شرح نخبة الفكر
الحديث المتواتر

الحديث المتواتر

قال الإمام الحافظ: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - يرحمه الله تعالى-: الحمد لله الذي لم يزل عليمًا قديرًا، وصلَّى الله على سيِّدنا مُحمد الذي أرسله إلى النَّاس كافةً بشيرًا ونذيرًا، وعلى آل مُحمدٍ وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن التصانيف في اصطلاح أهل الحديث قد كثرت، وبُسطت واختصرت، فسألني بعضُ الإخوان أن ألخص لهم المهمَّ من ذلك، فأجبتهُ إلى سؤاله؛ رجاء الاندراج في تلك المسالك فأقول: الخبرُ إمَّا أن يكون له: طرقٌ بلا عدد معين، أو مع حصر بما فوق الاثنين، أو بهما، أو بواحدٍ. فالأول: المتواترُ المفيدُ للعلم اليقيني بشروطه.


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

نجد أن -يعني- كتب الرجال وكتب الحديث ترد فيها هذه القواعد منثورة، إلى أن جاء الإمام مسلم -رحمه الله- فكتب مقدمته الشهيرة مقدمة صحيحه، وهذه تعتبر من أوائل ما كتب في علم مصطلح الحديث، لكنها لم تشمل جميع الجوانب، ولكن شملت جوانب عديدة، وهي بصفة النقل بالسند عن الأئمة في بعض قواعد المصطلح.

مثلا: حينما يورد عن عبد الله بن المبارك في مناقشته لشهاب بن خراش -إن لم تخطئني الذاكرة- فهو شهاب بن خراش، فيورد عليه الحديث الذي -يعني- ذكر في الصدقة والصيام وغير ذلك، فقال له عبد الله بن المبارك: عمن هذا الحديث؟ قال: عن فلان. قال: ثقة. عمن؟ قال: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يا فلان بين فلان والنبي -صلى الله عليه وسلم- مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، ولكن ليس في الصدقة خلاف.

فهو يبين -رحمه الله- في مثل هذا الأثر مسألة ضرورة اتصال السند، فيقول: نعم، هذا فلان ثقة، لكنه لم يتصل سنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فبينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- مسافة طويلة من الزمن تحتاج إلى أن تملأ برجال، هم الواسطة بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فما دام أنك لم تذكر الواسطة بينه وبين النبي-صلى الله عليه وسلم-.

فإذا هذا الحديث لا يصح ولا يثبت، لكن ما ذكر في جزئية من جزئيات هذا الحديث، وهي الصدقة، فليس فيها خلاف، يعني: الصدقة عن الميت. حينما يورد -أيضا- مسلم -رحمه الله- كلاما في مثل عباد بن كثير، وأنه من الرجال الصالحين، لكنه إذا روى شيئا من الأحاديث أتى بالمناكير، فكان مثل عبد الله بن المبارك يسأل سفيان الثوري وغيره: هل يجوز له أن يتكلم في هذا الرجل، مع العلم أنه رجل صالح؟ فقالوا: نعم، بين حاله.

فكان إذا سئل عنه أثنى عليه في دينه، ثم بين حاله من حيث الثقة في الحديث من عدمها، فهذا يدل -أيضا- على أي شيء؟ على المسألة التي ذكرناها ثانيا، وهي القدح في الرواة، يعني: دائما الكلام في السند إما من حيث الاتصال، أو من حيث القدح، والكلام في الرواة جرحا وتعديلا.

فإذا كلامهم يأتي منثورا، وكما قلت مسلم هو -رحمه الله- أول من كتب في هذا، لكنها كتابه مجتزئة على بعض الأمور، كذلك -أيضا- كلام الترمذي -رحمه الله- سواء في كتاب "العلل" أو في تعقيباته على بعض الأحاديث، يعتبر من القواعد في الاصطلاح، فحينما -مثلا- هو يصف الحديث الحسن في آخر كتابه "الجامع" هذا يقول: والحسن عندنا هو ما لم يكن شاذا، ويروى من غير وجه، وذكر مسألة ثالثة، وهي تتعلق بالنكارة الظاهرة، أو كذا، فالمهم أنه هو الذي عرف الحديث الحسن لغيره، بتعريفه هذا، وإن كان -يعني- يحتاج إلى مزيد من البسط والتعريف، لكن نجد مثل هذا الكلام من الترمذي -رحمه الله- يعتبر -فعلا- تعريفا للحديث الحسن لغيره، وهو الذي يشترط فيه شرطان أن يروى من غير وجه، وأن لا يكون ضعفه شديدا، فهذا هو الحديث الحسن لغيره.

إلى أن جاء عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي -رحمه الله تعالى- فهو أول من أفرد علم المصطلح بالتصنيف في كتابه "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" فهذا الكتاب يعني يعتبر تصنيفا مستقلا في علم المصطلح، وابن خلاد الرامهرمزي هذا متوفى في سنة ثلاث مائة وستين للهجرة، فهذا هو التاريخ الذي يعتبر -يعني- بداية التصنيف المستقل في المصطلح.

جاء بعده الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك، فألف كتابه الشهير "معرفة علوم الحديث" وبسط الأمور أكثر من بسط الرامهرمزي، ثم جاء بعده أبو نعيم الأصفهاني، فعمل مستخرجا على كتاب الحاكم، ثم جاء بعد ذلك الخطيب البغدادي -رحمة الله عليه- وهو الذي خدم علم المصطلح خدمة لا مثيل لها، وقل أن يكون هناك باب من أبواب المصطلح إلا وللخطيب البغدادي فيه تصنيف مستقل، وكتبه أكثر من أن تحصى في هذا الفن، وتجد أنه في كل باب من الأبواب يصنف فيه تصنيفا مستقلا، يعني: لو نظرنا إلى مؤلف من مؤلفات علم المصطلح، نجد -مثلا- يفردون بابا لآداب المحدث وطالب الحديث بابا من أبواب المصطلح، لكن الخطيب البغدادي -رحمه الله- ألفَ كتابا مستقلا في ذلك الكتاب مطبوع وموجود يقع في مجلدين، وهو "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" وغير ذلك من تصانيفه -رحمه الله- ثم ما زال هذا العلم يتطور شيئا فشيئا، وتضبط قواعده إلى أن جاء أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله تعالى- فألف كتابه المشهور بــ"مقدمة ابن الصلاح" وهو الذي أصبح عمدة لمن جاء بعده؛ لأنه جمع أنواع علوم الحديث، وجعلها على أنواع، وتكلم على كل نوع فجاء كل من جاء بعده، فهو إما مختصر، أو ناظم، أو شارح لنظم، أو شارح لاختصار وما إلى ذلك.

فمثلا النووي -رحمه الله- جاء فاختصر مقدمة ابن الصلاح هذه في كتابه "التقريب" ثم جاء بعد ذلك السيوطي، فشرح التقريب في "تدريب الراوي" نجد -مثلا- العراقي -رحمه الله- نظم منظومة في مقدمة ابن الصلاح يعني: جعل الكلام الذي ذكره ابن الصلاح على شكل نظم، وهي الألفية المعروفة بألفية العراقي، ثم شرحها هو في شرحين: "فتح المغيث" "والتبصرة والتذكرة" ثم جاء بعده -أيضا- السخاوي فشرحها في شرح أطول، سماه -أيضا- "فتح المغيث" ونجد -أيضا- العراقي -رحمه الله- له تقييدات على ابن الصلاح، يعني: تعقبات في كتاب سماه "التقييد والإيضاح".

جاء بعده الحافظ بن حجر، فوجد أن هناك بعض الاستدراكات على ابن الصلاح وعلى شيخه العراقي، فألف كتابه "النكت" الذي يعتبر من الدسومة بمكان في علم المصطلح، وينبغي لمن أراد -يعني- أن يتبحر في علم المصطلح أن يركز على هذا الكتاب تركيزا تاما، فهكذا، يعني: مازال علم المصطلح كله يدور تقريبا في الفترة الأخيرة على مقدمة ابن الصلاح من هذه النواحي.

"نخبة الفكر" للحافظ ابن حجر -رحمه الله- هو -تقريبا- على تبويب ابن الصلاح مع التقديم والتأخير الذي عمله الحافظ ابن حجر اجتهادا منه.

" نخبة الفكر" يشكل عصارة ذهن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في اختياره للراجح من الأقوال في مسائل المصطلح، حتى وإن كان فيها شيء من الخلاف؛ ولذلك تعتبر مضغوطة، وتعتبر متنا، وإن كان صغيرا، لكنه يتسم بالرأي الذي استخلصه ابن حجر -رحمه الله- من جراء خوض طويل في كلام تجده مبسوطا في كتابه "النكت" وغيره من الكتب، مثل مقدمته لصحيح البخاري كهدى الساري، هذه النخبة شرحها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- "في نزهة النظر" وهو شرحُ موجز وجيد، وطبعت عدة طبعات، لكن من أفضلها الطبعة التي حققها الأخ علي حسن عبد الحميد وفقه الله، وهي مطبوعة ومتداولة، وتتميز هذه الطبعة بضبطها، فإن الطبعات الأخرى لا تخلو من سقط وتصحيف، وما إلى ذلك، يعرف هذا من قرأ في تلك الطبعات.

كذلك هناك يعني شروح أطول من "نزهة النظر" مثل "اليواقيت والدرر" للمناوي الظ اهر وغيرها من الشروح، لكن -يعني- أنا أرى أننا -يعني- سنكتفي بنزهة النظر، وسنحاول أن نحل -إن شاء الله- بعض الإشكالات التي قد ترد في هذا المتن المختصر، وحتى لو في شرحه، وسأبذل -إن شاء الله- جهدي في أن تكونوا انتهيتم من هذا الكتاب بانتهاء هذه الدورة، بحيث يكون الذي حضر يكون تلقى علم الحديث بشكل -يعني- موجز، وليس بالشكل المبسط، لكن الذي أرجوه -يعني- أنني سأتكلم حينما أشرح مراعيا الحد الأدنى، وهم المبتدئون في الطلب، في طلب علم الحديث.

فقد يكون بعض منا له عناية بهذا الفن، ويريد توسعا التوسع، أنا لي -يعني- شرح على منظومة السيوطي الألفية، وهو شرح موسع -يعني- من أراد -يعني- إن كان في الرياض بإمكانه أن يحضر، وإن لم يكن في الرياض، فبإمكانه أن يأخذ الأشرطة التي سجلت، وفيها -إن شاء الله- بسط، ولا بأس أجيب على ما قد يرد في ذهنه، لكن يكون بعد ما ننتهي من الدرس، فأنا مستعد للجواب على أي سؤال، لكن الذي أرجوه ألا يجعل الإنسان نفسه حكما على غيره، فدائما الضعيف هو أمير الركب، وكما قلت -يعني- انتقائي لهذا المتن هو مراعاة للمبتدئين في الطلب، حتى يظفروا بعلم الحديث في شكل موجز، ثم بإمكانهم بعد ذلك أن يعمدوا لما هو أطول من هذا مثل: " الباعث الحثيث " لابن كثير، فإذا أخذوه بإمكانهم أن يعمدوا لما هو أطول من هذا مثل: "فتح المغيث" للسخاوي، وبعد ذلك "تدريب الراوي" و"النكت" للحافظ ابن حجر وبعد ذلك توضيح الأذكار الذي يعتبر هو آخر هذه المصنفات، وهو للصنعاني -رحمه الله- يعني: دائما المتأخر يستفيد من جهد المتقدم، هذا -يعني- ما لدي من مقدمة يمكن أن أحكيها عن "نخبة الفكر" أحببت -يعني- أن نستغل وقتكم، حتى لا يضيع في هذه العجالة، وبعد العشاء -إن شاء الله- سنبدأ في الشرح مباشرة.

س: يقول: الرجاء ترتيب كتب مصطلح الحديث للمبتدئ ؟

ج: أقول: يعني كتب مصطلح الحديث -دائما- يجعلون المنظومة البيقونية بداية، لكن -والله يعني- أنا وجدت أن المنظومة البيقونية، يعني أخلت بكثير من الأشياء يعني ليس من المعقول أن يجمع علم الحديث كله في سبعة وثلاثين بيتا من الشعر، فالمنظومة البيقونية -يعني- مختصرة اختصارا -في نظري- مخلا ومن ارتضاها -يعني- لا نحجر عليه، لكن هذا رأيي فيها؛ ولذلك أنا أرى أن يعني أفضل المختصرات التي يمكن أن يبتدأ بها طالب العلم "نخبة الفكر" بعض الناس يقول: إن نخبة الفكر دسمة أقول: نعم دسمة، لكنها مختصرة بإمكان الإنسان أن يأخذ علم المصطلح بشكل موجز، ثم بعد ذلك يلجأ لما هو أطول منها، وفي نظري أن الدرجة الثانية التي تأتي بعدها كتاب "الباعث الحثيث" لابن كثير، وهو كتاب يعني عبارته ميسرة وسهلة، وبإمكان أي واحد أن يقرأ، ويفهم فيه، وبخاصة بمصاحبة تعليقات الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- على هذا الكتاب.

س: يقول أحد الأخوة: يعني عنده اقتراح، يقول: لو يقوم كل شيخ بعمل ملخص لدرسه، يتناول عناصر الدرس وشرحا موجزا مع ذكر المراجع الموثوقة للاستزادة، ثم توضع هذه الملخصات في إحدى المكتبات؛ حتى يتيسر للشباب الحصول عليها دون إحراج للجميع.

ج: نقول: له نقترح عليهم -يعني- كل واحد في نهاية درسه، يصنع هذا الصنيع هذا -إن شاء الله- لعل الأخ فهد يقترح عليهم.

س: أحد الأخوة يقول: يعني، يرغب أني لا أستعجل في التعريفات،

ج: فأقول: مشكلة العجلة في الكلام هذه من طبعي -يعني- حاولت مرارا أن أتأنى، لكن أتأنى قليلا، ثم ما ألبث أن -يعني- أسرع، فعلى كل حال -يعني إن شاء الله- إذا كان هناك تعريف، فسأتأنى، وليس هناك من حرج، يعني: إذا كان الواحد يحب أن يقيد، فيمكن أن يقول لي: أعد، وأعيد -يعني- تعرفون أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كان الواحد منهم يوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، ويسأله، وهكذا ما في حرج إطلاقا.

س: يقول: ما رأيك بكتاب سنن ومبتدعات ؟

ج: أو أنك تقصد كتاب الخضري "السنن والمبتدعات" يعني: إن كان يقصد هذا الكتاب، ففيه كثير من الصواب، وفيه أشياء عليه فيها ملاحظات.

س: يقول: إذا كان هناك حديث حسن، ويوافقه ظاهر آية من كتاب الله -عز وجل- هل يرقى إلى درجة الصحيح لغيره،

ج: نقول: لا، الحكم على الحديث نفسه بأنه يصبح صحيحا لغيره لا، لكن يمكن أن يتقوى المعنى الذي ورد في ذلك الحديث بظاهر الآية، أو الحديث الصحيح الآخر، لكن لا نقول: إن هذا الحديث يصبح صحيحا لغيره من الناحية الاصطلاحية.

س: يقول: ما رأيك في "منظومات النخبة" وهل تنصح بدراستها، أو الاكتفاء بها عن النخبة، مثل نظم الصنعاني.

ج: أقول: ميزة النظم -دائما- أنه يسهل حفظه، فهم ينظمون النظم لأجل الحفظ، فمن أراد أن يحفظ لا بأس، والنظم قد يكون يكون مستوعبا للمتن الذي نظم به، ونظم الصنعاني -في ظني- أنه الذي اسمه "قصب السكر في نظم نخبة الفكر" يعني: عهدي به قديم جدا، وأنا كنت حفظت بعضه على الشيخ عبد الوهاب جبرين، وكان يشرح لي هذا يمكن قبل عشرين سنة، يعني: كان نظما جيدا، وفعلا -يعني- مستوعب لنخبة الفكر فيما أذكر؛ لأنني لا أذكر -يعني- آخره، لكنني يمكن مشيت فيه إلى المنتصف تقريبا، أو إلى هذا الحد، فالمهم يعني: الخلاصة أن النظم ميزته الحفظ، والذي لا يريد أن يحفظ، فليس هناك ما يلجئه للنظم، فبإمكانه أن يعمد للأصل، وهو المتن المنظوم.

س: يقول أحد الأخوة، يقول: الأئمة والمؤذنون لهم دور كبير في المجتمع، أرجو النظر في مشكلتهم، حيث يصعب عليهم الحضور بعد العصر مباشرة وكذا بعد المغرب والعشاء مباشرة، فحبذا لو يتأخر الدرس ربع ساعة بعد الصلاة؛ لكي يتمكنوا من الحضور.

ج: أقول: والله يعني، فعلا يعني: المؤذنون لا بد من مراعاتهم، لكن المشكلة -أحيانا- المراعاة تكون على حساب عموم الآخرين، لكن فيما أعرف أن درس بعد العصر لا يكون مباشرة.

الدرس بعد العصر يبتدئ أربعة ونصف، ففيه مجال، يعني: رحب للمؤذن أما الذي بعد المغرب، فالذي يظهر من الشيخ سيبدأ مباشرة، لكن المؤذن إذا صلى بمسجده، وجاء ليؤدي سنة المغرب في هذا المسجد، على اعتبار أنها -أيضا- تكفيه عن تحية المسجد، فالظاهر -إن شاء الله- يعني: يلتزم مع الشيخ من بدايته، فالشيخ -أيضا- سيؤدي السنة الراتبة، فلا يفوته -إن شاء الله- شيء كثير، وكذلك -أيضا- الدرس الذي بعد العشاء، يعني: يمكن أن نجعل -مثلا- بداية الدرس عبارة عن أسئلة -يعني- بالنسبة لنخبة الفكر مراجعة للدرس السابق، وهذه الأسئلة يمكن تأخيرها أقل من ربع ساعة، ثم نبتدئ في الدرس، وإن شاء الله نحاول أن نجمع بين المؤذنين وغيرهم.

س: نفس السؤال هذا هو هو... يقول: ما صحة نسبة الكتب للإمام أحمد كالزهد والتفسير وغيرها، ولماذا كان ينهى الإمام عن كتابة العلوم غير الحديث، مع أنه كان يمدحها ؟

ج: أقول: الإمام أحمد -رحمه الله- كتبه المشهورة: "المسند" و"الزهد" وكلاهما من رواية القطيعي عن عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه الإمام: أحمد، أما التفسير، ففي صحته وصحة نسبته للإمام أحمد كلام، أذكر الذهبي -رحمه الله- له كلام في هذا في التفسير -إن لم تخطئني الذاكرة- والذي يظهر أنه لا تصح نسبته للإمام أحمد -رحمه الله- أما لماذا كان ينهى الإمام عن كتابة العلوم غير الحديث، فالكراهية للرأي، فهو يجد أن الرأي هو الذي أصابهم بالبلاء في ذلك الزمان، فكل الفرق المبتدعة التي خرجت في ذلك الوقت والفتنة الطامة، فتنة خلق القرآن كلها كانت نتيجة الرأي.

وينبغي لكم أن تعلموا أن الذين تولوا كبر مسألة فتنة خلق القرآن هم من الحنفية، مثل ابن أبي دؤاد وغيره، والحنفية هم الذين برزوا في الرأي؛ فلذلك الإمام أحمد -رحمه الله- من كراهيته للرأي وصل إلى درجة أنه يقدم الحديث الضعيف على الرأي، فيقول: إنني لو وضعت نسبة خطأ، فنسبة الخطأ في الرأي أكثر من نسبتها في الحديث الضعيف؛ لأن الحديث الضعيف إذا كان الضعف ناشئا من ضعف حفظ الراوي، فالراوي الذي حفظه ضعيف، نعم هو قد يخطئ، ونحن إذا ما حكمنا على الحديث بالضعف حيطةً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن هناك احتمال أن يكون هذا الراوي قد حفظ، فلا نستطيع أن نحكم على كل ما يذكره الراوي الضعيف بأنه خطأ مائة بالمائة، بل لا بد أن يكون هناك نسبة من الصواب، وهذه النسبة من الصواب لن تتميز عندنا، فحيطة لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حكمنا على الحديث بالضعف، لكن هناك احتمال أن يكون الحديث صحيحا، فهذه النسبة من الاحتمال عند الإمام أحمد تربو على نسبة الإصابة في الرأي؛ ولذلك كان يقدم الحديث الضعيف على الرأي، ومن كراهيته للرأي أن يكتب رأيه، أو رأي غيره؛ ولذلك كان يكره أن يكتب الفقه، وإنما يحث الناس على الحديث بحكم أنه هو الأصل للاستنباط، هذا هو -يعني- السبب الذي جعل الإمام أحمد -رحمه الله- ينهى عن ذلك.

س: يقول: ما رأيك في أن نجلب معنا كتاب علي حسن "النكت" هل هو جيد يقصد -يعني- نزهة النظر والنكت، يعني: التعليقات التي أضافها علي حسن عبد الحميد على الكتاب.

ج: نقول: نعم هو جيد -إن شاء الله- وأنا عندي أن جودته تبرز أكثر شيء في ضبط الكتاب، يعني: ضبط النخبة وشرحها النزهة.

س: يقول: هل كان كل أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم- يستوقفون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، ويسألونه أم أن هذا كان في الأعراب فقط، وذلك لجهلهم؟

ج: أقول: يعني، أنا لا يحضرني الآن أن هذا مقصور على الأعراب، نعم معروف أن الأعراب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتسمح معهم، ما لا يتسمح مع باقي الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- فيتيح لهم السؤال، لكن -يعني- الغالب على ظني أن هناك من الصحابة المقيمين في المدينة من كان يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الخطبة، ولا أقول هذا جزما.

س: يقول: هل جميع الدروس الملقاة في هذا المسجد مسجلة؟

ج: يعني، إن كان يقصد الدورة، فحسب علمي أنها ستسجل. نعم الدورة ستسجل إن شاء الله.

س: يقول ما رأيك في كتاب مصطلح الحديث للطحان؟

ج: أقول: "تيسير مصطلح الحديث" للطحان أنا أرى أنه جيد من ناحية المنهجية، يعني: هو ييسر لطالب العلم دراسة المصطلح بطريقة شيقة؛ لأنه مبوب ومعنون، وهذه الأشياء تساعد -يعني- في فهم المادة العلمية التي تضمنها ذلك الكتاب، لكن هناك بعض الملاحظات عليه، يعني: الملاحظات العلمية، هو -يعني- ليس هناك أحد يخلو من الملاحظة، لكنها أخطاء، يعني: واضحة؛ فلذلك -يعني- إذا تنبه الإنسان لها لا بأس، الكتاب جيد في الحديث.

س: يقول: هل أحاديث مقدمة صحيح مسلم لها شروط الصحة كالصحيح أم لا؟

ج: أقول: لا. ليس لها شروط الصحة، وهذا -يعني- يتضح جليا في -أولا- الحديث الذي أورده مسلم -رحمه الله- معلقا، وهو حديث: «أنزلوا الناس منازلهم»(1)

فهو حديث ضعيف كذلك بعض الأحاديث التي -يعني- تروى بأسانيد فيها كلام، وإن لم تكن كثيرة -يعني- في المقدمة، لكن الآثار التي -يعني- فيها بعض الرواة مضعفين كثيرة -يعني- في المقدمة، فعلى كل حال، فليس لها حكم الصحة. والعلماء كانوا يميزون ما جاء في المقدمة عما كان في صلب الصحيح، بل حتى الرواة الذين يروي لهم مسلم في المقدمة يميزونهم عن الرواة الذين يروي لهم مسلم في نفس الصحيح.

س: يقول: جاء عن بعض السلف: الفرقة الناجية المنصورة، أنها أهل الحديث، وجاء عن بعضهم قولهم: لو لم يكونوا -يعني- يقصد إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدري من هم.
فالسؤال: هل المقصود بأهل الحديث السنة، أو المقصود من تعلم علم الحديث دراية ورواية؟

ج: أقول: الواضح -تماما- أنهم لم يكونوا يقصدون بأهل الحديث من طلب علم الحديث فقط، بل أهل الحديث تشمل أهل السنة الذين ينقادون للحديث، والذين آراؤهم وأعمالهم كلها متفقة مع النصوص الشرعية من كتاب الله -جل وعلا- ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فوصفوا بأهل الحديث؛ لشدة اتباعهم للحديث، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا قد طلبوا علم الحديث، كما أنه في المقابل لا يلزم أن يكون من طلب علم الحديث، هو من أهل الحديث فعلا، إذا كان مخالفا لأهل السنة في أصول الاعتقاد.

فبعض الناس يكون بارعا في الحديث كالكوثري، ولكنه على خلاف ما عليه أهل السنة في أصول الاعتقاد؛ فلذلك لا يعتبر من أهل الحديث: فوضح تماما أن مقصودهم بأهل الحديث من كان متبعا للحديث، منقادا له في جميع شئون حياته في أصول الاعتقاد وغيرها.

س: يقول أحد الإخوة: ما الفرق بين اللفظين "نخبة الفِكْر" "ونخبة الْفِكَرْ" وهل هناك خلاف بين اللفظين أم لا ؟

ج: أقول: أما بالنسبة للضبط ضبط العنوان، فالذي أحفظ فيه " نخبة الْفِكَرْ" بفتح الكاف، أما الخلاف بين اللفظين، فالذي يظهر لي أن هناك خلافا، والخلاف في -يعني- بادئ. لأني في الحقيقية أول مرة أفكر هذا التفكير، ما كنت يعني أركز عليها، لكن الذي يظهر لي الآن أن الْفِكَرْ جمع. جمع فِكْرَةْ بخلاف الفِكْر، فهو وصف لِفِكْر الإنسان، فهذا هو الخلاف الذي يظهر لي.

وهذه الأوقات -أيها الأخوة- إذا لم يعمرها الإنسان بطاعة الله -جل وعلا- فقد يخشى عليه أن تحرى بالباطل، واقتناء فرص العمر من عادة الناس الذين يوصفون بالحزم، ولكم في سلفكم الصالح قدوة أيها الإخوة، فإنهم -رضي الله عنهم ورحمهم- ضربوا أروع الأمثلة في اغتنام الفرص واستغلال ساعات العمر، في كل ما من شأنه الفائدة، وتكثير الأعمال الصالحة. الحسن البصري -رحمه الله تعالى- يقول: "يا ابن آدم إنما أنت أيام مجتمعة فكلما انقضى يوم انقضى بعضك" ولعلكم تذكرون أن بعض العلماء المشهورين كثر تصنيفهم، بحيث أصبح مضرب المثل، مثل ابن جرير الطبري وابن الجوزي وابن عقيل وغيرهم، ولم يتحصل لهم ذلك إلا بسبب حرصهم على شغل الأوقات بطلب العلم وتعليمه وبذله في الناس، ولست بحاجة إلى تذكيركم ببعض القصص في هذا، فالذي يظهر لي أنها تتكرر على مسامعكم مرارا وتكرارا كقصة ابن جرير الطبري مع طلابه، حينما ألف تفسير القرآن، وحينما ألف تاريخ الأمم والملوك.

وهذان الكتابان اختصرهما ابن جرير الطبري إلى مقدار الثلث، أو ما هو أكثر وكذلك ابن الجوزي -يعني- كثرت مصنفاته بسبب حرصه على شغل الأوقات، وهو الذي يقول، يعني من قصصه في شغل أوقاته بأمور نافعة أنه أحيانا يبتلى ببعض الناس الذين لا بد من معاشرتهم، فبعضهم إما قريبه، أو جاره، أو ما إلى ذلك، فلا يستطيع ابن الجوزي التخلي عن معاشرة هؤلاء الناس، ولكنه كان يدافعهم بقدر المستطاع.

فإذا جاءه الواحد منهم يريد الزيارة، قال: أنا مشغول أنا كذا أنا كذا، المهم حتى يجد أنه لا بد من تلك الزيارة، فيعد العدة لتلك الجلسة -أيضا- لا يجعلها تفوت عليه، فيجد أنه في حال تأليفه لا بد له من أوراق تطبع، فعندهم ليست المسألة كما هو الحال عندنا الآن، الدفاتر والأوراق جاهزة ومقطعة والقلم، يفتح الغطاء، ويكتب على طول، لا، الواحد منهم كان هو الذي يجهز حبره لنفسه، وهو الذي يبري أقلامه، وهو الذي يصنعها، وهو الذي يقطع الدفاتر، وهو الذي يجلدها، يحزمها، وكل هذا يحتاج إلى وقت، لكنه لا يحتاج إلى إعمال ذهن وفكر، هذه لا تحتاج إلى فكر.

فكان ابن الجوزي -رحمه الله- يجعل هذه الأشياء تستغل في تلك الأوقات، التي لا تحتاج إلى إعمال فكر، فتجده أمام الجالس، أهلا حياك الله، كيف حالك؟ وهكذا، وهو يشتغل، يده تشتغل، وهو يخاطب جليسه.

فإذا هو ما فوت شيئا من ساعات عمره، وتجده يعجب من بعض الناس الذين أنعم الله -جل وعلا- عليهم بنعمة المال، ودائما الذي ينعم عليه بنعمة المال، ويرزقه الله -جل وعلا- استغلال الوقت هو الذي يظفر بالكثير من الأوقات أكثر من غيره، فيجد أن بعض الناس أنعم الله عليه بنعمة المال، فهو ليس في حاجة إلى التكسب، وإلى تضييع الأوقات بالبحث عن المال الذي يقيم أوده، لكن هؤلاء ما بصرهم الله -جل وعلا- بشرف العمر، فيتعجب منهم، والواحد منهم يجلس في الأسواق يتتبع أسعار الغلاء وأخبار الملوك والسلاطين.

فيقول: علمت أن الله -جل وعلا- لم يطلع شرف العمر، أو لم يبصر بشرف العمر إلا من وصفه الله -جل وعلا-: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(2) فعلى كل حال، من أراد -يعني- أخبارا في هذا، فليراجع كتابه صيد الخاطر؛ فإن له فيه لفتات جيدة، أقول هذا؛ لأنكم الآن -والحمد لله- يعني.. في سعة من الوقت في هذه العطلة، ويمكن الغالب والكثير منكم عنده هذه الإجازة، فما دمتم استغللتموها لطلب العلم، فهذه -والله- مفخرة، وأي مفخرة! وشرف، أي شرف! وبخاصة من كان قدم من خارج هذا البلد، فهذا يذكرنا حقيقة -وأحيانا الذكرى مسلية- يذكرنا بأخبار العلماء الأوائل الذين كان الواحد منهم يضرب أكباد الإبل إلى بلدان شتى، كل ذلك في طلب حديث من الأحاديث، أو فائدة من الفوائد، أو لقي شيخ من الأشياخ: الرحلة في طلب العلم.

فهذا -بلا شك- أيضا -يعني- الحقيقة يجعلنا نستأنس أكثر وأكثر، ونأمل -إن شاء الله- أن تكون هذه الصحوة المباركة، يعني: تخطت العراقيل التي يمكن أن تكون طبيعة في وجودها، وأدركت أن فلاحها وصلاحها واستقامتها مربوطة بهذا العلم، فالإنسان الذي يريد أن ينضم إلى صف الدعوة إلى الله -جل وعلا- والدعاة إلى الله، وإلى صف هذه الصحبة المباركة -لا شك- أنه يعتبر نفسه من الدعاة، كل بحسب استطاعته، لكن الإنسان إلى أي شيء يدعو؟ إذا لم يكن متزودا بزاد العلم فلربما دعا غيره إلى ضلال -والعياذ بالله- ولربما ألقي إليه سؤال محرج، فأفتى بغير علم، لربما دعا غيره، واستحسن أشياء تدخل في عداد البدعة، فالداعية إلى الله لا بد أن يكون على نور من ربه -جل وعلا- ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ(3) فلا بد أن يكون الإنسان على بصيرة بالأمر الذي يدعو إليه، أما أن يكون الإنسان مجرد عاطفة تشتعل، هذا لا يكفي.

العاطفة، نعم الإنسان بحاجة إليها، لكنها لا تكفي وحدها إذا لم يكن منضما إليها العلم الشرعي، الذي يجعل الإنسان كالذي يسير في ظلماء، ومعه مصباح في يده يبصر به طريقه، ولا شك أن الداعية في خضم هذه الموجات الجاهلية في هذا العصر الحديث من جميع أصنافها، هو يسير في وسط ظلمة، لكن هذه الظلمة تحتاج إلى مصباح يضيء له الطريق، وهذا المصباح هو العلم الشرعي، فالله الله أيها الأخوة.

يعني: أحث نفسي وأحثكم على ملازمة هذه الدروس، وعلى قصر هذه الأنفس، فإن الأنفس دائما تميل إلى البطالة، تميل إلى الدعة والراحة، ولو أن الواحد منا أطاع نفسه لما رفع رأسه من على الوسادة، أو لما ترك المجلس الفلاني الذي فيه القيل والقال، أو الدعابة الفلانية وما إلى ذلك، أو النزهة الفلانية واللعب الفلاني.

لو الواحد منا أطاع نفسه لما ترك هذه الأشياء، لكن هذه الأنفس ضلعة تحتاج إلى من يقصرها على طاعة الله -جل وعلا- وعلى تعلم العلم الشرعي الذي هو من أفضل العبادات.

بقي الإشارة إلى -يعني- السبب في المجيء هو أن الشيخ محمد الفراج -حفظه الله- طرأ له بعض الشغل الذي جعله يسافر خارج الرياض، وإن شاء الله سيقدم، ويواصل دروسه بإذن الله جل وعلا.

لكن درس "نخبة الفكر" يحتاج إلى مقدمة خفيفة، نستغل هذا الوقت في ذكر هذه المقدمة، وفي وقت الدرس -إن شاء الله- نبدأ بداية فعلية في شرح النخبة.

هذه المقدمة -أيها الأخوة- تتمثل.. أولا:

لماذا علم الحديث؟ لماذا نطلب علم الحديث؟ نطلبه -أولا- لأنه من أشرف العلوم؛ ولأن أهله هم الذين أصبحوا مصابيح الدجى، فلو نظرنا في الأئمة الأربعة: ثلاثة منهم ممن اشتهروا بالحديث، وإن كان الرابع، وهو أبو حنيفة -رحمه الله- لم يخلو من علم الحديث، لكنه لم يشتهر كشهرة الباقين، فالإمام مالك -رحمه الله- لو فتحتم كتابه الموطأ، وإذا به مليء بالأحاديث، وآراء الإمام مالك محصورة معدودة لا تشكل إلا نسبة ضئيلة من تلك الأحاديث والآثار التي ساقها بسنده، إما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإما إلى تابعيه، ولو نظرنا إلى الشافعي -رحمه الله- وإذا به -أيضا- قمة في هذا الأمر، فكتابه الأم مليء بالأحاديث التي يسوقها بسنده.

كتابه الرسالة مليء بالأحاديث التي يسوقها بسنده، حتى إن بعض تلاميذه ذهب فألف مسندا للشافعي استخلصه من الأحاديث التي يرويها في كتبه، وأصبح الكتاب مشهورا بمسند الشافعي، وكذلك -أيضا- كتاب السنن له -رحمه الله تعالى- وأما الإمام أحمد، فهو قمة أهل الحديث لا يعرف أن الإمام أحمد -رحمه الله- كتب حرفا واحدا في الفقه، مع العلم أنه محسوب -أيضا- في عداد الفقهاء، لكنه كان ينهى تلاميذه عن كتابة الرأي، ويحثهم على كتابة الحديث. وفضل أهل الحديث لا ينكر، فهم الذين جهزوا الجهاز وأعدوا العدة لكل من أراد أن يخدم علوم الإسلام على شتى صنوفها.

فالمفسر لا يستغني عن الحديث، والفقيه لا يستغني عن الحديث، والأصولي لا يستغني عن الحديث، والمؤرخ لا يستغني عن الحديث، بل لا يستغنون عن مصطلح الحديث.

فإذا نظرت إلى المفسر بأي شيء سيفسر كتاب الله جل وعلا؟

إما أن يفسره بعلم، أو يفسره بجهل، إذا كان يفسره بعلم، فمعروف بأنهم كانوا أول ما يفسرون كتاب الله -جل وعلا- بكتاب الله نفسه، فلربما كانت آية فيها إجمال ورد مفصلا في آية أخرى، فخير ما يفسر به كتاب الله في كتاب الله، ثم الدرجة الثانية في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم الدرجة الثالثة بما ورد عن الصحابة، ثم بعدهم التابعين. لكن لو نظرنا لهذه الأمور لثلاثة: ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وما جاء عن الصحابة والتابعين، وإذا به لا بد أن يكون مرويا بالسند، وهذا السند إما أن يصح، أو لا يصح، فإن صح السند، فلا يمكن الحكم على الحديث، أو الأثر بالصحة إلا من جراء علم الحديث، مصطلح الحديث. وإن لم يكن الإنسان مؤهلا لانتقاء الصحيح من السقيم واختياره والتفسير به، فإنه -بلا شك- سينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقله، وسينسب إلى الصحابي ما لم يقله، وسينسب إلى التابعي ما لم يقله، ومن هنا يقع الإشكال، فلو أن يعني الأحاديث والآثار ميز صحيحها من سقيمها لتقلصت دائرة الخلاف إلى حدٍ كبير جدا؛ لأن ما لا يصح نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو إلى صحابي، أو تابعي هو الذي يشكل كثيرا من الخلاف دائما.

فإذا نسب قول إلى الصحابي، فإنه يشكل رأيا من الآراء، لكن لو أن هذا القول، أو هذا الرأي عرف أنه غير صحيح، لأبعد من الساحة، ولما أصبح هناك توسيع لدائرة الخلاف، فعلى كل حال المفسر لا يستغني عن علم الحديث.

الفقيه لا يستغني عن علم الحديث، الفقيه هو الذي يقول للناس: هذا حلال، وهذا حرام، وافعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، والحكم في المسألة الفلانية كذا، والحكم في المسألة الفلانية كذا، فإذا كان هذا الفقيه حاطب ليل: لا يعرف صحيح الأخبار من سقيمها، فإنه -بلا شك- يحلل ما حرم الله، وسيحرم ما أحل الله، إذا لم يكن متبصرا بهذا الأمر، ومن هنا يقع الإشكال لكثير من مقلدة المذاهب، الذين الواحد منهم تجده يستدل بالحديث الضعيف، ويبني عليه أحكاما، ويبني على تلك الأحكام المستنبطة أقيسة يقيس عليها، وهكذا تجد أن ما بني على الباطل، فهو باطل، سلسلة متواصلة الحلقات. لكن لو أجهز على المسألة من الأصل، بحيث صح الأثر من حديث، أو غيره، فهو الذي عليه العمدة، لم يصح يستبعد، وترجع المسألة إما إلى أصلها، أو إلى حديث، أو أثر آخر. كذلك -أيضا- الأصولي يقعد قواعد أصولية، وهذه القواعد مستمدة من نصوص شرعية عدة، لكن هذه النصوص الشرعية، إما أن تكون من كتاب الله -جل وعلا- وهذا لا مجال للكلام فيه، وإما أن تكون من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو أثر عن صحابي، فبالتالي لا بد من النظر -أيضا- في صحة ذلك من عدمها. المؤرخ إذا لم يكن عارفا بطريقة تمييز الأخبار، فإنه -بلا شك- سينسب بعض الحوادث إلى أناس معينين، ولأضرب لكم مثالا على ذلك:

القصة التي تروى في تحكيم الحكمين: أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص -رضي الله عنهما- تعرفون أن هذه القصة اشتهرت، وانتشرت عند الناس، وفيها نسبة الخديعة والمكر لصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحاشاهم من ذلك، حينما يقولون: إن عمرو بن العاص خدع أبا موسى الأشعري -رضي اله تعالى عنهما- حينما خلع الخاتم، وقال أبو موسى: أنا أخلع صاحبي، كما أخلع هذا الخاتم، وقال عمرو بن العاص: وأنا أثبت صاحبي كما أثبت هذا الختم، فكانت خديعة من عمرو بن العاص.

هذه القصة لا تصح، ولا تثبت، لكن انطلت على من؟ انطلت على الذين لا يميزون، لكن الصحيح هو ما رواه حصين ابن المنذر -رحمه الله تعالى- وهو أن الحكمين كليهما، اتفقا على خلع علي ومعاوية؛ لحقن دماء المسلمين؛ ولذلك يعني: من شواهد هذه القصة أن ما أحد لا معاوية ولا علي طالب بتحكيم ما اصطلح عليه الحكمان، كل منهما بقي في مكانه ورضي بما وقع تحت يده من الممالك.

وهذا هو أقوى شأنًا، وإلا لو كان -فعلا- الأمر كما صُوِّر من خلع أبي موسى لعلي، وإثبات عمر لمعاوية، لأصبح معاوية يطالب بنتيجة الصلح الذي اتفقا عليه، لكن لم يحصل شيء من المطالبة إطلاقا، وهذا دليل على صدق ما حكاه حبيب بن منذر.

وهذه الحكاية -كما يقول القرطبي -رحمه الله- في "العواصم"-: إنه رواها الدارقطني بسند صحيح.

فالمعوّل عليه في الأخبار حتى هو صحة الأسانيد من عدمها؛ ولذلك -أيها الإخوة- لا تعجبوا أن تجدوا في كتب التواريخ العجب العُجاب، والدواهي كثيرة، مثل قصة استباحة المدينة، فهي بهذه الصورة لا تثبت، ونعوذ بالله أن تثبت بهذه الصورة، يعني: ما بين وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين هذه الحادثة قيل: أقل من ستين سنة، وأصبح المسلمون يصلون إلى هذه الدناءة؟! هذا أمر بعيد.

تعرفون معنى الاستباحة؟ يعني: أصبحت المدينة مباحة، بحيث الرجل يمسك أي امرأة ويزني بها، يمسك أي مال ويأخذه، وأصبح الناس قد -يعني- اختلطت أنسابهم، وحصل -يعني- من حالة مثل ما يشبه الآن حالة استباحة الصرب للبوسنة.

نسأل الله السلامة من هذا، أن يقع من الناس في مثل ذلك الوقت، حتى وإن كان هناك من التنازع على الملك والحكم ما حصل، لكنه لا يصل -والعياذ بالله- إلى هذه الدرجة.

كذلك -أيضا- حادثة إحراق الكعبة، يعني: كأنها متعمدة من الحجاج بن يوسف في مقاتلته لعبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنهما-، وأن الكعبة قد أُحرقت عن تعمد من قوات الحجاج بن يوسف، وهذا -يعني- لم يحصل بهذه الصورة التي تصورها كتب التواريخ.

والسبب أن هذه القصص والحكايات التي في تاريخ الأمة الإسلامية أكثر من افتعلها هم الروافض، وقصدهم من ذلك تشويه الدولة الأموية؛ لأن الدولة الأموية على ما فيها -يعني- من القصور، لكنها هي الدولة التي حققت الفتوحات الإسلامية العريضة في وقت مبكر من تاريخ الأمة الإسلامية.

ولابن كثير -رحمه الله- تعالى كلام جيد في "البداية والنهاية" وهو يذكر مآثر هذه الدولة، فيذكر أن القائد الفلاني في السند يفتح البلدان والأقاليم، والقائد الفلاني في بلاد الترك، والقائد الفلاني في بلاد الأندلس، والقائد الفلاني في كذا، والقائد الفلاني في كذا؛ فيذكر من نشرهم لدين الله -جل وعلا- ما يجعل فعلا الأعداء يأكل الغيظ قلوبهم، ويجعلهم يصوبون سهامهم نحو هذه الدولة؛ لتشويه سمعتها وإسقاطها.

ومعروف بأن العداء بين الدولة الأموية والروافض قائم على أشده.

فمن الروافض أبو مخنف، وهو راوية من رواة التواريخ، وعنده من القصص والحكايات الشيء الكثير.

ومن الروافض -أيضا- هشام بن السائب الكلبي، وهو من الروافض أيضا والأخباريين.

ومنهم رجل يقال له: عوانة، وغيرهم كثير، وكذلك -أيضا- الواقدي صاحب "المغازي" وهم كثرة، كلهم روافض وممن يضعون الأخبار.

فلو أن هذه الأخبار خضعت لمقياس النقد الذي عند أهل الحديث لذهب منها جملة، ولبقي لنا ما صح من تاريخ الأمة الإسلامية ناصعًا أبيضَ نقيًا.

ولذلك نقول: حتى المؤرخ لا يستغني عن علم الحديث، لا يستغني عن الإسناد، وكل ما لم يُرْوَ بالسند فهو مما ينبغي أن يُبْعَد.

وينبغي أن نعلم أن الإسناد من خصائص الأمة المحمدية التي فضلها الله -جل وعلا- على سائر الأمم.

ومن أوجه هذا التشريف والتكريم لهذه الأمة وجوب الإسناد الذي لم يوجد عند أمة من الأمم.

كذلك أيضا -أيها الإخوة- لو نظرنا للدعاة والمصلحين في تاريخ الأمة الإسلامية، نجد الغالب جدا منهم ممن برزوا في علم الحديث:

أولهم الإمام أحمد -رحمه الله- الذي وقف في وجه الفتنة المعروفة، ثم مَن تتلمذ عليه، ومن كان في عصره، أئمة، ومن كان قبل ذلك.

شعبة مَن هو؟ محدث، سفيان الثوري مَن هو؟ محدث، عبد الرحمن بن مهدي مَن هو؟ محدث، الإمام مالك مَن هو؟ محدث، عبد الله بن المبارك الإمام المجاهد مَن هو؟ محدث، الشافعي -رحمه الله- مَن هو؟ محدث، إسحاق بن راهويه محدث، أبو بكر بن أبي شيبة محدث، البخاري محدث، مسلم محدث، أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، ابن خزيمة، ابن حبان، الحاكم.

كل هؤلاء الأفذاذ، وغيرهم وغيرهم كثير كلهم محدثون، وهم ممن نشروا العلم في صفوف الناس، وهم ممن من وقفوا أيضا في وجه أي مبتدع وضالٍ منحرف عن الطريق السوي.

فتجد الواحد منهم -مع بروزه في علم الحديث- إلا أنه له المشاركة في فنون أخرى؛ فالبخاري -رحمه الله- هو الذي ألف "خلق أفعال العباد" في بيان وجه الحق في مسألة اللفظ، وهل أفعال العباد مخلوقة أو غير مخلوقة؟.

الإمام أحمد -رحمه الله- هو الذي -يعني- نقل عن ابن عبد الله كتاب السنة الذي يعتبر أصلا من الأصول.

ابن أبي عاصم من قمة المحدثين، وهو صاحب كتاب "السنة".

ابن خزيمة -رحمه الله- هو صاحب كتاب "التوحيد".

ابن منده -رحمه الله- هو صاحب كتاب "الإيمان".

وغيرهم كثير، كلهم ممن ألف في هذا العلم وفي علوم أخرى.

أيضا لو نظرنا للواحد منهم، فنجده لم يقصر نفسه على علم الحديث مجردا، هكذا مجرد نقل للأحاديث؛ بل تجد الواحد منهم يُعْنَى بالناحية الفقهية، ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين الحديث والفقه، ومتى ما جمع الإنسان بين الحديث والفقه فإنه يصبح -يعني- آية من الآيات في العلم، وفي قوة الحجة.

فبلا شك أن من طلب علم الحديث -كما يقول الشافعي -رحمه الله-: "قويت حجته" وأي حجة أقوى من أن تُذكر مسألة من المسائل للإنسان فيقول فيها بآية أو حديث؟ بخلاف إنسان يُعمل رأيه، والرأي قد يصيب وقد يخطئ، لكن الذي معه أثارة من العلم فبلا شك أن حجته أقوى من حجة غيره.

لو نظرنا -مثلا- للبخاري -رحمه الله- فهو من قمم المحدثين، لكن مع ذلك كتابه حافل باستنباطات فقهية دقيقة شكلت مذهبا مستقلا للبخاري، بحيث إذا ذُكرت مسألة من المسائل قيل: وقول البخاري فيها كذا وكذا، وتجد قول البخاري مستندا إلى حديث أو أثر. يظهر هذا واضحا من تبويباته الفقهية الموجودة في كتابه "الصحيح".

وغير البخاري كثير من الأئمة الذين برزوا في هذا الجانب؛ لكن ذكرت البخاري لأن كتابه متداول في أيدي الناس، وهذه الخصلة واضحة في كتابه جدا.

بقي أن أشير إلى أن هناك من يحتقر المحدثين، والسبب الصراع الدائم أحيانا بين الفقهاء وبين المحدثين، وأقصد بالفقهاء: الذين يطلبون الفقه للفقه مجردا عن الدليل، وهو الفقه المذهبي، فمثل هؤلاء تجدهم أحيانا يصتنعون بعض الحكايات والأخبار التي فيها ازدراء للمحدثين؛ بحجة أن المحدث إنما هو كالصيدلي الذي يُحضّر الدواء، لكن الفقيه هو الفقيه الذي كذا وكذا و كذا، ويبدءون يذكرون من مآثر الفقهاء.

والحقيقة أن إحداث مثل هذا الصراع بين المحدث والفقيه هو خاضع لشيء من الهوى، وإلا الإنسان المنصف يعرف أنه لا غنى للفقيه عن الحديث، ولا غنى -أيضا- للمحدث عن الفقه.

فما هي الثمرة من رواية الأخبار؟ هل هي مجرد -مثلا- حفظ أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- فقط؟ لا، لا بد له من ثمرة، والثمرة تتمثل في العمل الذي ينبني على هذه الأحاديث والآثار المروية.

العمل مسألة تستنبط، حكم فقهي يذكر، مسألة ترد يحتاج الأمر فيها إلى أن يعرف الحكم فيها: هل هو حلال أو حرام؟ وهل يفعل الإنسان كذا أو يفعل كذا؟ كل هذا مربوط بهذا المتن المروي بذلك الإسناد.

فينبغي لنا أن ندع جانبا كل هذه الترهات التي تذكر في النزاع بين الفقهاء والمحدثين، ونعرف أنه لا بد لنا أن نربط الفقه بالحديث، ففقيه يتنحى عن الحديث نقول له: أنت على جانب من الخطأ، ومحدث يتنحى عن الفقه نقول أيضا: أنت على جانب من الخطأ، لكن خطأه ليس كخطأ الآخر، لماذا؟ لأن الآخر يتكلم في مسائل بحلال أو حرام، والكلام في أمور الشرع بحلال أو حرام هو من التقول على الله -جل وعلا-.

فإما أن يكون الإنسان مستندا على أثر صحيح، فبالتالي يكون قوله هذا له من الوجاهة ما له، وإما أن يكون غير مستند على شيء، فهذا يُخْشَى عليه أن يكون داخلا في قول الله -جل وعلا-: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(4)

والذي يريد أن يقول على الله بعلم لا بد أن يكون هذا العلم مستندا إلى كتاب الله -جل وعلا-، أو ما صح من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

يحكون فيما يحكون، يعني مثلا: أن بعض المحدثين جاءته امرأة تسأل عن بئر وقعت فيها دجاجة، فهل ماء تلك البئر طاهر أم نجس؟ فحاد المحدث عن الجواب بقوله: ويلكِ، كيف سقطت الدجاجة في هذه البئر؟ ألا غطيتيها!

وكان هناك أحد الذين برزوا في الفقه حاضرا، قال: فعلمت أنها حيدة، فأخذت المرأة، وقلت لها: الحكم فيها كذا وكذا.

فيقولون: هذا دليل على أن المحدثين لا يعرفون فقط سوى الرواية، ولا يعرفون الفقه، يصنعون مثل هذه الحكايات للتشنيع على أهل الحديث، وكما قلت لكم: العاقل ينبغي أن يربأ بنفسه عن مثل هذه الأمور.

وهذه الحكاية لا تصح؛ لأنها حُكِيَت عن إمام من الأئمة له كتاب في الفقه، وهو يحيى بن محمد بن صاعد -رحمه الله تعالى-، فهو فقيه.

لكن الخطيب البغدادي -رحمه الله- حينما ذكرها دافع عن يحيى بن صاعد، قال: هو -يعني- لو على فرض أنها صحت، فيعتبر -رحمه الله- تورع في الحكم في هذه المسألة؛ لأنها مسألة خلافية، فلم يُرِد أن يتكلم فيها، وهو لم يترجح له أمر من الأمور في هذه المسألة، مع العلم أنها من حيث السند لا تصح ولا تثبت.

نقوم بمراجعة سريعة لما أخذناه بالأمس، مع استدراك ما يحتاج إلى استدراك.

فمَن من الإخوة يذكر تعريف الخبر؟

طيب، هذا تعريف -يعني- هو المختار، وليس هناك تعريف آخر ؟

أي نعم، إذن نقول -بادئ ذي بدء-: اختُلِفَ في تعريف الخبر، فقيل: هو مرادف لأي شيء؟ للحديث، وهذا يضطرنا إلى أي شيء؟ إلى تعريف الحديث، فما هو تعريف الحديث حتى نعرف تعريف الخبر؟

تفضل..

نعم، هو ما رُوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خِلْقية أو خُلُقية، أو سيرة، أو كما -يعني- أضاف أحد الإخوة بالأمس ما كان من هم.

المهم، كل ما يُنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في جميع أحواله.

ما دمنا عرَّفنا الحديث، إذن نستطيع من جراء ذلك أن نُعرِّف الخبر.

فعلى القول الأول -كما ذكر الأخ-: الخبر مرادف لتعريف الحديث، بمعنى: أن الخبر والحديث بمعنى واحد، فهل هناك من تعريف آخر؟

تفضل..

بمعنى؟ يعني أيهما أعم: الحديث أو الخبر؟ الخبر أعم من الحديث، فمعنى ذلك أن كل حديث خبر، ولا عكس؛ فالخبر قد يكون حديثا، وقد يكون قولا لأي إنسان كائنا من كان.

طيب، هل هناك قول آخر ؟

كل خبر حديث؟ لا، هذا القول ما قيل، لكن قيل القول، وهو الذي -يعني- أردت أن استدركه، وهو أن الخبر بعكس الحديث؛ فالحديث ما يُرْوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والخبر ما يروى عن غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذه ثلاثة تعاريف:

التعريف الأول: هما بمعنى واحد.

والتعريف الثاني: أن الخبر أعم من الحديث؛ فكل حديث خبر، وليس كل خبر حديثا.

والمعنى الثالث: عكس الحديث، فالحديث ما يُرْوَى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والخبر ما يُرْوَى عن غير النبي -صلى الله عليه وسلم.

تطرقنا كذلك إلى تعريف أي شيء؟ الأثر، فمَن من الإخوة يعرف الأثر؟

نعم.. له تعريفان. . أي نعم، أحسنت، بارك الله فيك.

فالأثر له تعريفان:

التعريف الأول: قيل: هو مرادف للحديث، فيمكن أن نقول للأثر: حديثا، ويمكن أن نقول للحديث: أثرا.

والقول الثاني: إنه مغاير للحديث، فالحديث ما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والأثر ما يُرْوَى عن من؟ عن الصحابة والتابعين.

و. . نعم. .

نعم، عند المحدثين، عند جمهور المحدثين الأثر بمعنى الحديث، فيمكن أن تقول للحديث: أثرا، ويمكن أن تقول للأثر: حديثا.

لكن عند الخراسانيين هم الذين قيدوا الأثر بما يروى عن الصحابة والتابعين.

بعد ذلك ذكرنا أن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- قسم الخبر إلى قسمين: فما كان له طرق محصورة وما ليس له طرق محصورة، وهذا يستدعينا إلى تعريف الطرق، فما هي الطرق؟

الطرق: الأسانيد، وبالتبع أيضا سنضطر إلى تعريف الإسناد، وهذا ما تطرقنا له بالأمس، ونستدركه في هذا اليوم إن شاء الله.

فالإسناد ذكروا له تعريفين:

التعريف الأول: هو ما ذكره الحافظ في شرح النخبة، وهو حكاية طريق المتن، قال: "الإسناد: هو حكاية طريق المتن" بمعنى: أنه عزو الحديث إلى قائله مسندا، فإذا كان قائل الحديث هو النبي -صلى الله عليه وسلم- أو الصحابي أو التابعي.

فإذا ذكرنا ذلك القول بالإسناد، كأن يقول البخاري -مثلا-: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما الأعمال بالنيات. .»(5) إلى آخر الحديث.

فهنا يقال: إن البخاري أي شيء؟ أسند الحديث.

فالإسناد هو عزو الحديث إلى قائله، وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- مسندا، يعني: بذكر رجال الإسناد.

فهذا معنى كلام الحافظ -رحمه الله- حينما قال: "حكاية طريق المتن" أي: عزو الحديث إلى قائله مسندا، هذا هو التعريف الأول.

والتعريف الثاني: يعني هو مشابه لهذا، قالوا: "هو سلسلة رجال الإسناد الموصلة إلى المتن". فسلسلة الرجال هؤلاء يقال لها: الإسناد.

وبهذا التعريف الثاني يكون تعريف الإسناد والسند بمعنى واحد، فالسند: هو سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن.

ونحتاج -أيضا- إلى تعريف المتن، يعني حتى يكون الجميع على دراية بهذه المصطلحات، فالمتن ما هو؟ قالوا: "المتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام".

فالحديث الذي ذكرته قبل قليل: البخاري، عن علي بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة، عن عمر بن الخطاب، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، الآن انتهى السند، انتهى إلى أي شيء؟ إلى كلام، هذا الكلام هو المتن، فالمتن هو ما ينتهي إليه السند من الكلام.

أي نعم، يعني ما دام أن الحديث ذُكِرَ بالإسناد على ما في الإسناد من العلل، سواء كان الإسناد مرسلا، أو معلقا، أو مدلسا، أو مرسلا إرسالا خفيا، أو معضلا، إلى غير ذلك من علل الإسناد التي سيأتي الحديث عنها -إن شاء الله- فيما بعد، هذه لا تقدح في تعريف الإسناد، ولكنها تقدح في صحة الحديث كما سيأتي -إن شاء الله-.

بعد ذلك -أيضا- ذكرنا تعريف الخبر الذي ليس لطرقه حصر، وقلنا: إن الذي ليس لطرقه حصر ما هو؟ المتواتر، فما هو تعريف الخبر المتواتر؟

نعم. .

أحسنت، بارك الله فيك، هو ما رواه جمع كثير عن جمع بحيث تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وإسناده إلى شيء محسوس، وأيضا ذكروا أنه يفيد العلم، والعلم على ما سيأتي -إن شاء الله- الكلام فيه، هل هو يفيد العلم الضروري أو يفيد العلم النظري.؟

فمن هذا التعريف نأخذ للمتواتر كم شرط؟ خمسة شروط:

الشرط الأول: الجمع الكثير.

الشرط الثاني: أن يكون هذا الجمع في كل طبقة من طبقات الإسناد.

الشرط الثالث: أن تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب.

والشرط الرابع: أن يسوده إلى شيء محسوس.

والشرط الخامس: إفادته للعلم.

وذكرنا بعض هذه الشروط، وبعضها يحتاج إلى استدراك بعض الشيء الذي لم يذكره في الليلة البارحة.

فأول شرط وهو مسألة العدد، ما رواه جمع، هذا الجمع هل له حصر بعدد معين، أو ليس له حصر؟

هذه مسألة -كما أشار إليها الحافظ ابن حجر في شرحه للنخبة- أنهم اختلفوا فيها؛ فمنهم من شرط عدد الأربعة، ومنهم من قال: خمسة، ومنهم من قال: عشرة، ومنهم من قال: اثنا عشر، ومنهم من قال: عشرون، ومنهم من قال: أربعون، ومنهم من قال: سبعون.

وكل منهم يحاول أن يتلمس لنفسه دليلا يستدل به، فمثلا الذين قالوا: العدد اثنا عشر، قالوا: إن الله -جل وعلا- ذكر أن الأسباط الذين اختارهم موسى عددهم اثنا عشر ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا(6)

وأما الذين ذكروا عدد الأربعين، فاستدلوا بأن العدد الأربعين هم الذين لا تقوم الجمعة إلا بهم، طبعا على الرأي الذي يرى هذا الرأي.

الذين قالوا بعدد السبعين ذكروا الآية التي ذكرتها قبل قليل: ﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا(7)

ومنهم من زاد عن ذلك، وقال: لا بد أن يكون عددهم أكثر من ثلاثمائة رجل، واستدلوا بعدد أهل بدر.

المهم أنه -يعني- من خلال هذه الاستدلالات يظهر لنا ضعف اشتراط العدد، وهناك -يعني- من اختار القول بعشرة كالسيوطي في "تدريب الراوي" ومنهم من رجح عدم اشتراط العدد كالحافظ ابن حجر هاهنا، وقال: الصواب أنه لا يُشترط عدد معين.

فقد يأتيني حديث يرويه عشرون رجلا، وحديث آخر يرويه خمسة من الرجال، لكن الحديث الذي رواه خمسة يفيدني علما أكثر مما يفيدني الحديث الذي رواه عشرون.

وهذا يختلف باختلاف الأشخاص الناقلين للحديث، فلو أن حديثا جاءني من خمسة طرق، وهذه الطرق كلها من أصح الأسانيد، فبلا شك أنه يفيدني علما أكثر مما لو جاءني حديث آخر من عشرين طريقا كل واحدة من هذه الطرق فيها ضعف، بلا شك أن ذاك يفيدني علما أكثر مما أفادني هذا الذي أكثر عددا، لكنه يختلف من حيث نوعية رجال الإسناد.

فلذلك اشتراط العدد -في الحقيقة يعني- من شرطه فهو غير مصيب في اشتراطه، حتى السيوطي حينما اشترط عدد العشرة هو أخل بهذا الشرط في كتابه "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" لأنه هو ممن حاول جمع الأحاديث المتواترة، ولكنه أخل بهذا الشرط في كتابه، فجمع بعض الأحاديث التي هي دون العشرة، وادعى فيها التواتر.

فهذا بالنسبة لمفهوم الكثرة.

يأتينا بحث آخر، وهو البحث في رجال الأسانيد للحديث المتواتر، هل يُشترط في الحديث المتواتر أن ننظر في رجال سنده أو لا يشترط؟

الحقيقة -أيها الإخوة- يعني كما أشار الحافظ هاهنا يقول: إن مبحث المتواتر ليس من مباحث علم المصطلح؛ لأنه ليس من مباحث علم الإسناد، فالمكان الأليق به هو كتب الأصول، أصول الفقه، وأما كتب المصطلح فالأليق ألا تبحث الحديث المتواتر.

هذا رأي الحافظ ابن حجر -رحمه الله-، والسبب أنهم نظروا، فوجدوا أن المحدثين القدامى لم يتكلموا عن المتواتر إطلاقا، وأول من عُرف أنه تكلم عن الحديث المتواتر من أهل الحديث هو الخطيب البغدادي، والخطيب البغدادي يعتبر متأخرا نوعا ما، فهو متوفى في سنة أربعمائة وثلاث وستين للهجرة.

أما قبل الخطيب البغدادي فلم يتكلم المحدثون عن الحديث المتواتر، ولعل هذا يذكرنا بما قلت لكم ليلة البارحة من أن تقسيم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى متواتر وآحاد، أن هذا أمر حادث بعد ظهور الفرق المبتدعة.

وأما علماء الحديث فلم يكونوا يعرفون هذا التقسيم، وإنما كانوا ينظرون في الإسناد، فمتى ما صح الحديث فيتلقونه بالقبول، ولا يجوز لإنسان -كائنا من كان- أن يتخلف عن العمل بذلك الحديث إلا بحجة بينة، حجة علمية، إما أن يظهر له في هذا الحديث علة قادحة تقدح فيه، حتى وإن كان الحديث صحيحا عند قوم، لكنه هو يرى عدم صحته، أو يرى أن الحديث -مثلا- منسوخ، أو غير ذلك من العلل التي تعتبر حججا علمية في رد ذلك الحديث، أو عدم العمل بذلك الحديث.

أما أن يكون الرد مبنيا على الهوى، وحجج عقلية، فهذا -في الحقيقة- ليس هو المنهج الذي كان عليه أئمة الحديث -رحمة الله عليهم.

نعود الآن إلى الكلام في مبحث الرجال، قالوا: هل يُبحث في رجال الأحاديث المتواترة أو لا يبحث؟

معظم الذين تكلموا في هذه القضية قالوا: لا يبحث في رجال الأسانيد، ولعل مقصدهم لا يبحث في ضبطتهم، وأما عدالتهم فلا بد من البحث فيها، وهذا إنما هو في الكلام على حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين.

لكن حينما نجدهم ينصون -وهذا يعني أمر مشهور في كتب الأصول- ينصون على أنه لا يُبحث حتى في العدالة.

بل إن ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في كتابه "روضة الناظر في أصول الفقه" يعني قال: إنه لا يبحث حتى في إسلامهم، حتى اليهودي، حتى اليهود والنصارى -يعني- يمكن أن يقبل الخبر الذي يذكرونه، لكن بالشرط الذي يدندنون حوله دائما، وهو إحالة العقل أو العادة تواطؤهم على الكذب، ما دام أن العادة أحالت تواطؤهم على الكذب فهذا يكفي عندهم.

فمن هنا -أيها الإخوة- ندرك أنهم حينما يتكلمون مثل علماء الأصول، يتكلمون عن الخبر أي خبر، ولا يتكلمون عن حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أدخلوا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتبع على أنه خبر من جملة الأخبار.

لكن ما دام أنهم تكلموا عن هذه المسألة من هذه الحيثية، بحيث لم يشترطوا حتى الإسلام، فيمكن أن يقبل خبر اليهود والنصارى وما إلى ذلك، فنعرف أنهم تأثروا بالمباحث الكلامية التي وردت في الكتب اليونانية التي عُرِّبت في أول الدولة العباسية في عهد أبي جعفر المنصور، واستفحل أمرها في عهد الخليفة المأمون.

هذه الكتب هي التي أدخلت البلاء على المسلمين، ومن هنا دخل ما يسمى بالتواتر، وإلا ما كانوا يعرفون هذا المبحث؛ بدليل أنهم -يعني- يتكلمون عن أنه لا يشترط في الخبر مسألة الديانة، فيمكن أن يكون يهوديا، يكون نصرانيا، مسلما، بوذيا، أيا كان بهذا الشرط، وهو إحالة العادة تواطؤهم على الكذب.

ويمثلون على هذا بمثال، فيقولون مثلا: إن صلب عيسى لا يمكن أن يعتبر متواترا، حتى وإن كان الذي يذكره من النصارى عدد غفير جدا يزيد على الملايين، فهذا لا يمكن أن يكون متواترا، لماذا؟

قالوا: لأن العادة لا تحيل تواطؤهم على الكذب، كيف؟

قال: لأن الخبر في أصله يعتبر آحادا، فإذن هذا لا يتحقق فيه شرط التواتر.

من هنا -يعني- يمكن أن نأخذ ما يترجح، وهو أنه لا بد من النظر في عدالة رجال الأسانيد التي تروى بها الأحاديث المتواترة، فلربما جاءنا حديث مثلا من مائة طريق، لكن هذا الحديث كل طريق من هذه الطرق نجد فيه راويا كذابا أو متهما بسرقة الحديث.

وأشير هنا إلى مسألة سرقة الحديث، وهي مسألة مهمة، فهناك كثير من الرواة الذين يضعون الحديث نجد في تراجمهم التهمة بسرقة الحديث، فيكون هناك حديث من الأحاديث يرويه راوٍ واحد في الأصل، وهذا الراوي مُضَعَّف.

لكن لأجل أن هذا الحديث يناسب أهواء بعض الفرق المبتدعة -مثلا- كالروافض، فتجد أنهم ينشطون، فيكثر رجالهم الذين يروون هذا الحديث عن شيخ ذلك الراوي الضعيف، فلربما جاءنا مثلا مائة، كلهم يروون هذا الحديث عن شيخ ذلك الراوي الضعيف، لكن لو نظرت في كل واحد من هؤلاء المائة، فإما أن تجده مجهولا لا يُعرف، وإما أن تجد العلماء يتكلموا عن أنه يسرق الحديث.

معنى سرقة الحديث أنه فعلا لم يسمع هذا الحديث من ذلك الشيخ، ولكنه عرف أن ذلك الراوي الضعيف قد حدث بهذا الحديث عن ذلك الشيخ، فنسبه لنفسه، فزعم أنه يرويه -أيضا- عن ذلك الشيخ، بمعنى: أنه تابع ذلك الراوي الضعيف، وبهذه المتابعات يمكن أن يتقوى الحديث.

فعلماء الحديث كانوا حذرين جدا من مثل هذا التصرف، ولعل -يعني- الذي يريد مثالا على هذا يراجع كلام مثل ابن حبان وابن عدي والعقيلي وابن الجوزي على حديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»(8)

فهذا الحديث مداره على أبي معاوية، وهو محمد بن خازم الضرير، يرويه عن الأعمش، لكن من الذي رواه عن أبي معاوية؟

رواه راوٍ اتهمه بعض العلماء بالكذب ووضع الحديث، ويقال له: أبو الصلت عبد السلام بن صالح، فهذا الراوي هو بلاء هذا الحديث.

ثم جاء الروافض، فسرقوا هذا الحديث من أبي الصلت، هذا وكلهم يزعم أنه يروي هذا الحديث عن أبي معاوية محمد بن خازم، واجتمع من هذا العدد كم كثير، حتى إن بعضهم هو شيخ ابن جرير الطبري.

فيذكر ابن جرير الطبري يقول: حدثني فلان عن أبي معاوية، ثم يذكر ابن جرير يقول: فلان هذا لا أعرفه، شيخك يا ابن جرير ولا تعرفه!! كيف تروي عن شيخ لا تعرفه؟!

نقول: نعم؛ ولذلك هذا هو الذي يدعو دائما من يتحفظ في مسألة الجهالة إلى التحفظ هو أن هناك من المجاهيل من قد يسرق الحديث من راوٍ آخر، أو لا تُعرف عدالته، أو حتى ضبطه، فهذا الذي يدعوهم إلى عدم قبول أحاديث المجاهيل.

فإذن، من هنا نستخلص أنه لا بد من معرفة -على الأقل- عدالة الرواة الذين يروون تلك الطرق.

أما الضبط فيمكن أن يُتسامح فيه؛ لأنه إذا جاءنا الحديث من طرق متعددة، فكل واحدة من هذه الطرق تؤيد الأخرى وتعاضدها، فيتقوى الحديث بمجموع هذه الطرق، فإذا كثرت كثرة ظاهرة بلا شك أن الحديث يفيد العلم في هذه الحال.

هناك -أيضا- الشرط الثاني، وهو أن تكون الكثرة في جميع طبقات السند، ذكرنا ما على هذا الشرط من المؤاخذة، وهو أن إحدى طبقات السند هي طبقات الصحابة، والصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يجب ألا يخضعوا لمثل هذه القيود، وبخاصة ما يقال من إحالة العادة تواطؤهم على الكذب؛ لأنه لا يتصور في الصحابة أن يكونوا كغيرهم من رواة أي خبر من الأخبار.

فالصحابة -رضي الله تعالى عنهم- معدلون بتعديل الله -جل وعلا- ونبيه -صلى الله عليه وسلم- لهم، فإذن هم فوق مثل هذا التعريف.

فمن اقتنع بمسألة التواطؤ فينبغي أن يُنَحِّي الصحابة عن هذه اللفظة المستبشعة، وهي أن يقال إن هذه اللفظة أيضا يمكن أن تشمل حتى الصحابة، حتى وإن كان -يعني- بحثهم يشمل حتى صحابة، لكن نحن يجب أن نكون حذرين من الانزلاق في مثل هذه المتاهات.

أما الشرط الذي يليه، وهو أن يفيد خبرهم الحس، أو أن يكون مصدر خبرهم الحس، فكما قلنا في الليلة البارحة يقصدون بالحس ما كان مستندا إلى أحد الحواس الخمس: إما السمع، أو البصر، أو الذوق، أو اللمس، أو الشم، أو ما إلى ذلك.

والكلام هنا عن أي خبر يرد، لكن أما الحديث النبوي فإنما يكون ببعض الحواس لا فيها كلها.

وذكرت لكم أنهم يمثلون على هذا بمثل الأمور العقلية، يعني: التي يخرجونها من التواتر، كمثلا أي نظرية يقتنع بها مثلا الفلاسفة، أو مثلا العلماء الغربيين في هذا العصر، فما كان مستندا إلى العقل فهذا يخرجونه تماما من مبحث التواتر، فيقولون: لا بد أن يكون مستند خبرهم الحس.

رأيت بعضهم مَثَّل بمثال لعله يكون مقربا لهذه المسألة، هذا المثال يقول: إن أبا عوانة -وليس هو صاحب المسند، وإنما هو الوَضَّاح بن عبد الله اليشكري، أحد العلماء الثقات المتوفى في حدود سنة ثمانين للهجرة- أبو عوانة هذا كان مملوكا لرجل -إن لم تخطئني الذاكرة فاسمه يزيد بن عطاء-، وكان أبو عوانة معروفا بسعة العلم، وهو من مشاهير المحدثين، وكان محبوبا لدى العامة.

ففي الحج رأى أبو عوانة سائلا يسأل، فلحقه وأعطاه دينارا، فلما أعطاه هذا الدينار -يعني- وقع هذا الدينار من هذا السائل موقعا، ثم قال: والله لأخدمن أبا عوانة اليوم خدمة -يعني كان يقول- لا تضاهيها خدمة، فوقف على طريق الحجاج حينما انصرفوا من عرفة، وكلما مر عليه أناس قال: يا أيها الناس، اشكروا ليزيد بن عطاء صنيعه. قالوا: وما ذاك؟ قال: إنه أعتق أبا عوانة.

فكل من مر عليه قال له هذا القول، فأصبح الناس يأتون إلى يزيد بن عطاء ويشكرونه ويثنون عليه، وهو يقول لهم: أنا لم أعتقه، أنا لم أعتقه، فلما كثر عليه العدد قال: والله لا أخيب أمل هؤلاء الناس. فأعتق أبا عوانة.

الذي -يعني- أورد هذا المثال كمثال عن هذه القضية يقول: إن هؤلاء الناس -برغم كثرتهم- لا يعتبر قولهم هذا متواترا في أصله، لماذا؟ قالوا: لأن مستند خبرهم ليس هو الحس، هم لم يقولوا لهذا الرجل: ما الذي أدراك؟ هل سمعت؟ أو حتى هم هل سمعوا يزيد بن عطاء حينما أعتق أبا عوانة؟ لا، لم يكن مستند خبرهم الحس؛ وإنما الخبر في أصله فيه ما فيه مما يقدح في هذا الشرط.

فلعله -إن شاء الله- بهذا المثال يكون قد وضح.

بقي في الكلام على المتواتر أن نتكلم على أقسامه، فهل للمتواتر أقسام؟ ذكروا له أقساما، لكن من أهمها قسمان:

فأول هذين القسمين المتواتر اللفظي، والثاني المتواتر المعنوي.

قالوا في المتواتر اللفظي: "هو ما تواتر لفظه ومعناه". وليس معنى قولهم: "ما تواتر لفظه ومعناه" أن يكون اللفظ منقولا حرفا بحرف كما ينقل إلينا كتاب الله -جل وعلا-، لا؛ وإنما المقصود الإتيان بألفاظ متقاربة تؤدي إلى نفس ذلك المعنى، وتشعر بأن الحديث هو نفس الحديث، حتى وإن كان هناك اختلاف في بعض الألفاظ، ويمثلون لهذا بحديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»(9)

فالحديث ورد بهذا اللفظ، وورد بألفاظ متقاربة مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من تَقَوَّل علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار»(10)

فالحديث هو الحديث، وإن كان فيه شيء من اختلاف اللفظ، لكن هذا لا يؤثر عندهم، فيقولون: هذا هو المتواتر اللفظي، وهذا هو الأصل، وهو الأقوى.

أما النوع الثاني: وهو المتواتر المعنوي، فيمثلون له بأحاديث رفع اليدين في الدعاء، فيقولون: لو نظرنا في كل واحد من هذه الأحاديث لا نجده ينطبق فيه أو تنطبق عليه شروط التواتر، لكن لما جاءنا -مثلا- «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر مثلا رفع يديه إلى السماء يدعو الله -جل وعلا-: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعْبَد بعدها في الأرض أبدا. حتى سقط الرداء من على منكبه، وأبو بكر -رضي الله عنه- يناشده ويقول: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك. . »(11)

هذا الحديث يفيد أي شيء؟ يفيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع يديه بالدعاء، يرفع يديه حال الدعاء.

طيب. . هذا حديث.

الحديث الآخر مثلا: حينما «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب على المنبر جاء رجل، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستسقي، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يقول أنس- يديه حتى رُئِي بياض إبطيه، فدعا الله -جل وعلا-: اللهم اسقنا غيثا مغيثا. . »(12) إلى آخر الحديث.

فهنا هذا الحديث يفيدنا أي شيء؟ يفيدنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضا رفع يديه حال الدعاء.

وهكذا لو جمعنا الأحاديث المتعددة التي كل واحد منها يفيدنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع يديه في حال الدعاء، هذه الأحاديث في مجموعها تؤدي إلى ما يسمى بالتواتر المعنوي.

ففرق بين التواتر المعنوي، وفرق بين التواتر اللفظي، التواتر اللفظي الحديث هو الحديث نفسه، لكن المتواتر المعنوي لا، كل واحد من هذه الأحاديث مستقل عن الحديث الآخر، لكن بمجموعها وبضميمتها بعضها مع بعض تؤدي إلى هذا التواتر الذي أشرنا إليه.

بقي أن أشير إلى مسألة -يعني- من المسائل التي ذكروها، وأُنَبِّه عليها، وهي أن بعضهم اشترط أن يكون كل واحد، أن يكون الخبر ليس فقط متواترا في أصله، ثم نَتَسَمَّح في باقي طبقات السند، بل قالوا: لا بد أن يكون متواترا عن كل راوٍ من الرواة، كيف؟

قال: إذا كان -مثلا- الحديث رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة من الصحابة، فلا بد أن يكون كل واحد من الصحابة -أيضا- الحديث متواترا عنه.

فإذا كان -مثلا- الحديث مرويا عن أنس وأبي هريرة وابن عمر، إلى غير ذلك، فنأتي -مثلا- لأنس، لا بد -على الأقل- أن يكون رواه عن أنس عشرة فأكثر..

بقي أن أشير إلى مسألة يعني من المسائل التي ذكروها وأنبه عليها وهي أن بعضهم اشترط أن يكون كل واحد، أن يكون الخبر ليس فقط متواترًا في أصله، ثم نتسمح في باقي طبقات السند بل قالوا: لا بد أن يكون متواترا عن كل راوٍ من الرواة كيف؟ قال: إذا كان مثلًا الحديث رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة من الصحابة فلا بد أن يكون كل واحد من الصحابة أيضًا الحديث متواترًا عنه.

فإذا كان مثلًا حديث مرويًا عن أنس وأبي هريرة وابن عمر إلى غير ذلك فنأتي مثلًا لأنس لا بد على الأقل أن يكون رواه عن أنس عشرة فأكثر، ثم هل يكفي هذا؟ قال: لا. كل واحد من هؤلاء العشرة أيضًا لا بد أن يكون رواه عنه عشرة، وهكذا.

فهذا القول قد قيل لكنه قول يعني مردود حتى وإن كان قال به بعضهم؛ لأن -أيها الإخوة- لو نظرت إلى كلامهم وبخاصة أهل الأصول في مبحث المتواتر ترون العجب العجاب يعني من الاختلاف والاضطراب في هذا.

فمثل هذا القول يعني يرد على صاحبه، ويبقى الأصل أن الالتفات إلى كل طريق من هذه الطرق فما دام أن الحديث ورد بطريق، ثم طريق أخرى، ثم طرق أخرى وهكذا بمجموعها تؤدي إلى ما أشرنا إليه من إحالة العادة تواطؤهم على الكذب وتفيد العلم إلى غير ذلك من الشروط فكفى هذا في إثبات التواتر.

ننتقل بعد هذا إلى القسم الثاني. أو الإشارة إلى رد الحافظ ابن حجر على من ادعى إحالة وجود الحديث المتواتر، فهناك من نظر في الشروط التي اشترطوها في الحديث المتواتر وقال: إنه بهذه الشروط لا يوجد حديث متواتر إطلاقًا فيعني رد من رد ومن جملتهم الحافظ ابن حجر بأن وجود الحديث المتواتر كثير، ومن أمثلة ذلك حديث: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»(9)

فهذا الحديث روي عن عدد كثير من الصحابة من جملتهم العشرة المبشرين بالجنة، وأوصلها بعضهم كابن الجوزي في مقدمة كتابه "الموضوعات" إلى حوالي ثمان وتسعين طريقة، وبعضهم زادها حتى أوصلها إلى قريب يمكن المائتين؛ لكن ليس كل طريق من هذه الطرق تعتبر صحيحة بل الذي صح، أو جاء في عداد المقبول من الصحيح والحسن حوالي ثلاثة وثلاثين طريقة، والبقية فيها أحاديث ضعيفة، وفيها أحاديث ساقطة وهالكة.

فالمهم أن هذا الحديث يعني تنطبق عليه شروط التواتر التي ذكروها، هل هذا الحديث فقط؟ لا. بل هناك عدة أحاديث أيضًا تؤدي، أو يمكن أن يطلق عليها وصف التواتر مثل أحاديث الحوض، ومثل أحاديث الشفاعة، ومثل أحاديث رفع اليدين في الصلاة وإلى غير ذلك من الأحاديث التي بعضهم أوصلها إلى مائة طريق، مائة حديث بل بعضهم زادها إلى حوالي ثلاثمائة، لكن قد ينازع في هذه الأحاديث على كثرتها يعني بعضهم قد لا يرى أن هذه الأحاديث تصل إلى درجة التواتر.


(1) أبو داود : الأدب (4842).
(2) سورة فصلت: 35
(3) سورة يوسف: 108
(4) سورة الأعراف: 33
(5) البخاري : بدء الوحي (1) , ومسلم : الإمارة (1907) , والترمذي : فضائل الجهاد (1647) , والنسائي : الطهارة (75) , وأبو داود : الطلاق (2201) , وابن ماجه : الزهد (4227) , وأحمد (1/25).
(6) سورة الأعراف: 160
(7) سورة الأعراف: 155
(8)
(9) البخاري : الجنائز (1291) , ومسلم : مقدمة (4) , وأحمد (4/252).
(10) البخاري : العلم (110) , ومسلم : مقدمة (3) , وابن ماجه : المقدمة (34) , وأحمد (2/321).
(11) مسلم : الجهاد والسير (1763) , والترمذي : تفسير القرآن (3081) , وأحمد (1/30).
(12) البخاري : الجمعة (1013) , ومسلم : صلاة الاستسقاء (897) , والنسائي : الاستسقاء (1518) , وأبو داود : الصلاة (1174) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1180) , وأحمد (3/194).


 مواد ذات صلة: