحانه: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (35) قد دلت الآيتان على أنه لا يبقى إلا الله وحده، وهذا يدل على أن الروح تموت.

ثالثا: قالوا إذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت، وهذا الدليل العقلي.

رابعا: استدلوا بقول الله تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ (36) وقوله -تعالى- عن أهل النار أنهم قالوا: ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (37) وجه الدلالة: الموتة الأولى هذه المشهودة، وهي للبدن والأخرى للروح.

خامسا: قول الله تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ (38) وهذا يدل على أن الأرواح تصعق عند النفخ، ويلزم من ذلك موتها.

القول الثاني: إن الأرواح لا تموت، وإنما تموت الأبدان، واستدلوا بما يأتي:

أولا: أن الأرواح خُلقت للبقاء، فلا تموت.

ثانيا: الحديث الدال على نعيم الروح وعذابها، بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، ولو ماتت الأرواح، لانقطع عنها النعيم والعذاب كحديث، « إن مثل روح المؤمن الطائر، يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده، يوم يبعثه »(39) وحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- وفيه قصة العبد الكافر، أنها تنتزع روحه نزعا شديدا، أو تخرج منها ريح خبيثة، وتطرح روحه إلى أرض الطرحات.

والصواب في المسألة أن يقال: موت النفوس، هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر كان هذا إيقاف الموت، وإن أريد أنها تعدم، وتفنى بالكلية، وتضمحل، وتصير عدما محضا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم، أو عذاب، ويرجح هذا، ويدل له أنه -سبحانه- أخبر أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وتلك الموتة هي مفارقة الأرواح للأجسام.

والنصوص الدالة على بقائها تحمل على بقائها منفصلة عن الجسد، وبهذا تجتمع الأدلة، ولا تختلف.

وأما استدلال الأولين على موت الروح بقوله -تعالى- حكاية عن أهل النار أنهم قالوا: ﴿ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ (37) وقوله تعالى: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (36) فالمراد أنهم كانوا أمواتا، وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحيهم يوم النشور، وليس في إماتة أرواحهم يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات.

وأما استدلالهم بآية الصعق، وهي قوله تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (38) الآية، فيجاب عن استدلالهم بأن صعق الأرواح عند النفخ في الصور، لا يلزم من موتها، وأن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وكذلك صعق موسى -عليه الصلاة والسلام- ولم يكن موتا، والذي تدل عليه الآية أن نفخة الصعق موت، كل مَن لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما مَن ذاق الموت، أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية.

ومن مباحث الروح:

تعلقها بالبدن، وأنواع تعلقها بالبدن:

الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، تتغاير في الأحكام، أي الخواص والآثار التي للبدن بسب هذا التعلق.

أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا، ويتعلق بهذا التعلق أحكام، وهو أنه ينمو الجنين، ويتحرك، ويحس، ولا يتنفس.

الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض، ومن أحكام هذا التعلق أنه يرضع، ويسمع الصوت، ويبصر، ويتكلم.

الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقه من وجه، ومن أحكام هذا التعلق، أنه يكتشف شيئا لا يراه في وقت اليقظة.

الرابع: تعلقها به في البرزخ، وهو ما بين الحياتين، حياة الدنيا وحياة الآخرة، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه إلا أنها لم تفارقه فراقا كليًّا، بحيث لا يبقى لها أيه التفات البتة، فإنه وإن ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، إلا أن هذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن، قبل يوم القيامة، فهي حياة خاصة بين حياتين حياتي الدنيا والآخرة.
ومن أحكام هذا التعلق: أنه يتهيأ له سماع خاص كسماع الملائكة، ويرى شيئا من الحقائق كان جاهلا بها، ولا يراها الحي كرؤيته المكان في الجنة أو النار.

الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد: وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، بل هي ضعيفة، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا، ولا نوما، ولا فسادا، إذن ما هو آخره الموت.
ومن أحكام هذا التعلق الصلاحية للبقاء الأبدي.
ثانيا: التمتع بنعيم الجنة، أو التألم بعذاب النار.

ومن الأحكام التي تتعلق بالروح: مبحث مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة.

اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة، هل هي في السماء أم في الأرض، وهل هي في الجنة أم لا، وهل توضع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتنعم، وتعذب فيها أم تكون مجردة؟

فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة على تفاوت درجاتهم في عليين، أو أقل، وأرواح الكفار في النار على تفاوت دركاتهم في الدرك الأسفل، أو بعده.

وهذا أرجح الأقوال وأولاها وأصحها، وهو الذي دلت عليه النصوص، قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (40) فإنه قسم الأرواح إلى ثلاثة أقسام، وهذا ذكره -سبحانه- عقب ذكر خروج الروح من البدن بالموت، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (41) الآيات.

قال غير واحد من الصحابة والتابعين: هذا يقال لها عند خروجها من الدنيا، يبشرها ملك بذلك، وحديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن الملك يقول لها: عند قبضها: « أبشري بروح وريحان »(42) وهذا من ريحان الجنة، أو يقول لها: « اخرجي إلى سخط من الله وغضب »(43) وحديث « إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة »(44) هذا إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة، ولا دين، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة بهم، هذا أصح الأقوال.

وهناك أقوال كثيرة أخرى.

قيل: إن أرواحهم بفناء الجنة على بابها.

وقيل: على أفنية قبورهم.

وقيل: إن الأرواح مرسلة.

وقيل: إن أرواح المؤمنين عند الله فقط، ولا مزيد.

وقيل: أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وروح الكافر ببراغوت بئر بحضرموت.

وقيل: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة.

وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر براغوت.

وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.

وقال بن حزم: واستقروا من حيث كانت قبل خلق أجسادها.

وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم.

وهذه الأقوال كلها تخمين لا دليل، والصواب القول الأول، وهو أن أرواح المؤمنين في الجنة على تفاوت فيما بينهم، وأرواح الكفار في النار على تفاوت، ولها صلة بالجسد.

وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض أي تفنى بفناء الأجسام، وهذا قول من يقول إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، وهذا قول فاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وهو أن الأرواح تعدم بموت البدن، كما تعدم سائر الأعراض المشروطة بحياته، وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر سبب أخلاقها وصفاتها، التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، فتصير النفس السبعية إلى أبدان السباع، والكلبية إلى أبدان الكلاب، والبهيمية إلى أبدان البهائم، والدنية والصهرية إلى أبدان الحشرات.

وهذا قول التناسخية: طائفة يسمون التناسخية منكري المعاد، وهذا أخبث الأقوال والآراء، وهو كفر والعياذ بالله، وهو قول خارج عن أقوال أهل الإسلام كلها، والصواب كما سبق أن أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار.

والذي تلخص من النصوص: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم التفاوت، فمنها: أولا: فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح بعض الشهداء لا كلهم؛ لأن من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة بدين عليه، كما في المسند عن عبد الله بن جحش، « أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدَّيْن سارني به جبريل آنفا »(45) .

ومن الأرواح من يكون محبوسا على أبواب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- « رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة »(46) ومنهم من يكون محبوسا في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه، وتلقم الحجارة كل هذا تشهد له السنة، والله أعلم.

ومن المباحث مباحث النفس هل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس نفس مطمئنة ونفس لوامى ونفس أمارة وأن منهم من تغلب عليه تغلب عليه الأخرى ويحتجون على ذلك بالآيات الثلاث قوله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (41) وقول الله: ﴿ أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة (47) وقوله تعالى: ﴿ إن النفس لأمارة بالسوء (48)

والتحقيق أنها نفس واحدة ولكن لها صفات وتسمى باعتبار كل صفة باسم فهي أمارة بالسوء لأنها دفعته إلى السيئة وحملته عليها فإذا عرضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلومه بين الفعل والترك فإذا قوي الإيمان ارت مطمئنة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم « من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن »(49) وقوله صلى الله عليه وسلم: « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن »(50) .

ومن مباحث الروح في مسمى الإنسان: هل هو الروح، أو البدن، أو مجموعهما للناس في مسمى الإنسان، هل هو الروح، أو البدن، أو مجموعهما.

للناس في مسمى الإنسان أربعة أقوال: هل هو الروح، أو للبدن فقط أو مجموعها، أو كل واحد منها، والذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان، هو البدن والروح معا، وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة.

وكذلك اختلفوا في كلام الإنسان على أربعة أقوال: هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما، والصواب أن مسمى الكلام اللفظ، والمعنى معا.

ومن مباحث الروح: تتلاقى الأرواح، تلاقي أرواح الموتي، هل تتلاقى أرواح الموتى، وتتزاور، وتتذاكر، وتتلاقى؟ أرواح الأحياء والأموات أيضا؟

جواب هذه المسألة: أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى، وتتزاور، وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي، هو على مثل عملها، فروح نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في الرفيق الأعلى، والدليل على تزاورها، وتلاقيها قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (51) وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي دار البرزخ، وفي دار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاث.

وقد أخبر الله عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل، وهذا يدل على تلاقيهم، وأما تلاقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات، فشواهد هذه المسألة وأدلتها أكثر من أن تحصر، والحس والواقع شاهد بذلك، وتلتقي أرواح الأحياء والأموات كما تلتقي أرواح الأحياء، قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (3) فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في هذه الآية قال: بلغني أن أرواح الأحياء والأموات، تلتقي في المنام، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، ويدل على ذلك -أيضا- أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره، ويخبره الميت بما لا يعلم الحي، فيصادف خبره كما أخبر في الماضي والمستقبل، وربما أخبره بمال دفنه الميت في مكان لم يعلم به سواه، وربما أخبره بدَيْن عليه، هذا معنى ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "الروح".

ومن مباحث الروح، تميز الأرواح عن بعضها:

بأي شيء تتميز الأرواح بعضها من بعض بعد مفارقتها الأبدان، إذا تجردت حتى تتعارف، وتتلاقى متى تتعارف، وتتلاقى، وهل تتشكل إذا تجردت بشكل بدنها الذي كانت فيه، وتلبس صورته أم كيف حالها؟

ويمكن جواب هذه المسألة:

لا يمكن جواب هذه المسألة إلا على أصول أهل السنة، التي تظاهرت عليها أدلة الكتاب والسنة والآثار والاعتبار والعقل، وهو القول بأنها ذات قائمة بنفسها تصعد، وتنزل، وتتصل، وتنفصل، وتخرج، وتذهب، وتجيء، وتتحرك، وتسكن وعلى هذا أكثر من مائة دليل كما قال تعالى: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ (5) وقال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي (52) وقال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (53) فأخبر أنه سوى النفس كما أخبر أنه سوى البدن في قوله: ﴿ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ (54) فهو سبحانة سوى نفس الإنسان، كما سوى بدنه، بل سوى بدنه كالقالب لنفسه، وتسوية البدن تابع لتسوية النفس والبدن موضوع له كالقالب لما هو موضوع له، ومن ها هنا يعلم أن النفس تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها تتأثر، وتنتقل عن البدن كما يتأثر البدن، وينتقل عنها، فيكتسب البدن الطيب والخبث من طيب النفس وخبثها.

وتكتسب النفس الطيب والخبث من طيب البدن وخبثه، فأشد الأشياء ارتباطا، وتناسبا، وتفاعلا، وتأثرا من أحدهما بالآخر الروح والبدن؛ ولهذا يقال لها: اخرجي أيتها النفس الطيبة -إن كانت في الجسد الطيب- واخرجي أيتها النفس الخبيثة -إن كانت في الجسد الخبيث- والأعراض دري حالها، ولا تمسك، ولا تنقل من يد إلى يد، وإذا كان هذا شأن الأرواح، فكما يجوزها بعد المفارقة، يكون أظهر من تميز الأبدان والاشتباه بينهما أبعد من اشتباه الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيرا، وأما الأرواح، فقلما تشتبه، وإذا كانت الأرواح العلوية، وهم الملائكة يتميز بعضهم عن بعض من غير أجسام تحملهم، وكذلك الجن، فتميز الأرواح البشرية أولى. هذا معني ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب "الروح".

نعم وأيضا هذا من أنفع البحوث، تتعلق بالروح بحوث كثيرة تتعلق بالروح وحقيقة الروح وحقيقة النفس والأقوال في هذا، والصواب في هذا، وكذلك -أيضا- تعلقات الروح بالبدن وأقسامها، وأقسام النفس: مطمئنة ولوامة، وكذلك -أيضا- ما يتعلق بالروح، هل تموت، أو لا تموت؟. بحوث طويلة ما نتمكن من الكلام عليها، لكن تؤجَّل فيما بعد.


(1) سورة السجدة: 11
(2) سورة الأنعام: 61
(3) سورة الزمر: 42
(4) سورة الإسراء: 85
(5) سورة الأنعام: 93
(6) سورة الأنعام: 94
(7) سورة الأنعام: 60
(8) سورة الفجر: 27 - 30
(9) مسلم : الجنائز (920) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1454) , وأحمد (6/297).
(10) النسائي : الجنائز (2073) , وابن ماجه : الزهد (4271) , وأحمد (3/456) , ومالك : الجنائز (566).
(11) البخاري : مواقيت الصلاة (595) , والنسائي : الإمامة (846).
(12)
(13) سورة النور: 61
(14) سورة النساء: 29
(15) سورة النحل: 111
(16) سورة المدثر: 38
(17) سورة الشورى: 52
(18) سورة الشعراء: 193
(19) سورة غافر: 15
(20) سورة المجادلة: 22
(21) سورة النساء: 171
(22) سورة النحل: 1
(23) سورة الحجر: 29
(24) سورة الرعد: 16
(25) سورة مريم: 9
(26) سورة الإنسان: 1
(27) مسلم : البر والصلة والآداب (2638) , وأبو داود : الأدب (4834) , وأحمد (2/527).
(28) سورة الأعراف: 11
(29) سورة الأعراف: 172
(30) سورة الحجرات: 13
(31) سورة النساء: 1
(34) سورة الرحمن: 26 - 27
(35) سورة القصص: 88
(36) سورة البقرة: 28
(37) سورة غافر: 11
(38) سورة الزمر: 68
(39) النسائي : الجنائز (2073) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1449) , وأحمد (3/455) , ومالك : الجنائز (566).
(40) سورة الواقعة: 88 - 94
(41) سورة الفجر: 27
(42) ابن ماجه : الزهد (4262) , وأحمد (2/364).
(43) أحمد (4/287).
(44) النسائي : الجنائز (2073) , وابن ماجه : الزهد (4271) , وأحمد (3/456) , ومالك : الجنائز (566).
(45) أحمد (4/139).
(46) أحمد (5/11).
(47) سورة القيامة: 1 - 2
(48) سورة يوسف: 53
(49) الترمذي : الفتن (2165) , وأحمد (1/18).
(50) البخاري : المظالم والغصب (2475) , ومسلم : الإيمان (57) , والترمذي : الإيمان (2625) , والنسائي : الأشربة (5659) , وأبو داود : السنة (4689) , وابن ماجه : الفتن (3936) , وأحمد (2/386) , والدارمي : الأشربة (2106).
(51) سورة النساء: 69
(52) سورة الفجر: 27 - 28
(53) سورة الشمس: 7
(54) سورة الانفطار: 7


 مواد ذات صلة: