شرح العقيدة الطحاوية
أقوال العلماء فيما يتعلق بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين

أقوال العلماء فيما يتعلق بعذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين

وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر، ونكير في قبره عن ربه ودينه، ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم .


نعم هذا، هو معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان بعذاب القبر، ونعيمه وأن المؤمن يوسع له في قبره من البصر، والفاجر يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وأن كل إنسان يُسأل عن ربه ودينه، ونبيه، فالمؤمن يثبته الله، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، فيقول: الله ربي والإسلام ديني، ومحمد نبي.

والفاجر لا يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة، وهو كان ينصح الناس، يسأله: من ربك؟ فيقول: ها ها لا أدري، وإذا سئل عن دينه، يقول: ها ها لا أدري، عن نبيه يقول: ها ها لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعه من خلق الله إلا الثقلين، ولو سمعها الإنسان لصعق، نسأل الله السلامة والعافية.

وأما المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، فإنهم أعملوا عقولهم، اعتمدوا على العقل كالمعتزلة وغيرهم، وتركوا النصوص وراءهم ظهريا، ومن شبههم يقولون: إن الإنسان قد خرجت روحه، فلا يتأتى ينعم أو يعذب، ونحن نقول: لا نرى إحساسا عند المقبور، ولو فتحنا قبره، فلا نرى شيئا، فلا نؤمن بشيء، لا نحس به، فلا نؤمن إلا بالمحسوس، وطريقة المعتزلة في النصوص إما أن يخطئوها من ناحية السند، أويؤولوها من ناحية المتن، ويقولون هي أخبار آحاد، ولا يُحْتَج بها في مسائل العقائد.

والمقصود أن المعتزلة وغيرهم أعملوا عقولهم، وتركوا النصوص وراءهم ظهريا، وهناك بحوث تتعلق بالشبه والجواب، عن الشبه والأسباب المنجية من عذاب القبر، وكذلك السؤال في القبر للملكين، هل هو للروح، أو للجسد أم ماذا؟ وبحوث طويلة في هذا والسؤال في القبر، هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار؟ أو يختص بالمسلم والمنافق؟ وكذلك -أيضا- بحوث تتعلق بهذا في الأطفال والمجانين، هل يمتحنون، أو لا يمتحنون؟ وكذلك خطاب الملكين جميع الموتى في الأماكن المتعددة في الوقت الواحد، وكذلك عذاب القبر وعذاب البرزخ، ووجه تسميته برزخا، وفي بيان أن عذاب القبر ينال من هو مستحق له، قُبِر، أو لم يقبر، وكذلك في بيان الحياة التي اختص بها الشهداء، كل هذه البحوث طويلة، لا نتمكن من أخذها. نعم.

بعد هذا ننتقل إلى مبحث عذاب القبر، ونعيمه، وسؤال الملكيين، أقوال العلماء في عذاب القبر، ونعيمه، وهل هو على النفس والبدن، أو على أحدهما؟ سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن هذه المسألة فقال، بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليها في هذه الحال مجتمعين، كما يكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح، هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة، وأهل الكلام.

وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والجماعة، والحديث قول مَن يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، وإن البدن لا ينعم، ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة، وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان.

الثاني: أن العذاب والنعيم للبدن لا يكون في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، وهؤلاء ينكرون عذاب البدن بالبرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي منعمة، أو المعذبة بالبرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذب الروح والبدن معا، وهذا قول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول مَن يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح.

أدلة أهل السنة وسلف الأمة وأئمتها على أن النعيم والعذاب، يحصل للروح، لروح الميت وبدنه استدل.. قبل هذا الأقوال الشاذة في عذاب القبر، ونعيمه.. الخلاصة في هذا أن في المسألة ثلاثة أقوال شاذة، وثلاثة أقوال ليست شاذة.

الأقوال الشاذة: النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح، والبدن لا ينعم، ولا يعذب مطلقا، وهذا قول الفلاسفة والمنكرين للمعاد، لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين.

الثاني: قول من ينكر عذاب الروح مطلقا الروح بمفردها لا تنعم، ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره.

الثالث: أن البرزخ ليس فيه نعيم، ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تكون الساعة الكبرى، وهذا يقوله بعض المعتزلة، ونحوهم، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم، ولا يعذب.

وأما مَن يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، فلهم ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه على الروح فقط، ويقول بهذا كثير من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام، وهو اختيار ابن حزم وطوائف من المسلمين من أهل الحديث وأهل الكلام.

الثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.

الثالث: أنه على البدن فقط.

أما مذهب سلف الأمة وأئمتها: فإن الميت إذا مات يكون في نعيم، أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقي بعد مفارقة البدن منعمة، أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا، ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقام الناس من قبورهم لرب العالمين، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، فمن أنكر معاد الأبدان، فهو كافر بإجماع المسلمين، وبنص القرآن، واستدل أهل السنة وسلف الأمة على أن النعيم والعذاب، يحصل لروح الميت وبدنه بأدلة استدلوا بالكتاب والسنة، أما الكتاب:

أولا: قول الله تعالى: ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (1)
ووجه الاستدلال أن الله أخبر في أول الآية، أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا، ثم قال في الختام: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (2) فدل على أن العرض السابق إنما هو في القبر قبل يوم القيامة، وهذا يدل على إثبات عذاب القبر.

ثانيا: قول الله تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (3)
ووجه الدلالة: أن قوله: ﴿ عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ (4) يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيان وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر؛ لأن كثيرا منهم مات، ولم يعذب في الدنيا، أو أن المراد أعم من ذلك، فيشمل مجموع الأمرين عذابهم في الدنيا أو في البرزخ، وعلى كل حال، ففيه إثبات عذاب القبر.

وأما السنة: فقد تواترت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثبوت عذاب القبر، ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، تواترت معنى لا لفظا، وهو يفيد اليقين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوفا على كيفيته، ومن هذه الأدلة:

أولا: حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما- وفيه « أعوذ بالله من عذاب القبر »(5) وفيه في قصة العبد المؤمن، فيقول: « أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء »(5) وفيه « فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها »(5) وفيه قصة العبد الكافر فيقول: « أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها، كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول »(5) وفيه « فينادي مناد من السماء أن كذب، فافرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها »(5) .

وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة، والحديث له شواهد من الصحيح منها: ما ذكره البخاري -رحمه الله- عن سعيد عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم »(6) إلى قوله: « فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول: له انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا »(6) .

قال قتادة: وروي لنا أنه « يفسح له في قبره »(7) وهذا هو الحديث الثاني.

الثالث: ما في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- « مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا »(8) وروي عنه...

رابعا: ففي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر، والآخر النكير.. »(9) الحديث.

خامسا: وفي صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- « أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلمه هذا الدعاء كما يعلمه السورة من القرآن: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال »(10) .

أما المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، فلهم شبه:

تعلق المنكرون لعذاب القبر، ونعيمه، وسعته، وضيقه، وكونه حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، وكون الميت يجلس، ويقعد فيه، هؤلاء الذين أنكروا عذاب القبر، ونعيمه من الملاحدة والزنادقة، ومن تبعهم من أهل الكلام كالمعتزلة، تعلقوا بشبه عقلية، حكموا فيها عقولهم قاسوا فيها الغائب على الشاهد، وقاسوا أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، فقالوا: إننا نكشف القبر، فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات، ولا ثعابين، ولا نيرانا تتأجج، ولو كشفناه في حالة من الأحوال، لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق، وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره، أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرنا، فلم يزد ولم ينقص، وكيف يتسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة؟ والصورة التي تؤنسه، أو توحشه؟

وقال أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم: كل حديث يخالف مقتضى العقول والحس، يقطع بتخطئة قائلة. قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل، ولا يجيب، ولا يتحرك، ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع، ونهشته الطيور، وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان، ومدارج الرياح، كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها؟ وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه؟ وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة؟ أو حفرة من حفر النار؟ وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه.

والجواب عن هذه الشبه من وجوه:

أولا: أن الرسل لم يخبروا بما تخيلته العقول، وتقطع باستحالته، ولكن الرسل يخبرون بما تحار به العقول، فإن أخبارهم قسمان: أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر، والثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها، عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب.

ثانيا: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل الدور ثلاثة: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن، ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم الحشر وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعا.

ثالثا: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل أمر الآخرة، وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته؛ وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، وهب أن النار التي في القبر والخضرة، ليست من نار الدنيا، ولا من زرع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرتها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرتها، وهي أشد من نار الدنيا، فلا يحس به أهل الدنيا، فإن الله -سبحانه- يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه، وتحته حتى يكون أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك الثاني في روضة من رياض الجنة، لا يصل روحها، ونعيمها إلى جاره.

خامسا: أن الله -سبحانه وتعالى- يحدث في هذه الدار ما هو أبلغ من ذلك، فقد أرانا الله فيها من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، من ذلك:

أولا: جبريل -عليه الصلاة والسلام- كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتمثل له رجلا، ويكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يراه، ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء.

ثانيا: الجن موجودون، ولا نراهم، ويتحدثون، ويتكلمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمعهم.

ثالثا: الملائكة تضرب الكفار بالسياط، وتضرب رقابهم، وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم، ولا يسمعونهم،.. كلامهم في غزوة بدر وغيرها.

رابعا: النخل والحنظل كل منهما يشرب من ماء واحد، ويختلف الطلع، كذلك -أيضا- مما وقع في العصر الحاضر الكهرباء،، تكهرب مَن على الأرض، ولا تكهرب من على الخشب، فهذه كلها أمور أراد الله إياها في الدنيا.

وطريقة المعتزلة في النصوص، إما أن يخطئوها من ناحية السند، أو يؤولوها من جهة المتن، كما قالوا في حديث البراء بن عازب قالوا: إنه آحاد فلا يحتج به في مسألة العقائد.

والجواب: أن هذه الشبه مبنية على قياس الفارق، وهو قياس الغائب على الشاهد، وقياس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا، وهذا ليس بصحيح، وهو خوض في أمر الغيب، فأحوال الآخرة مجهولة لنا، وأحوال الدنيا معلومة لنا، فكيف يقاس مجهول على معلوم؟ وكيف يقاس الغائب على الشاهد؟ فإن الله لا يقاس بخلقه، وسر المسألة أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار، التي في القبر ليست من جنس المعهود في هذا العالم، وعود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا، والله -سبحانه وتعالى- إنما أشهد بني آدم ما كان فيها، ومنها فأما ما كان من أمر الآخرة، فقد أسبل عليه الغطاء؛ ليكون الإقرار به والإيمان سببا لسعادتهم، فإذا كشف عنهم الغطاء، صار عيانا مشاهدة.

ويجاب عن طعن المعتزلة في حديث البراء، بأنه يقال بأنه، وإن كان آحادا، فله شواهد يرتقي بها، ويقال: إن الأخبار تواترت معنى لا لفظا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثبوت عذاب القبر، ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وتفيد اليقين، فتصلح للاحتجاج بها في العقائد، بل إنه إذا صح الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه يحتج به في العقائد وغيرها، ولو كان خبر آحاد، وتقسيم الأخبار إلى قسمين: خبر آحاد، لا يحتج به في العقائد، وخبر متواتر يحتج به في العقائد هذا إنما ابتدعه أهل البدع من المعتزلة وغيرهم.

والحكمة في عدم اطلاع الثقلين على ما يحصل للمقبور في قبره:

قال العلماء: الحكمة في ذلك هي أن الله - تعالى- لو أطلع عباده على ما يحدث للمقبور في قبره، لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس كما في الصحيحين عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله، أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع »(11) ولما كانت الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته؛ ولأن الناس لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والعبد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثير ممن أشهده الله ذلك صعق وأغشي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنا، وبعضهم كشف قناع قلبه، فمات.

الأسباب التي.. في عذاب القبر التي يعذب بها أصحاب القبور:

الأسباب نوعان: نوع مجمَل، ونوع مفصَّل:

أما المجمل: فإن الميت، فإن أهل القبور المعذبين، إنما يعذبون على جهلهم بالله -تعالى- وإضاعتهم لأمره وارتكابهم لمعاصيه، فلا يعذب الله روحا عرفته، وأحبته، وامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ولا بد إن كانت فيه أبدا، فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة، أثر سخط الله على عبده،، ومن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار، ثم لم يتب، فمات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه، ومستقل، ومستكثر، ومصدق، ومكذب.

وأما السبب المفصَّل: فهي كما ورد في النصوص، أن النميمة وعدم الاستبراء من البول، وأكل لحوم الناس، ومن صلى صلاة بغير طهور، ومن مر على مظلوم فلم ينصره، ومن كذب الكذبة، فتبلغ الآفاق، ومن يقرأ القرآن، وينام عنه بالليل، ولا يعمل به بالنهار، ومن تتثاقل رءوسهم عن الصلاة، ومن لا يؤدي زكاة ماله والزاني، ومن يقوم في الفتن بالكلام والخطب، والغلول من الغنيمة، وأكل الربا، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما، يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخر الاستبراء من البول، فهذا ترك الطهارة الواجبة، وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقا، وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب والزور والبهتان، أعظم عذابا، كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة، التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها، هو أشد عذابا وفي حديث شعبة « أما أحدهما، فكان يأكل لحوم الناس »(12) فهذا مغتاب، وذلك نمَّام.

وفي حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه نارا؛ لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور، ومرَّ على مظلوم فلم ينصره. وفي حديث سمرة في صحيح البخاري في تعذيب من يكذب الكذبة، فتبلغ الآفاق، وتعذيب من يقرأ القرآن، ثم ينام عنه بالليل، ولا يعمل به بالنهار، وتعذيب الزناة والزواني، وتعذيب آكل الربا كما شاهدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في البرزخ. وفي حديث أبي هريرة، الذي فيه رضخ رءوس أقوام بالصخر؛ لتثاقل رءوسهم عن الصلاة، والذين يسرحون بين الضريع والزقوم؛ لتركهم زكاة أموالهم، والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم، والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد؛ لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحب الشملة، التي غلَّها من المغنم، أنها تشتعل عليه نارا في قبره، هذا وله فيها حق، فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه، وبالجملة، فعذاب له فيه، فعذاب القبر عن معاصي القلب والعين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله.

الأسباب المنجية من عذاب القبر:

سببان: سبب مجمل، وسبب مفصَّل:

أما المجمل: فهو تجنب الأسباب التي تقتضي عذاب القبر، ومن أنفعها أن يجلس الرجل -عندما يريد النوم- لله ساعة يحاسب نفسه فيها على ما خسره وربحه في يومه، ثم يجدد له توبة نصوحا بينه وبين الله فينام على تلك التوبة، ويعزم على أن لا يعاود الذنب إذا استيقظ، ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبل للعمل مسرورا بتأخير أجله، حتى يستقبل ربه، ويستدرك ما فاته، وليس للعبد أنفع من هذه النومة، ولا سيما إذا عقَّب ذلك بذكر الله واستعمال السنن، التي وردت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند النوم، حتى يغلبه النوم، فمن أراد الله به خيرا وفقه لذلك، ولا قوة إلا بالله.

وأما السبب المفصل: فهو مما دلَّت عليه الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ينجي من عذاب القبر، فمنها:

أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن سلمان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: « رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات أجرى عليه عمله، الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتَّان »(13) .

ثانيا: في جامع الترمذي حديث فضاله بن عبيد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر »(14) .

وثالثا: ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- « أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة »(15) ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم- في سورة الملك، هي المانعة، هي المنجية، تنجيه من عذاب القبر، ومنها ما في سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: « مَن مات مقتولا، مات شهيدا، ووقي فتنة القبر »(12) .

ومن مباحث عذاب القبر ونعيمه:

ما يتعلق بذلك السؤال في القبر من الملكيين:

هل هو للروح أم ماذا؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الأحاديث الصحيحة المتواترة، تدل على عود الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس، وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون، فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله بن مُرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص، وترجيح مذهب الجمهور أنه للروح والبدن، قالوا: قد كفانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر هذه المسألة وأغنانا عن أقوال الناس، حيث صرح بإعادة الروح إليه في أحاديث كثيرة: منها أولا:

حديث البراء بن عازب، وفيه « فتعاد الروح في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وعملت به، وصدقت »(16) وفي قصة العبد الكافر، « فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له من ربك فيقول: هاها لا أدري، ويقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاها لا أدري.. »(17) الحديث، وذهب إلى القول بموجب هذا الحديث جميع أهل السنة، والحديث بسائر الطوائف، قال ابن منده -بعد سياق حديث البراء-: هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفاظ، ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه، بل رووه في الكتب، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر، ونعيمه، ومسائلة، ومنكر، ونكير، وقبض الأرواح، وصعودها بين يدي الله، ثم رجوعها إلى القبر.

ثانيا: ما ذكره البخاري عن سعيد عن قتادة عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم.. »(6) إلى قوله: « وأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا »(18) .

ثالثا: وفي صحيح ابن أبي حاتم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا قبر أحدكم، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير. . الحديث.

ومن مباحث السؤال في القبر:

هل هو عام في حق المسلمين والمنافقين والكفار؟ أو يختص بالمسلم والمنافق؟

قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد": من الآثار الدالة، التي تدل على أن الفتنة في القبر، لا تكون إلا للمؤمن أو المنافق، أو كان منسوبا إلى أهل القبله، ودين الإسلام ظاهره بالشهادة، وأما الكافر الجاحد المبطل، فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، ونبيه وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت الله الذين آمنوا، ويرتاب المبطلون، والقرآن والسنة يدلان على خلاف هذا القول، وأن السؤال للكافر والمسلم من ذلك قول الله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (19) .

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم »(6) وذكر الحديث، زاد البخاري « وأما المنافق والكافر، فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ويضرب بمطرقة من حديد، يصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين »(20) هكذا في البخاري، « وأما المنافق والكافر »(20) بالواو وفي حديث أبي سعيد الخدري: « كنا في جنازة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دفن، وتولى عنه أصحابه جاءه ملك، وفي يده مطرقة، فأقعده، فقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فيقول له: صدقت، فيفتح له باب إلى النار، فيقول هذا منزلك لو كفرت بربك، وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت، ولا اهتديت، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقول له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت، فإن الله أبدلك به هذا، ثم يفتح له باب إلى النار »(21) الحديث.

وفي حديث البراء بن عازب الطويل وأما الكافر إذا كان في قُبُل من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزل عليه الملائكة من السماء، معهم مسوح وذكر الحديث إلى أن قال: « ثم تعاد روحه في جسده في قبره »(12) وذكر الحديث، وفي بعض روايات حديث البراء: وأما الفاجر واسم الفاجر في عرف القرآن والسنة يتناول الكافر قطعا، وهذه الأدلة صريحة في أن السؤال للكافر والمنافق، كما رواه مسلم، وأما قول أبي عمر بن عبد البر -رحمه الله-: وأما الكافر الجاحد المنكر فليس ممن يسأل عن ربه ودينه، فيقال له ليس كذلك، بل هو من جملة المسئولين، وأولى بالسؤال من غيره، وقد أخبر الله في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (22) وقال تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (23) فإذا سئلوا يوم القيامة، فكيف لا يسألون في قبورهم.

من المباحث في عذاب القبر - لأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، ووجه تسميته برزخا. .

ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ، ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (24) وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وسمي عذاب القبر، ونعيمه، وأنه روضة، أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق وعذاب القبر، يناله من هو مستحق له. هذا المبحث في أن عذاب القبر يناله من هو مستحق له قُبر أو لم يقبر، عذاب القبر، هو عذاب البرزخ، كل من مات، وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبر أو لم يقبر، فمن أكلته السباع، أو احترق حتى صار رمادا، ونشر في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وكذلك المصلوب، ومن أكلته الطيور لهم من عذاب البرزخ، ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، حتى لو علق الميت على رءوس الأشجار في مهب الرياح لأصاب جسمه من عذاب البرزخ حظه، ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في تابوت من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما والهواء على ذلك نارا وسموما، فعناصر العالم، ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها، يصرفها كيفما يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده.

وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه، ونحو ذلك، فهو حق، ويجب أن يفهم عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مراده من غير غلو، ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمل، ولا يقصر به عن مراده ما قصده من الهدى والبيان، وكم حصل بإهمال ذلك، والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، وسوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، والله المستعان.

ومن المباحث في عذاب القبر:

هل هو دائم أو منقطع؟

والجواب: أنه نوعان: نوع دائم، وهو عذاب الكفار، ويدل عليه قول الله تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (2) .

ثانيا: حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما- في قصة الكافر، « ثم يفتح له باب إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة »(12) رواه الإمام أحمد، وفي بعض طرقه « ثم يخرق له خرقا إلى النار، فيأتيه من عذابها ودخانها إلى يوم القيامة »(12)

النوع الثاني: عذاب إلى مدة مؤقتة، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة، ثم يزول عنه العذاب،، ومنه.. وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو سبب حج تصل إليه من أقاربه أو غيرهم، وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا، فيخلص من العذاب بشفاعته، لكن هذه شفاعة قد لا تكون بإذن المشفوع عنده، والله -سبحانه- لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأمن للشافع أن يشفع، إذا أراد أن يرحم المشفوع له.

ومن المباحث: في ضغطة القبر وضمته: وهل ينجو منها، ومن السؤال وفتنة القبر أحد؟

ورد في ضغطة وضمته لكل أحد، ورد أن ضغطة القبر وضمته لكل أحد، وكذلك السؤال والفتنة في القبر، جاءت النصوص بأن ضغطة القبر وضمته لكل أحد، وكذلك السؤال والفتنة في القبر، وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن للقبر ضغطة لو كان أحد منها ناجيا نجى سعد بن معاذ »(25) .

قال بعضهم: الفرق بين المسلم والكافر في ضمة القبر دوامها للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله، إى قبره، ثم يعود الانفساح له فيه، والمراد بضغطة القبر ارتفاع جانبيه على جسد الميت، قال بعضهم: سبب هذه الضغطة أنه ما من أحد إلا، وقد ألم بخطيئة ما، وإن كان صالحا، فجعلت هذه الضغطة جزاء لها، ثم تدركه الرحمة؛ ولذلك ضغط سعد بن معاذ -رضي الله عنه- وأما الأنبياء فلا نعلم أن لهم في قبورهم ضمة، ولا سؤالا لعصمتهم؛ لأن السؤال عن الأنبياء، وما جاءوا به فكيف يسألون عن أنفسهم؟.

وأما الحياة التي اختص بها الشهداء، وامتازوا بها عن غيرهم في قوله تعالى ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (26) وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (27) هي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر، كما في حديث عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « لما أصيب إخوانكم - يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، تلج أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، مظللة في ظل العرش »(28) الحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود وابن عوانة في حديث ابن مسعود، رواه مسلم، فإنه لما بذلوا أبدانهم لله -عز وجل- حتى أتلفها أعداء الدين، أعالهم عنها في البرزخ أبدانا خيرا منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها؛ ولهذا كان نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين.

ففي الموطأ أن كعب بن مالك يحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه »(29) فقوله: « نسمة المؤمن »(29) يعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: « هو في جوف طير خضر »(30) ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير، صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر، وهو أنها طائر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكبر من نصيب غيرهم في الأموات على فرشهم، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم، فللشهيد نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما روي في السنن.

وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنهم كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم حشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم، وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول.

وأما القول الفرق بين الميت على فراشه والشهيد: فالشهيد له خصوصية، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم كمحمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى من الشهيد من ناحية النبوة، وحمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- شهيد، فله امتياز غير ما يكون للنبي في ناحية، وإن كان أقل من نبيه، وإن كان أقل نبي أفضل من أي شهيد.

ومن المباحث التي تتعلق بعذاب القبر:

سؤال يردده بعض الناس، وهو ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن، مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به؟

والجواب من وجهين: مجمل، ومفصل:

أما المجمل: فهو أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (31) ثم قال: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (32) وقال ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (33) والكتاب، هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق الشرع، وما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو في وجوب تصديقه والإيمان به، كما أخبر الله به في كتابه، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكره إلا من ليس منهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- « إني أوتيت الكتاب، ومثله معه »(34) .

وأما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكوران في القرآن في غير موضع منها قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (35) وهذا خطاب لنا عند الموت، وقد أخبرت الملائكة أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ومنها قوله تعالى: ﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا (2) إلى قوله: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (2) ومنها قوله تعالى: ﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (36) إلى قوله: ﴿ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ (4) .


(1) سورة غافر: 45 - 46
(2) سورة غافر: 46
(3) سورة الطور: 45 - 47
(4) سورة الطور: 47
(5) أبو داود : السنة (4753) , وأحمد (4/295).
(6) البخاري : الجنائز (1338) , ومسلم : الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2870) , والنسائي : الجنائز (2051) , وأبو داود : الجنائز (3231) , وأحمد (3/126).
(7) البخاري : الجنائز (1374) , وأحمد (3/126).
(8) البخاري : الوضوء (216) , ومسلم : الطهارة (292) , والترمذي : الطهارة (70) , والنسائي : الجنائز (2069) , وأبو داود : الطهارة (20) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (347) , وأحمد (1/225) , والدارمي : الطهارة (739).
(9) الترمذي : الجنائز (1071).
(10) مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (590) , والترمذي : الدعوات (3494) , والنسائي : الجنائز (2063) , وأبو داود : الصلاة (1542) , وابن ماجه : الدعاء (3840) , وأحمد (1/311) , ومالك : النداء للصلاة (499).
(11) مسلم : الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2868) , والنسائي : الجنائز (2058) , وأحمد (3/175).
(12)
(13) مسلم : الإمارة (1913) , والنسائي : الجهاد (3168) , وأحمد (5/440).
(14) الترمذي : فضائل الجهاد (1621) , وأبو داود : الجهاد (2500).
(15) النسائي : الجنائز (2053).
(16) أبو داود : السنة (4753) , وأحمد (4/287).
(17) البخاري : الجنائز (1338) , والنسائي : الجنائز (2051) , وأبو داود : السنة (4751) , وأحمد (3/126).
(18) البخاري : الجنائز (1374) , ومسلم : الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2870) , والنسائي : الجنائز (2051) , وأبو داود : السنة (4751) , وأحمد (3/126).
(19) سورة إبراهيم: 27
(20) البخاري : الجنائز (1374) , والنسائي : الجنائز (2051) , وأبو داود : السنة (4751) , وأحمد (3/126).
(21) أحمد (3/3).
(22) سورة القصص: 65
(23) سورة الحجر: 92 - 93
(24) سورة المؤمنون: 100
(25) أحمد (6/55).
(26) سورة آل عمران: 169
(27) سورة البقرة: 154
(28) أبو داود : الجهاد (2520) , وأحمد (1/265).
(29) النسائي : الجنائز (2073) , وابن ماجه : الزهد (4271) , وأحمد (3/456) , ومالك : الجنائز (566).
(30) مسلم : الإمارة (1887) , والترمذي : تفسير القرآن (3011) , وابن ماجه : الجهاد (2801) , والدارمي : الجهاد (2410).
(31) سورة النساء: 113
(32) سورة الجمعة: 2
(33) سورة الأحزاب: 34
(34) أبو داود : السنة (4604).
(35) سورة الأنعام: 93
(36) سورة الطور: 45


 مواد ذات صلة: