شرح العقيدة الطحاوية
انتفاع الأموات بسعي الأحياء

انتفاع الأموات بسعي الأحياء

وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات .


وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات، دعاء الأحياء، الأحياء جمع حي، وصدقاتهم منفعة للأموات المعنى أن الأموات ينتفعون من دعاء الحي إذا دعا لهم وينتفعون من الصدقات وهذه المسألة تسمى إهداء الثواب للميت، هل ينتفع بها أو لا ينتفع؟ هذه المسألة تسمى أيش، مسألة إهداء الثواب ثواب العمل الصالح للميت، فهل ينتفع الأموات بسعي الأحياء سعيهم يعني أعمالهم أو لا ينتفعون؟

المسألة فيها مذاهب:

المذهب الأول لأهل البدع بعضهم ينسبه إلى المعتزلة قالوا: لا ينتفع الميت من سعي الحي إلا بما تسبب به في حياته؛ لأنه تابع لما عمله في حياته وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه واضح هذا.

إذن مذهب أهل البدع: لا ينتفع الميت من سعي الحي إلا بالشيء الذي تسبب به في حياته، مثل أيش؟ مثل وقف صدقة تسبب به في حياته هذا ينتفع به، مثل علم، مؤلفات ألفها، أو تلاميذ درسهم وانتفعوا، يستفيد من علمه، وكذلك مصاحف طبعها أو كتب علمية طبعها أو أولاد صالحين رباهم فدعوا له، كما جاء في الحديث: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له »(1) الذي تسبب به في حياته ينتفع به، وما لم يتسبب فيه فلا ينتفع به.

القول الثاني: وهو مذهب ينسب إلى المالكية والشافعية قالوا: ينتفع الميت بما تسبب به في الحياة وبالدعاء والصدقة والحج وهي التي تسمى بالأعمال المالية التي تدخلها النيابة، هم يقولون ينتفع الميت بشيئين:

الشيء الأول ما تسبب به في الحياة كما قال المعتزلة. والنوع الثاني الأعمال المالية التي تدخلها النيابة مثل الدعاء دعا له إنسان يستفيد، مثل الصدقة تصدق عنه إنسان يستفيد مثل الحج والعمرة حج عنه مثل الأضحية، أما الأعمال البدنية فلا يستفيد منها مثل الصلاة مثل الطواف مثل الذكر مثل قراءة القرآن فلا يستفيد واضح هذا.

المذهب الثالث: أن الميت ينتفع بكل قربة يهديها إليه الحي فينتفع بما تسبب به في الحياة، وينتفع بالأعمال المالية التي تدخلها النيابة وهي الدعاء والصدقة والحج، وينتفع أيضا بما يهدى إليه من ثواب الأعمال الصالحة البدنية كالصلاة والصوم وقراءة القرآن والذكر، وهذا مذهب الحنابلة والأحناف.

ولهذا يقول الحنابلة في هذا:

وكل قربة فعلها وجعل ثوابها لمسلم *** حــي أو ميـــت نفعـــه

وكل من صيغ العموم كل قربة سواء كانت القربة بدنية، أو القربة عملية فعلى هذا إذا تصدق الإنسان بصدقة، ونوى ثوابها للميت لقريبه، أو غير قريبه، هل ينتفع، ينتفع عند المالكية والشافعية، وينتفع عند الأحناف والحنابلة، ولا ينتفع عند المعتزلة؛ لأنها ليست ممن تسبب فيها.

أما الأعمال البدنية: صلى ركعتين، وقال: اللهم اجعل ثوابها للميت أو صام يوم فقال: اجعل ثوابه للميت، أو قرأ القرآن، وقال: اللهم اجعل ثوابها للميت، لو قرأ سورة أو سبح ونوى ثوابه للميت، هل ينتفع هل تصل للميت؟

عند الشافعية والمالكية لا ينتفع، وعند الحنابلة والأحناف ينتفع.

واضح هذا سيأتي الأدلة فعلى هذا تكون مذاهب ثلاثة:

المذهب الأول: مذهب أهل البدع: لا ينتفع إلا بما تسبب به في الحياة.

المذهب الثاني: ينتفع بما تسبب به في الحياة وبثواب الأعمال المالية، وهي ثلاثة أنواع: الدعاء، والصدقة والحج فقط، أما ثواب الصلاة وثواب قراءة القرآن وثواب الذكر وثواب الطواف بالبيت بدون حج أو عمرة فلا يستفيد.

المذهب الثالث: ينتفع بكل شيء يهدى إليه ينتفع بثواب الصدقة وينتفع بثواب الصلاة والصيام والذكر وقراءة القرآن والطواف بالبيت.

والصواب من هذه الأقوال مذهب المالكية والشافعية، ووجه الترجيح أن هناك أدلة تدل على أن الميت ينتفع بالصدقة، وهناك أدلة تدل على أن الميت ينتفع بالحج والعمرة، وهناك أدلة تدل على أن الميت ينتفع بالدعاء، لكن ليس هناك دليل يدل على أن الميت ينتفع بصلاة ركعتين إذا صليت أو طواف بالبيت مجرد ليست بحج ولا عمرة أو تقرأ قرآن وتهدي ثوابه أو تصوم يوم وتهدي ثوابه ما في دليل.

لكن الحنابلة والأحناف قالوا: نقيس، ما عندهم إلا القياس، نقيس ثواب الأعمال البدنية على ثواب الأعمال المالية.

فقال الشافعية والمالكية لا نقيس؛ لأن العبادات ما فيها قياس، العبادات ما فيها قياس، العبادات مبناها على التوقيف، والأصل في العبادات: الحظر والمنع فنحن نقف على هذا نقف حيث وقفت النصوص، ولهذا الصواب والراجح في هذا مذهب أيش مذهب المالكية والشافعية، وهو أن الميت ينتفع بما تسبب به في الحياة كالأوقاف والأولاد وكالعلم الأولاد الذين يدعون له والصدقة والدعاء، والحج لأن الأدلة وردت في هذا، ولا ينتفع بثواب الصيام، ولا بثواب قراءة القرآن، ولا بثواب الطواف بالبيت، ولا بثواب الذكر إلا الصوم الواجب الذي مات وهو عليه.

الصوم الواجب يقضى عنه، الذي مات وعليه أيام من رمضان، أو مات وعليه صوم نذر أو كفارة، هذا يقضى عنه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح حديث عائشة الذي رواه الشيخان: « من مات وعليه صيام صام عنه وليه »(2) إذا كان عليه صيام نعم، أما تصوم تطوع وتنوي ثوابه للميت ما عليه دليل واضح.

هذا، فإذن المسألة فيها هذه المذاهب الثلاثة: مذهب الشافعية، والمالكية قالوا: لا ينتفع إلا بثواب الأعمال المالية بالإضافة إلى ما تسبب به في الحياة.

من أدلة أهل البدع والمعتزلة على أن الميت لا ينتفع إلا بما تسبب به في الحياة قول الله تعالى ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (3) قالوا: وجه الدلالة أن الله حصر ملكية الإنسان لسعيه فدل على أنه لا ينتفع بسعي غيره.

وأجيب عنه بجوابين:

الأول من وجهين: أحدهما: أن الإنسان بسعيه وملاطفته وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد ونكح الأزواج، وأسدى الخير وتودد إلى الناس فترحموا عليه ودعوْا له، وأهدوا له ثواب الطاعة فكان ذلك أثرَ سعيه. الثاني: أن دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته ودعوة المسلمين تَعُمُّه.

الجواب الثاني: وهو أقوى من الأول أن المنفي الملك لا الانتفاع، فالقرآن في قول الله: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (3) لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فاللام في قوله: ﴿ للإنسان (3) للملك.

الدليل الثاني: استدلوا بقول الله تعالى ﴿ وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (4) .

ووجه الدلالة: أن الله حصر الجزاء في العمل للشخص نفسه فدل على عدم انتفاعه بعمل غيره.

وأجيب بأن سياق هذه الآية يدل على أن المنفيَّ عقوبةُ العبد بعمل غيره بدليل صدر الآية ﴿ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا (4) ولم تنف الآية انتفاع الإنسان بعمل غيره.

الدليل الثالث: استدلوا بقول الله تعالى ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (5) .

وجه الدلالة: قالوا إن الله حصر كسب الإنسان واكتسابه عليه فدل على عدم انتفاعه بكسب غيره.

وأجيب بأن الآية أثبتت ملك الإنسان لكسبه، ولم تنف انتفاعه بكسب غيره بل إن كسب غيره ملك لكاسبه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء يبقيه لنفسه.

واستدلوا أيضا -الدليل الرابع- بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم أنه قال « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به »(6)

وجه الاستدلال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب به في الحياة، وما لم يكن تسبب به في الحياة فهو منقطع عنه.

وأجيب بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بانقطاع عمله ولم يخبر بانقطاع انتفاعه بعمل غيره بل إن عمل غيره لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمله، فالمنقطع شيء، والواصل إليه ثوابه شيء آخر.

واستدل المالكية والشافعية على أن الميت ينتفع بالدعاء والصدقة والحج فقط استدلوا بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الدعاء فاستدلوا عليه بأربعة أنواع:

النوع الأول: نصوص أدعية الناس بعضهم لبعض كقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ (7) .
وجه الاستدلال: أن الله أثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء، ولو كان غير نافع ما استحقوا الثناء.

النوع الثاني: إجماع الأمة على الدعاء في صلاة الجنازة.

النوع الثالث: نصوص الدعاء للميت بعد الدفن، كما في حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: « كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسئل »(8) .

النوع الرابع: نصوص الدعاء للأموات عند زيارة قبورهم كما في حديث بريدة بن حصين -رضي الله عنه- قال: « كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية »(9) .

واستدلوا على وصول ثواب الصدقة بما في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- « أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي افتُلِتَتْ نفسها -يعني ماتت فجأة- وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها قال نعم »(10)

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- « أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائط المصرافة صدقة عنها »(11)

واستدلوا على عدم وصول العبادات البدنية للميت بما روى النسائي بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة »(12) واستدلوا على القياس على الحياة فكما أن هذه العبادات لا تدخلها النيابة في الحياة، فلا يفعلها أحد عن أحد ولا ينوب فيها عن فاعلها غيرها كذلك في الممات لا يفعلها أحد عن أحد ولا ينوب فيها عن فاعلها غيرها بل يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه إلى غيره.

وأما الحنابلة والأحناف فردوا على المالكية والشافعية وقالوا: كيف تفرقون بين العبادات المالية والبدنية، وهذا تفريق بغير دليل فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفرق بينهما بل شرع الصوم عن الميت كما في حديث عائشة: « من مات وعليه صيام صام عنه وليه »(2) مع أن الصوم عبادة بدنية لا تجزيء فيها النيابة في الحياة.

لكن أجاب المالكية والشافعية هذا صوم واجب وما عداه فلم يأت دليل. قالوا: وأما استدلالكم بحديث ابن عباس: « لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد »(12) فهذا الحديث موقوف على ابن عباس فلا يقاوم حديث عائشة: لا سيما وقد ثبت الخلاف عن ابن عباس.

وثانيا: أن الحديث مطعون في سنده، وحديث عائشة صحيح الإسناد، وأما استدلالكم بالقياس على الحياة، فيجاب عنه بأنه قياس مع النص، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع الصوم عن الميت، مع أن الصوم لا تدخله النيابة، وشرع للأمة أن ينوب بعضهم عن بعض في أداء الفروض، فروض الكفايات فإذا فعله واحد ناب عن الباقين في فعله وسقط عنه المأثم.

وشرع لقيم الطفل الذي لا يعقل أن ينوب عنه في الإحرام وأفعال المناسك وحكم له بالأجر لفاعل نائبه، وجعل الشارع إسلام الأبوين بمنزلة إسلام أطفالهما؛ ولأن هذا ثواب وليس من باب النيابة.

وقالوا: من الأدلة على وصول ثواب الصوم حديث عائشة كما سبق، ومن الأدلة على وصول ثواب الحج أدلة كثيرة منها « أن امرأة من جهينة قد جاءت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أَفَأَحُج عنها؟ قال: حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء »(13)

لكن أجاب الجمهور بأن هذا نذر واجب والحج أيضا وردت فيه النيابة قال الحنابلة والأحناف فجازت النيابة في الحج، والحج عبادة مركبة من المال فدل على جواز، على وصول ثواب الأعمال البدنية.

وكذلك أيضا قالوا: من أدلتنا أن المسلمون أجمعوا على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته كما في حديث أبي قتادة حينما ضمن الدينارين.

وأيضا قالوا إن أدلتنا القياس، فنقيس هبة ثواب العمل للميت على هبة المال للحي فكما أن الإنسان إذا وهب ماله للحي فلا بأس فكذلك نقيس عليه ثواب عمله للميت، والثواب حق للعامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لا يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته وإبرائه منه بعد مماته.

وقالوا: من أدلتنا القياس على الأجير الخاص والأجير الخاص هو الذي يشترط أن يباشر الفعل بنفسه فنقيس هبة ثواب العمل للميت مع أنه لا يستنيب أحدا عنه في عمله على أجرة الأجير الخاص، فله أن يعطيها من يشاء مع أنه ليس له أن يستنيب في الفعل الذي استأجر عنه أحد، ولكن إذا نظرنا إلى هذا وجدنا أن الحنابلة والأحناف ما معهم إلا القياس ما عندهم أدلة على أن ثواب الصلاة وقراءة القرآن والذكر ما عندهم إلا القياس.

والمالكية والشافعية قالوا: إنا نقف عند النصوص، النصوص جاءت بوصول ثواب الدعاء والحج وكذلك الصدقة والصوم، إذا كان صوما واجبا نقف مع النصوص وندور معها إن دارت، وأما أنتم أيها الحنابلة والأحناف ما عندكم تقيسون، تقيسون ونحن لا، ما نقيس العبادات، ما فيها قياس، نتوقف عند النصوص، وبهذا يترجح مذهب من؟ المالكية والشافعية يجوز أن تهدي للميت تدعو للميت هذا يصل ثوابه، تتصدق عنه يصل الثواب، تحج عنه يصل، تعتمر يصل، تقضي عنه الصوم الواجب من رمضان أو نذر يصل، وما عدا ذلك فلا.

أما تصلي ركعتين تنوي ثوابها للميت ما عليه دليل، وإن قال الحنابلة والأحناف تصوم يوم تطوع تنوي ثوابه للميت ما عليه دليل، تطوف بالبيت سبعة أشواط تهدي ثوابها للميت ما عليه دليل، تذكر الله وتسبح وتهدي ثوابه للميت ما عليه دليل، تقرأ القرآن أو سورة تهدي ثوابها للميت ما عليه دليل والواجب على المسلم أن يتقيد بالنصوص.

هناك مسائل تابعة لهذا البحث: مثل استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، ومثل الأجرة على التلاوة، ومثل الاستئجار على التعليم، وأخذ الأجرة عليه، ومثل إعطاء قارئ القرآن ومعلمه ومتعلمه معونة بدون شرط أو رصد من بيت المال ومثل الوصية بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ على قبره ومثل قراءة القرآن وإهدائها للميت طبعا بغير أجرة، ومثل الإهداء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومثل قراءة القرآن عند القبور هذه مسائل كلها تحتاج إلى بحث، ولكن لا نستطيع بحثها، ولعل الله أن ييسر فيما بعد نسجلها، إن شاء الله، ونلحقها بهذا البحث.

انتفاع الأموات بسعي الأحياء قلنا: إن هناك مسائل تابعة لهذا البحث هذه المسائل أولا:

المسألة الأولى: استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت وأخذ الأجرة عن التلاوة.

ثانيا المسألة الثانية: الاستئجار على التعليم يعني تعليم القرآن وأخذ الأجرة عليه.

الثالثة: إعطاء قارئ القرآن ومعلمه ومتعلمه معونة بدون شرط أو رصدا من بيت المال.

الرابعة: الوصية بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره

الخامسة: قراءة القرآن وإهدائها للميت طوعا بغير أجرة.

السادسة: الإهداء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

السابعة: قراءة القرآن عند القبور.

أما المسألة الأولى: وهي استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، فإن هذا لا يجوز بلا خلاف، بل هو عمل بدعي؛ لأنه لم يفعله واحد من السلف؛ لأنه لم يرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ الأجرة عن نفس التلاوة غير جائز؛ لأن تلاوة القرآن وأخذ الأجرة على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف؛ لأن تلاوة القرآن عبادة، والعبادات لا تؤخذ الأجرة عليها كالحج والصلاة والأذان فلا يصح أخذ الأجرة، والثواب لا يصل إلى الميت، إلا إذا كان العمل لله خالصا.

وهذا الذي أخذ أجرته لم يقع عبادة خالصة فلا يكون له من ثوابه ما يهديه إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصلي من يصوم ويصلي ويهدي ثوابه للميت، إذن فلا يجوز له بعد أخذ الأجرة أن يهديه للميت؛ لأن التالي أخذ أجرته فلا ثواب له، فكيف يهب شيئا لا ثواب له.

المسألة الثانية: الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى الغير وأخذ الأجرة عليه، اختلف العلماء فيه على قولين: فقيل لا يصح أخذ الأجرة على تعليم القرآن قيل: لأنه عبادة، استدلوا بأنه عبادة، ولحديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- « أنه علَّم رجلا من أهل الصفة آيات من القرآن، فأعطاه قوسا فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أحببت أن تطوق قوسا من نار فاقبلها »(14)

القول الثاني: أنه يجوز الاستئجار على تعليم القرآن، ويصح أخذ الأجرة عليه لما يأتي: - أولا ما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- زوج رجلا من الصحابة امرأة على أن يعلمها آيات من القرآن، وقال: « زوجتك بما معك من القرآن »(15) رواه البخاري. ولحديث البخاري الآخر: « إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله »(16) وهذا هو الصواب، هو الراجح أنه يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.

وأما ما استدل به المانعون من حديث عبادة فهو حديث ضعيف لا يقاوم حديث البخاري ولو صح فيحمل المنع فيه على أحد أمرين: أولا: أنه أن النبي منعه لفقره؛ لأنه إما لفقر أهل الصفة، وإما لكونه متبرعا بذلك فنهاه لئلا يفسد أجره.

المسألة الثالثة: وهي أخذ المعلمين والمتعلمين والقارئين والمقرئين من بيت المال والتبرعات ما يعينهم على ذلك، أخذ المعلمين والمتعلمين والقارئين والمقرئين والأئمة والمؤذنين والقضاة ورجال الحسبة من بيت المال أو التبرعات ما يعينهم على ذلك جائز لا بأس به؛ لأن هذا من جنس الصدقة عنهم فيجوز وكذلك إعطائهم أرزاق من بيت المال جائز لا محذور فيه؛ لأن بيت المال فيه كفالة هؤلاء، إنما الممنوع الاستئجار كونه يستأجر شخصا يؤذن أو يستأجر شخصا يصلي بالناس وما أشبه ذلك، فهذا هو الممنوع.

أما إعطائه شيئا معونة بدون اشتراط أو إعطائه من بيت المال فهذا ليس فيه شيء؛ لأن بيت المال فيه كفالة المسلمين جميعا، قال بعض العلماء: إنه إذا اضطر إلى الاستئجار فلا حرج إن تعطل المسجد، ولم يوجد إلا بأجرة فلا بأس للضرورة.

أما المسألة الرابعة: وهي الوصية بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره فالوصية باطلة؛ لأنه غير مشروط، استئجار من يقرأ القرآن على قبره؛ لأنه فيه معنى الأجرة وكذلك لو وقف على من يقرأ عند قبره فالتعيين باطل؛ لأنه غير مشروع؛ والوقف ماض، فيصرف في غير المصرف الذي عينه من جهات البر الأخرى.

أما المسألة الخامسة: وهي التطوع بقراءة القرآن وهبة الثواب للميت بأن يقرأ القرآن ويختمه ويهدي ثوابه للميت أو يقرأ سورة ويهدي ثوابها للميت، ومثله لو سبح وهلل وأهدى ثوابها للميت فهذه المسألة مختلف فيها:

فقيل: يصل إليه ثواب القراءة كما يصل إليه ثواب الصوم والحج، وهذا مذهب الحنابلة والأحناف وكثير من المتأخرين، واستدلوا بالقياس على الدَّيْن وعلى الأجير الخاص، وعلى الأضحية وعلى الصوم والحج والصدقة.

القول الثاني: المنع وقالوا لا يصل إليه ثواب قراءة القرآن وهذا مذهب طائفة من أهل السنة من المالكية والشافعية، واستدلوا بأن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت لم يكن معروفا عند السلف، ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام، فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه.

أجاب المجيزون أهل القول الأول قالوا: إن كان مورد هذا السؤال معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، إن كان قائل ذلك معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلونه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام، وإن لم يكن معترفا بوصول ذلك تلك إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.

أجاب المانعون: بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة ولم يرشدهم إلى القراءة.

أجاب المجيزون بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصدقة عنه فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك.

أجاب المانعون: بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرشدهم إلى الصوم والصدقة والحج ولم يشرع لهم ما سوى ذلك، والأصل في العبادات الحظر والمنع وهي توقيفية، فلا نقيس عليه القراءة والذكر حتى يرد الدليل؛ ولأنه لا قياس في العبادات، وإنما القياس في المعاملات، وبهذا يتبين أن الصواب المنع، وأنه يقتصر في إهداء الثواب للميت على الدعاء والصدقة والحج والعمرة، وكذلك الصوم الواجب، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث البخاري الذي روته عائشة: « من مات وعليه صيام صام عنه وليه »(2) سواء كان صوم نذر أو كفارة أو صوم من رمضان، وليس ذلك بواجب على الولي، لكن إن أحب ذلك أن يصوم وإن لم يرغب في الصيام فإنه يطعم عن كل يوم مسكين.

المسألة السادسة: وهي إهداء ثواب القراءة، أو العمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففيها خلاف، فيها خلاف، من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومن العلماء من رآه بدعة، وهذا هو الصواب لأمرين:

الأمر الأول: أن الصحابة لم يكونوا يفعلونه.

الأمر الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- له مثل أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيئا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم ودعاهم إليه، ومن دعى إلى الهدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه، وكل هدى وعلم فإنما نالته أمته على يده فله مثل أجر من اتبعه أهداه إليه أم لم يهده، وهذا هو الصواب أنه لا يهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- له مثل أجر الأمة فلا حاجة للهبة.

المسألة السابعة: وهي قراءة القرآن عند القبور، اختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد،

أولها: الكراهة مطلقا.

الثاني: الجواز مطلقا.

الثالث: الجواز وقت الدفن والكراهة بعده.

ولعل المراد بالكراهة هنا التحريم، كراهة التحريم؛ لأنها هي المعروفة عند السلف.

الأول: الكراهة مطلقا يعني التحريم أنه لا يجوز القراءة، قراءة القرآن عند القبور وهذا، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واستدلوا بما يأتي:

أولا: أن قراءة القرآن عند القبور مُحْدَث لم ترد به السنة، فلم يرد أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قرأ عند القبور، ولم يأمر به.

الثاني: أن القراءة كالصلاة، فالقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة فتقاس القراءة على الصلاة.

الثالث: أن الأصل في العبادات المنع والحظر حتى يرد الدليل على الجواز بخلاف المعاملات، فالأصل فيها العمل حتى يرد المنع.

الرابع: أن القراءة وسيلة للعكوف عند القبور، أن القراءة وسيلة للعكوف عند القبر وتعظيمه فتمنع سدا لذريعة الشرك.

القول الثاني: الجواز مطلقا، والمراد بالإطلاق يعني وقت الدفن أو بعد الدفن، وهذه رواية عن الإمام أحمد، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو قول محمد بن الحسن الصاحب الثاني لأبي حنيفة، واستدلوا بما نقل عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتيمها.

ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة، وقال: إنها قربة وفيها أدعية، ومع أن الدليل خاص بوقت الدفن، الدليل خاص بوقت الدفن، أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن، مع أن الدليل خاص بوقت الدفن إلا أن هؤلاء توسعوا فأجازوا القراءة مطلقا وقت الدفن وبعده.

القول الثالث: الجواز وقت الدفن والكراهة بعده، وهذه رواية عن الإمام أحمد، دليلهم هو دليل أهل القول السابق ما نقل عن ابن عمر، وبعض المهاجرين ما نقل عن ابن عمر أنه أمر أن يقرأ على قبره وقت الدفن فواتح سورة البقرة وخواتيمها، وما نقل عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة.

وهذا هو القول الثالث هو الذي يرجحه ابن أبي العز شارح الطحاوية وقال: إن فيه جمعا بين القولين، والصواب القول الأول والصواب الكراهة والتحريم مطلقا، ويجاب عن دليل المذهبين الثاني والثالث:

أولا يحتاج النقل عن ابن عمر إلى الثبوت إذا احتاج إلى صحة النقل، وكذلك ما روي عن بعض المهاجرين.

ثانيا: إذا صح ما نقل عن ابن عمر فيقال بأن هذا اجتهاد منه خالف ابن عمر غيره من الصحابة، فلا حجة في قوله، خالفه فيه كبار الصحابة كأبي بكر وأبيه عمر وغيرهم هذا إذا صح، أولا يُطالب هؤلاء بصحة النقل. وثانيا: إذا صح فإنه يجاب عنه بأن هذا اجتهاد من ابن عمر خالفه فيه كبار الصحابة.

وبهذا يتبين أرجحية القول بالمنع مطلقا سدا لذريعة الشرك؛ ولأن القراءة على القبور وسيلة إلى العكوف عندها وتعظيمها؛ لأن القراءة عند القبور وسيلة للعكوف عندها وتعظيمها؛ ولأن الأصل في العبادة الحظر والمنع، وكما أن الصلاة ممنوعة عند القبور فكذلك القراءة، أما القراءة بعد الدفن كالذين يذهبون إلى القبر للقراءة فيه للقراءة عنده فهذا ممنوع مطلقا ليس محلا للخلاف، القراءة بعد الدفن كالذين يأتمون القبور، ويأتونها مرات بعد مرات ويقرءون القرآن عند القبور، فهذا ممنوع؛ لأنه لم تأت به السنة، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا، والله أعلم، نعم.


(1) مسلم : الوصية (1631) , والترمذي : الأحكام (1376) , والنسائي : الوصايا (3651) , وأبو داود : الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي : المقدمة (559).
(2) البخاري : الصوم (1952) , ومسلم : الصيام (1147) , وأبو داود : الصوم (2400) , وأحمد (6/69).
(3) سورة النجم: 39
(4) سورة يس: 54
(5) سورة البقرة: 286
(6) مسلم : الوصية (1631) , والترمذي : الأحكام (1376) , والنسائي : الوصايا (3651) , وأبو داود : الوصايا (2880) , وأحمد (2/372) , والدارمي : المقدمة (559).
(7) سورة الحشر: 10
(8) أبو داود : الجنائز (3221).
(9) مسلم : الجنائز (975) , والنسائي : الجنائز (2040) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1547) , وأحمد (5/353).
(10) البخاري : الجنائز (1388) , ومسلم : الزكاة (1004) , والنسائي : الوصايا (3649) , وأبو داود : الوصايا (2881) , وابن ماجه : الوصايا (2717) , وأحمد (6/51) , ومالك : الأقضية (1490).
(11) البخاري : الوصايا (2762) , وأبو داود : الوصايا (2882) , وأحمد (1/333).
(12)
(13) البخاري : الحج (1852) , والنسائي : مناسك الحج (2633) , وأحمد (1/279) , والدارمي : النذور والأيمان (2332).
(14) أبو داود : البيوع (3416) , وابن ماجه : التجارات (2157) , وأحمد (5/315).
(15) البخاري : الوكالة (2311) , ومسلم : النكاح (1425) , والترمذي : النكاح (1114) , والنسائي : النكاح (3280) , وأبو داود : النكاح (2111) , وابن ماجه : النكاح (1889) , وأحمد (5/336) , ومالك : النكاح (1118) , والدارمي : النكاح (2201).
(16) البخاري : الطب (5737).


 مواد ذات صلة: