شرح الفتوى الحموية
مقدمة الشارح
مقدمة الشارح

الفتوى الحموية

مقدمة الشارح

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد:

معاشر الأخوة: لقاؤنا في هذه الليالي سيتجدد مع متن من متون العقيدة، وجرت العادة في بداية مثل هذه المتون هناك وقفات عامة:

الوقفة الأولى: مع مؤلف هذا المتن، ولن أقف عنده كثيرا، فهو علم -كما يقال- على رأسه نار، وشهرته في نطاق البشر، أشهر من أن يعرف، فهو الإمام شيخ الإسلام، تقي الدين علم الأعلام، رافع لواء السنة، قامع أهل البدعة، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي -رحمه الله-.

ولد سنة إحدى وستين وستمائة في مدينة حران في بلاد العراق، وهاجر به والده سنة ست وخمسين وستمائة بعد هجوم التتار على بغداد، هاجر به إلى دمشق، ونشأ وترعرع وعاش في بلاد الشام، إلى أن توفي -رحمة الله عليه- سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.

هذا الإمام -معاشر الأخوة- ابتلي بطائفتين، ابتلي بصنفين من الناس، عارضوه وناصبوه العداء:

الصنف الأول: وهؤلاء عادوه من منطلق بدعي، وهؤلاء هم أهل الأهواء والبدع الذين جردوا تجاهه سيف العداوة، ووقفوا في وجهه بكل ما أوتوا من قوة، وآذوه بشتى الوسائل، حيا وميتا -رحمه الله-، ولعل إحدى المعارك التي جرت بينه وبينهم، ابتدأت من تأليف هذا المتن الذي بين أيدينا، وهؤلاء حاربوه، لأنه خالفهم في أصولهم وبين ضلالهم وانحرافهم، وقضى حياته جهادا بلسانه وقلمه تجاه هذا الصنف.

أما الصنف الآخر: وهؤلاء الذين لمسنا وجودهم في وقتنا الحاضر، فهؤلاء -وللأسف- ممن ينتسبون إلى المعتقد الصحيح، ولكنهم كما قيل: ببغاوات، يقولون ما لا يفهمون، وينطقون بما لا يعلمون، ناصبوا شيخ الإسلام العداوة بمبدأ فاسد، وذلك أنهم رأوا بعض من ينتسب إلى هذا الإمام، ويأخذ بأقواله، وأخطأ في مفهومه لقول شيخ الإسلام، فحملوا الإمام تبعة هذا الخطأ، وهذا مبدأ فاسد عقلا وشرعا.

ويكفي في فساد هذا المبدأ، أنه يلزم على ذلك أن يخطأ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن من الناس من فهم بعض نصوص النبي -صلى الله عليه وسلم- فهما خاطئا، وطبقها تطبيقا خاطئا، بل يلزم من ذلك تخطئة كتاب الله -عز وجل-، كلام الله -عز وجل-، وذلك أن من الناس من فهم كلام الله على غير مراده، فلا يحمل هذا الشيخ -هذا الإمام- تبعة من فهم كلامه على غير مراده، فهو بريء من هذا براءة الذئب من دم يوسف.

أما اسم المتن الذي بين أيدينا، فاختلفت أسماء هذا المتن، وجاءنا ووصل إلينا بعدة أسماء: فسمي بالفتوى الحموية الكبرى، وسمي بالمسألة الحموية، وسمي الحموية، وسمي الحموية الكبرى، والاختلاف في أسماء كتب شيخ الإسلام ورسائله، خاصة المتعلق بجانب الاعتقاد، هذا يكاد يكون منهجا عاما، قلما أن تجد له كتابا في باب العقائد إلا وله عدة أسماء، ما السبب في ذلك؟

نعم، ما السبب؟ درء تعارض العقل والنقل وصلنا بعدة أسماء، نقض التأسيس، منهاج السنة، النبوات. ما السبب في ذلك؟ يعني تجد مثلا ابن عبد الهادي يذكر له اسما، ابن القيم يذكر له اسما مخالفا، ابن رجب يذكر له اسما ثالثا، فما السبب في ذلك؟ أحد الإخوان قال: نساه، نعم. أخونا يقول: إن الشيخ لم يسم كتبه، ما السبب؟ لا... أحسنت، ما كتبه شيخ الإسلام في باب الاعتقاد لم يضع له هو أسماء وعناوين، السبب في ذلك ذكره وأشار إليه في مناظرة الواسطية، قال: إنني لم أكتب في هذا الباب ابتداء ولا حرفا واحدا، وكل ما كتبته في هذا الباب -أي باب العقائد- فما هو إلا إجابة لسائل، أو رد على مبطل، وذلك يقول: إن باب العقائد أحكمه السلف -رحمهم الله-، يقول: باب العقائد كتب فيه السلف وشفوا وكفوا، وكل ما كتبته إما إجابة لسائل سألني، وإما رد على مبطل، ولهذا كان لا يضع عناوين، فيجتهد تلامذته ومن أتى بعده في وضع عنوان لهذه الرسالة أو هذا الكتاب، ولكن الذي استقر عليه اسم هذه الرسالة التي بين أيدينا، واشتهرت بذلك باسم "الفتوى الحموية الكبرى".

الفتوى: لأنها عبارة عن إجابة لسؤال كما ذكر الشيخ في مطلع الرسالة، وتسميتها بالحموية نسبة إلى أن السؤال -كما ذكره أيضا- ورد إليه من حماه، وهذا ليس بمستغرب على رسائل الشيخ، فكثيرا ما يطلق على بعض رسائله اسم "من سأل عن أصل المسألة" فهناك التدمرية، نسبة إلى السائلين الذين سألوا الشيخ أن يكتب لهم هذه القاعدة وكانوا من أهل تدمر، أيضا والواسطية، لأن أهل واسط طلبوا منه أن يكتب لهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وهكذا الحموية.

الكبرى: تمييزا لها عن الصغرى، وفي الواقع لم أعثر على من ذكر على ماهية الصغرى، سوى ابن عبد الهادي -رحمه الله-، قال -وابن عبد الهادي من تلامذة الشيخ-: "وله الحموية الكبرى، والحموية الصغرى". ما هي هذه الحموية الصغرى؟ لا زالت مجهولة، أشار محمد عبد الرزاق حمزة -رحمه الله-، وتبعه قصي محب الدين الخطيب في تقدمة إحدى طبعات هذه الرسالة، إلى أن الفتوى الحموية الصغرى هي عبارة عن أصل هذه الفتوى، أجاب بها الشيخ وانتشرت بين الناس، ثم أخذها الشيخ وزاد عليها زيادات، وأضاف عليها إضافات، فخرجت للناس باسم الفتوى الحموية الكبرى.

تاريخ تأليف هذه الرسالة: تكاد المصادر تتفق على أن تأليفها كان في أول شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة.

موضوعها: موضوع هذه الرسالة: هي ألفها الشيخ في مسألة الصفات، للرد على جمهور الأشاعرة، ولهذا يحسن أن نعطي نبذة عن مذهب الأشاعرة في باب الصفات، لأن هذه الرسالة تدور في الرد على هذه الطائفة، خاصة في الصفات الخبرية وصفة العلو لله عز وجل.

مذهب الأشاعرة في صفات الله -عز وجل-: المتقدمون منهم يثبتون الصفات التي يسمونها الصفات العقلية، والصفات الخبرية التي جاءت في القرآن: كصفة الوجه، واليدين.

علما بأن الأشاعرة مختلفون في عدد الصفات التي يثبتونها، وأشار الشيخ إليه في آخر هذه الرسالة، فمنهم من يثبت سبع صفات، ومنهم من يثبت ثمان صفات، ومنهم من يزيد إلى أن يثبت خمسة عشر صفة، لكن جمهور الأشاعرة والذي استقر عليه هذا المذهب أنهم يثبتون سبع صفات، وينفون ما عداها، يثبتونها بالجملة، وأقول بالجملة، لأن من الصفات التي يثبتونها يثبتونها على خلاف منهج أهل السنة، كصفة الكلام، هم يثبتون في الجملة صفة الكلام، لكن حقيقة هذا الإثبات يخالف إثبات أهل السنة، وهذه الصفات السبع ما هي؟

الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. جمهور الأشاعرة يثبتون هذه السبع صفات، وينفون ما عداها، يطلقون على هذه الصفات أيش؟ الصفات المعنوية أو صفات العقلية، يزعمون أن العقل أثبتها إضافة للسمع، وينفون ما عداها لزعمهم أن العقل لم يثبتها، فهم شاركوا الجهمية في جانب، وخالفوهم في جانب، وشاركوا المعتزلة في جانب، وخالفوهم في جانب، شاركوا المعتزلة والجهمية في نفي ما عدا هذه الصفات السبع، وهؤلاء هم رءوس أهل التعطيل، ما عدا هذه الصفات السبع، الجميع يتفق على نفيها.

خالفوا الجهمية في أيش؟ في إثبات الأسماء وإثبات هذه السبع صفات، وافقوا المعتزلة في أيش؟ في نفي ما عدا الصفات السبع، وإثبات الأسماء، المعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة يثبتون الأسماء، الأشاعرة ينفون ما عدا الصفات السبع، والمعتزلة ينفون جميع الصفات، وخالفوا المعتزلة في أيش؟ في إثبات هذه الصفات السبع، هذا مذهب الأشاعرة على وجه العموم، والذين توجه الرد عليهم في هذه الرسالة.

الشيخ -رحمه الله- ألفها -كما ذكر ذلك في نقض التأسيس- في جلسة أو في قعدة -كما قال- ما بين الظهر والعصر، وهذا يدل على سعة حفظ هذا الإمام -رحمه الله-، لأنكم سترون أنها مليئة بأيش؟ بالنقول، بل أحيانا يقارن بين النسخ، يقول: وردت في نسخة هذه العبارة، ووردت في نسخة أخرى العبارة الفلانية، وهو آية من آيات الله في هذا الجانب، وقد وصفه تلاميذه والعلماء الذين عاصروه وقرءوا عنه، بوصف ينبئ عن حدة ذكاء هذا الرجل الذي ما هو إلا سبب من الأسباب التي حفظ الله بها عقيدة هذه الأمة.


 مواد ذات صلة: