شرح العقيدة الطحاوية
الاستطاعة تكون مع الفعل وقبله

الاستطاعة تكون مع الفعل وقبله

والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق، الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به، فهي مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن، وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال -تعالى- ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (1) .


هذا المبحث يسمى مبحث الاستطاعة، والاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع بمعنى واحد، هذا المبحث يسمى مبحث الاستطاعة.

الاستطاعة: ما معنى الاستطاعة، أي القدرة والطاقة والوسع، كون الإنسان يستطيع يفعل الشيء، يقدر على فعل الشيء، يتمكن من فعل الشيء، يسعه فعل الشيء، هذا يسمى استطاعة، يسمى طاقة، يسمى قدرة، ووسع.

مبحث الاستطاعة: هل العباد يستطيعون، أو لا يستطيعون؟ هل لهم استطاعة؟ هل لهم قدرة؟ وهل الاستطاعة والقدرة نوع واحد، أو نوعان؟ هذا يسمى مبحث الاستطاعة والقدرة، والناس لهم في ذلك ثلاث مذاهب كم مذهب؟ ثلاثة مذاهب المذهب:

الأول: أن الاستطاعة والطاقة والقدرة نوع واحد فقط، وهي التي تكون مع الفعل مقارنة للفعل، ما تكون قبل الفعل، بمعنى التوفيق للفعل، وهذا مذهب الجبرية الجهمية، والأشاعرة يقولون: ما في طاقة إلا نوع واحد تكون مع الفعل، أما قبل الفعل فلا.

المذهب الثاني: أنها نوع واحد، ولكنها تكون قبل الفعل، ومعناها، وهي التي بمعنى توفر الأسباب، والآلات وهذا مذهب القدرية والمعتزلة.

المذهب الثالث: أن الاستطاعة نوعان: نوع يكون مع الفعل، بمعنى التوفيق والقدرة، ونوع يكون قبل الفعل بمعنى توفر الأسباب والآلات، يعني فكأن أهل السنة أثبتوا، قالوا: الاستطاعة نوعان: نوع يكون قبل الفعل، ونوع يكون مقارن للفعل، فالذي يكون مع الفعل يسمى بمعنى التوفيق والتسديد، والذي يكون قبل الفعل معناه توفر الأسباب والآلات.

الجبرية هم والجهمية والأشاعرة ما أثبتوا إلا النوع الأول، الذي يكون مع الفعل، والمعتزلة والقدرية ما أثبتوا إلا النوع الثاني الذي يكون قبل الفعل، وأهل السنة أثبتوا النوعين، فإذن أقسام الاستطاعة عند أهل السنة كم نوع؟ نوعان:

النوع الأول: الاستطاعة بمعنى التوفيق، وهي القدرة الموجبة للفعل، التي هي مقارنة للمخلوق.

النوع الثاني: استطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، وهي القدرة الشرعية المصححة للفعل.

المقارنة بين النوعين: نريد الآن، نعرف مقارنة حتى يتبين، الآن نريد أن نحدد ما هي الأولى وما هي الثانية.

الأولى الاستطاعة التي بمعنى توفر الأسباب والآلات: هذه الأولى.

والثانية استطاعة بمعنى أيش بمعنى التوفيق.

الأولى الاستطاعة بمعنى التوفيق هذه الأولى، الاستطاعة بمعنى التوفيق، وهي المقارنة للفعل هذه الأولى.

الثانية: استطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، وهي التي تكون قبل الفعل.

المقارنة بينهما: الأولى ليست مناط التكليف، فلا يتعلق بها الخطاب، خطاب الشارع، والثانية هي مناط التكليف، فلا يتعلق بها الخطاب، خطاب الشارع، يعني الأولى ليست مناط التكليف، يعني الله -تعالى- لا يكلف العبد إلا إذا كانت معه الثانية، الثانية: التي هي منها توفر الأسباب والآلات هذا هو المكلف، وإذا فقدت الثانية لا يكلف العبد؛ ولهذا نقول: الأولى ليست مناط التكليف، فلا يتعلق بها خطاب الشارع، ما هي الأولى؟ الاستطاعة بمعنى المقارنة للفعل، وهي التي بمعنى التوفيق، والثانية: هي مناط التكليف، وبها يتعلق الخطاب، هذا واحد.

الفرق الثاني: الأولى تكون مع الفعل، فلا تتقدمه، وهي الاستطاعة بمعنى التوفيق تكون مع الفعل، فلا تتقدمه، والثانية قد تتقدم الفعل، وقد تصحبه، تكون قبل الفعل، وتكون مع الفعل.

الفرق الثالث: الأولى خاصة بالمؤمن، ما هي الأولى الاستطاعة بمعنى التوفيق، التي تكون مع الفعل، الأولى خاصة بالمؤمن، والثانية عامة للمؤمن والكافر.

الفرق الرابع: الأولى ليست صفة للمخلوق، بل هي صفة لله، الأولى ليست صفة للمخلوق، وهي التوفيق، بمعنى التوفيق، فإن الله -تعالى- هو الموفق للفعل، القدرة بمعنى المقارنة للفعل، هذا التوفيق إنما هو من الله ليس من العبد، والثانية صفة للمخلوق، وهي توفر الأسباب والآلات.

الفرق الخامس: الأولى لا يتخلف عنها الفعل، الاستطاعة يعني: المقارنة إذا وجدت لا يتخلف الفعل لا بد أن يحصل الفعل، والثانية قد يتخلف عنها الفعل، قد يحصل، وقد لا يحصل.

الفرق السادس: الأولى ضدها الخِذلان، والثانية ضدها العجز هذه ستة فروق، إذا عرفتها وضبطتها، تبين لك وعرفت الفرق بينهما.

إذن نقول: المذاهب في هذه المسألة ثلاثة: الجبرية: أثبتت الجبرية قدرة واحدة، وهي الأولى بمعنى التوفيق، فقالوا: لا تكون القدرة إلا مع الفعل، وهذا مذهب الجهمية والأشعرية والماتريدية، والمذهب الثاني: للقدرية والمعتزلة، أثبتوا قدرة واحدة، وهي الثانية التي بمعنى توفر الأسباب والآلات، فقالوا: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل، والمذهب الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة، أثبتوا القدرة بنوعيها التي بمعنى التوفيق، والتي بمعنى توفر الأسباب والآلات.

من أدلة الجبرية: استدلوا بقول الله تعالى: ﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (2) قوله سبحانه: ﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ (2) يعني لم يوفق هذه الاستطاعة بمعنى القدرة الموافقه للفعل ﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (2) فقوله سبحانه: ﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (2) يعني ما كانوا يقدرون ﴿ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ (2) يعني سمع القرآن والمواعظ يعني سمع التنفيذ والعمل، يعني ما كانوا يستطيعون ذلك؛ لأن الله لم يوفقهم، ما كانوا يقدرون على ذلك؛ لأن الله ما وفقهم؛ لأن الله خذلهم، فلم يوفقهم لسماع القبول والتنفيذ، فهم لا يقدرون؛ لأن الله لم يوفقهم.

نقول: هذا صحيح، نثبت النوع الأول للقدرة، لكن هناك نوع آخر أثبتته الأدلة الأخرى، وكذلك قول الله تعالى عن موسى: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (3) قول الخضر لموسى: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (3) هل موسى ما عنده أسباب وآلات يستطيع بها الصبر؟ لا عنده، والمعنى إنك لن تقدر، أن تسكت؛ لأن ما تراه مخالفا لظاهر الشرع، فموسى ما صبر. قال له الخضر: اصبر قال له موسى: سأصبر، قال له الخضر: لا ما تستطيع الصبر؛ ولذلك ما صبر موسى لما رآه خرق السفينة وقتل الغلام، وأقام الجدار أنكر؛ لأن موسى من شدة غيرته ما يسكت، فهو يرى أن ما فعله الخضر مخالفا لظاهر الشرع؛ ولذلك أنكر عليه، وليس المعنى أنه ليس معه استطاعة، وليس معه آلات.

وأما المعتزلة، فاستدلوا بقول الله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (4) قالوا: فهذه الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، ولو كان المراد بها الاستطاعة كما تقول الجبرية التي مع الفعل، لم يكن الله قد أوجب الحج إلا على من حج، وأما من لم يحج، فلا يطالب بالحج، هذا باطل، فدل على أن المراد بالاستطاعة بمعنى توفر الأسباب والآلات، ومثله -أيضا- قول الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (5) أوجب الله التقوى على المستطيع، والمراد بالمستطيع الذي معه القدرة على التقوى، وليس المراد المستطيع الذي فعل التقوى في الحال، وإلا لما أوجب الله، وإلا لم تكن الاستطاعة واجبة إلا على من اتقى بالفعل، فدل على أن المراد بالاستطاعة، الاستطاعة بمعناها توفر الأسباب والآلات.

ومن أمثلة ذلك قول الله تعالى عن المنافقين: ﴿ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ (6) المنافقون في غزوة تبوك تأخروا، فلما أنكر عليهم المسلمون قالوا: ما نستطيع ﴿ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ (6) هل عندهم أسباب وآلات، يستطيعون الخروج أم ما عندهم؟ عندهم، فلو كان المراد بالاستطاعة نفس الفعل، لما كذبهم الله في قوله: ﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (6) فدل على أن المراد بالاستطاعة معنى: الأسباب والآلات، عندهم قدرة، استطاعة، يستطيعون، يتجهزون، ويمشون مع المسلمين، لكن الله خذلهم.

والجواب: أجاب أهل السنة بأن الأدلة التي استدل بها الجبرية تثبت النوع الأول من القدرة، والأدلة التي استدل بها القدرية والمعتزلة تثبت النوع الثاني، وكل من الاستطاعتين حق، وقالوا لهم: أنتم أيها الجبرية أثبتم نوعا من الاستطاعة، واستدللتم له بالأدلة، وهذا حق، لكن الباطل كونكم أنكرتم النوع الثاني من الاستطاعة، وقالوا للقدرية والمعتزلة: أنتم أثبتم نوعا من القدرة والاستطاعة، وهي الاستطاعة بمعنى توفر الأسباب، وهذا حق، والنوع الأول لم تثبتوه، وهذا باطل، وأما نحن، فنثبت نوعي الاستطاعة، ونستدل بأدلتكم -أيها الجبرية- على النوع الأول، ونستدل بأدلتكم -أيها المعتزلة والقدرية- على النوع الثاني، وبذلك تتفق الأدلة ولا تختلف. نعم.

والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل .

نعم هذه الاستطاعة التي يجب بها الفعل، يعني يوجد بها الفعل من نحو التوفيق يعني: معناه معنى التوفيق والتسديد للفعل، هذه ليست صفة المخلوق، بل هي صفة لله، الله هو الموفق هذه الاستطاعة، التي يجب بها الفعل، يعني يوجد بها الفعل متي يوجد الفعل؟ إذا وفقك الله، فإن لم يوفقك، فلا يوجد الفعل، والتوفيق ممن؟ من الله، إذن الاستطاعة التي يجب بها الفعل، ويوجد بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به، وإنما هو وصف لله، فالله هو الموفق، وهو الهادي، وهو الذي يخلق الهداية في القلوب، ويجعل الإنسان يختار الحق، ويرضى به، ويريده، ويخلق الله الإرادة والهداية في قلبه، فيوجد الفعل. نعم.


(1) سورة البقرة: 286
(2) سورة هود: 20
(3) سورة الكهف: 67
(4) سورة آل عمران: 97
(5) سورة التغابن: 16
(6) سورة التوبة: 42


 مواد ذات صلة: