شرح أخلاق حملة القرآن
ثواب القرآن

قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(1). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(2). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَننَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ولاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا(3). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ(4). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(5). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا(6). وَحَبْلُ اللهِ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(7). وَقَالَ -تَعَالَى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ(8). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا(9).

ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَعَدَ مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى كَلاَمِهِ، فَأَحْسَنَ الأَدَبَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ، بِالاعْتِبَارِ الْجَمِيلِ، وَلُزُومِ الْوَاجِبِ لاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمِلِ بِهِ - أَنْ بَشَّرَهُ اللهُ مِنْهُ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ الثَّوَابِ؛ فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ(10). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ(11)).

قال محمد بن الحسين: (فَكُلُّ كَلاَمِ رَبِّنَا حَسَنٌ لِمَنْ تَلاَهُ، وَلِمَنِ اسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا -وَاللهُ أَعْلَمُ- صِفَةُ قَوْمٍ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَتَبَّعُوا مِنَ الْقُرْآنِ أَحْسَنَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- مِمَّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مَوْلاَهُمْ الْكَرِيمُ، يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ رِضَاهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، سَمِعُوا اللهَ قَالَ: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(12). فَكَانَ حُسْنُ اسْتِمَاعِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّذَكُّرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَسَمِعُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ(13).

وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ عَنِ الْجِنِّ فِي حُسْنِ اسْتِمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِمَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَوَعَظُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ بِأَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ، قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(14). وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾(15)).

قال محمد بن الحسين: (وَقَدْ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ ق: ﴿ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(16). مَا دَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَجَائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَعَظِيمَ شَأْنِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ وَعَظِيمَ شَأْنِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا لأَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(17)... إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾(18).

فَأَخْبَرَ -جَلَّ ذِكْرُهُ- أَنَّ الْمُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا بِقَلْبِهِ مَا يَتْلُو وَمَا يَسْتَمِعُ؛ لِيَنْتَفعَ بِتِلاَوَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَبِالاسْتِمَاعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- حَثَّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(19). وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا(20)).

قال محمد بن الحسين: (هَلْ تَرَوْنَ -رَحِمَكُمُ اللهُ- إِلَى مَوْلاَكُمُ الْكَرِيمِ، كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلاَمَهُ؟! وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلاَمَهُ عَرِفَ الرَّبَّ -عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرِفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرِفَ عَظِيمَ تَفَضُّلُهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعِرَفَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَ مَوْلاَهُ الْكَرِيمُ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَ فِيهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ عِنْدَ تِلاَوَتِهِ لِلْقُرَآنِ، وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً، فَاسْتَغْنَى بِلاَ مَالٍ، وَعَزَّ بِلاَ عَشِيرَةٍ، وَأَنِسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ تِلاَوَةِ السُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا: مَتَى اتَّعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ: مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟! وَإِنَّمَا مُرَادُهُ: مِتَى أَعْقِلُ عَنِ اللهِ الْخِطَابَ؟ مَتَى أَضَّجِرُ؟ مَتَى أَعْتَبِرُ؟ لأَنَّ تِلاَوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لاَ تَكُونُ بِغَفْلَةِ، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ).


وفي المسألة الثالثة: بدأ يذكر المؤلف ثواب تلاوة القرآن، واستشهد بآية سورة فاطر: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(21). وهذه الآية سماها أهل العلم: آية القُرَّاء؛ حيث بَيَّن الله -تعالى- فيها الثواب العظيم المترتب للذين يقرؤون القرآن الكريم، ويداومون على تلاوته، ويحافظون على أوامره، ويطبقونها في حياتهم؛ ولهذا ذكر الله -تعالى- الركن الثاني من أركان الإسلام في الأجر والثواب لأهل القرآن، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾. وهذا يدل على أن الذي يقرأ القرآن ويتلوه، عليه أن يعمل به، فمَن تلاه حقَّ تلاوته، دَلَّه إلى العمل، وإلى كل خير من الأعمال الصالحة، ومن أعظمها وأجلِّها الصلاة.

وأجور أهل القرآن عظيمة وكثيرة ومتعددة، أجملها الله -تعالى- في هذه الآية التي هي آية القراء، وسَمَّى قراءةَ القرآن والمداومةَ عليها التجارةَ النافعةَ، وهي التجارة الرابحة، التي لا يتطرق إليها بوار ولا كساد ولا فساد، فالأجر متحقق، والثواب متحقق من الله -جل وعلا، ووعده حق، وكلامه صدق: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(22).

وبيَّن النبي -عليه والصلاة السلام- تفصيلاً الأجر المترتب على التلاوة بيانًا دقيقًا واضحًا في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عند الترمذي، قال -عليه الصلاة والسلام: « مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ فِيهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ: آلم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ»(23).

فإذا كان قارئ القرآن يأجر على تلاوته بالحرف الواحد، وأنه إذا قرأ هذا القرآن حصل على أجور متعددة ومضاعفة من الله -جل وعلا، وإذا كان العلماء قد عَدُّوا آيات القرآن الكريم، وأنها تربو على ستة آلاف، فكيف بالحروف؟!

ومن ثواب هذا القرآن الكريم -أيضًا- أنه يهدي قُرَّاءَه إلى الحق: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ(24). والمسلم يدعو ربه وجوبًا سبعة عشر مرة في كل يوم أن يجعله من أهل الهداية، في قوله -تعالى- في سورة الفاتحة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(25). فضلاً عما يقوله في صلوات النوافل وغيرها، فهو يطلب من ربه أن يثبته على طريق المستقيمين الذين أنعم الله -تعالى- عليهم، فهو كتاب هداية.

من الثواب المترتب عليه أنه يهدي صاحبه إلى طريق الحق، ويعصمه من الفتن، ومن الابتلاءات، ومن الزيغ، ومن الضلال، ومن الفساد، ومن الشهوات، ومن الشبهات.

فإذا تلا هذا القرآن حصل له هذا الخير العظيم والثواب الجزيل، وحصل له -أيضًا- الشفاء الحسي والمعنوي الذي يطلبه في حياته، سواء ما يتعلق بالأمراض الروحية أو الأمراض البدنية، فإنه في هذا القرآن الكريم؛ كما قال -سبحانه وتعالى- في الآية التي ذكرها المؤلف: ﴿ وَننَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ(26). وشفاء هنا نكرة؛ فتَعُمّ كل شفاء، وليست معرفة، وهذا من الثواب لقارئ القرآن الكريم.

فإذا تلا المسلم القرآن بنية خالصة لله، وابتغاء الأجر والثواب من الله -تعالى؛ فسوف تشمله إن -شاء الله تعالى- هذه الأجور العظيمة، التي جاءت في هذه الآيات، ومنها: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ(27). اعتصموا بكتاب ربهم الذي جاءهم من عند الله -تعالى، كما قال -سبحانه: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا(28).

ولهذا نعلم أن القرآنَ الكريم والاعتصامَ به طريقُ الاجتماع والائتلاف، وطريق النصرة والتمكين في هذه الدنيا، وقد فَسَّر العلماء قول الله: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾. أن المراد بحبل الله: القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: الجماعة، وهذه الأمور كائنة بأهل القرآن؛ الذين تلووا القرآن حق تلاوته، وإذا أقبلوا عليه، وعملوا بما فيه تحصل لهم هذه الأجور العظيمة، والحفظ الكبير من الفتن التي يقع فيها كثير من الناس المعرضين عن هدي القرآن الكريم؛ ولهذا بَيَّن الله -تعالى- في الآية التي ذكرها المؤلف في سورة الزمر أن أهل الإيمان الذين تعلقت قلوبهم بربهم -جل وعلا- هم الذين يتأثرون بهذا القرآن الكريم، وتقشعر جلودهم وأبدانهم، قال الله -تعالى: ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ(29). أي: إلى هذا القرآن العظيم.

ثم جاءت المسألة التي بعدها، وهي مسألة الاستماع للقرآن الكريم، التي ذكر فيها المؤلف أن الله -تعالى- رَغَّب عباده في الاستماع إلى هذا القرآن الكريم، والاستماع إلى القرآن الكريم هو عمل بما أمر الله -تعالى- به، فضلاً عن تلاوته، فالذي يستمع إلى القرآن الكريم يحصل له الأجر، بخلاف الأجر الذي يقرأ فيه القرآن الكريم، وبهذا يمكن أن نجمل أن الاستماع إلى القرآن الكريم فيه بشارتان:

البشارة الأولى: وتكون في الدنيا، وهي حصول الرحمة لسامع القرآن؛ قال الله -تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(30). فهذه بشارة من الله -تعالى، وهذه الرحمة إذا حصلت لقارئ القرآن بهذا المسلم فقد حصل له كل خير؛ ولهذا قال -تعالى- في آية أخرى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(31).

فإذا رحم الله -تعالى- عبدَه فقد قربه منه؛ لأن الرحمة تدعو إلى فعل الخير، وأن يرحم الإنسان نفسه أولاً، ويبعدها عن المعاصي والذنوب والسيئات، ويقربها إلى الطاعات والحسنات، ولا يسمح لها أن تقع فيما يخالف أمر الله، ويرحم نفسه بأن تكون وَقَّافَة عند حدود الله، ثم يرحم غيره من عباد الله، وينشر هذه الرحمة التي حصلت له من الله -تعالى- إلى الناس بالتواصل، وفعل الخير، وصلة الأرحام، وحسن الكلام، والتسبيح والتهليل، والرحمة بالفقراء والمساكين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهذه الرحمة تجمع الإحسان، فإذا أحسن الإنسان دلَّ على ذلك على الرحمة، فقد قال الله -تعالى- في سورة الأعراف: ﴿ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(32).

فالذي يفعل الإحسان قريب من الله -تعالى، ﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾. فيرحم نفسه ويرحم غيره، ويحسن في عمله، ويحسن في تعامله، فيكون بذلك قريب من الله -تعالى، فإذا حقق الإحسان الذي هو أعلى مراتب الدين، وإذا حافظ على الصلاة وشعائر الدين، دلَّ على ذلك على الرحمة في قلبه، وأنه قريب من الله -تعالى، وبهذا يدلك على القرب من الله هذه الصلاة الذي يحافظ عليها، فإنه قريب من الله، قال الله -تعالى- لنبيه -عليه الصلاة والسلام: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ(33). فإذا أكثرت السجود اقتربت من الله -تعالى، وهذا هو ثمرة الرحمة التي بشر الله -تعالى- بها عباده المؤمنين.

ومن البشارة في الدنيا: حصول الهداية؛ ولهذا بيَّن الله -تعالى- في سورة الزمر -كما ذكر المؤلف- قال: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾، فثمرة ذلك: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ(34)، وتفسير المصنف تفسير لطيف حينما فسر قوله -تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾. أي: يتبعون أحسن ما يقربهم إلى الله -تعالى؛ لأن القرآن كله كلام الله -تعالى، وهو حسن، كما قال -سبحانه: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ(35). فالقرآن كله حسن، فتفسير المؤلف بديع ولطيف، حينما قال: يتبعون أحسن ما يقربهم إلى الله -تعالى- من الأعمال الصالحة، فهذه بشارة وهي الهداية.

ولنعلم أن الذي ينال هذه البشارة في حياته لا يتوقف عليها، بل يطلب المزيد والزيادة في هذه الهداية، فإذا حافظ على هذه الهداية في الصلاة والصيام والزكاة والحج وتلاوة القرآن والذكر، وكل عمل خير، رغبت نفسه في الزيادة، ولم يقف عند هذا الحد، وهذا تجده ظاهرًا عند عباد الله الصالحين، الذين يتسابقون في فعل الخيرات، ولا يقفون عند حد، وبهذا إذا حصلت لك الهداية فسوف تدفعك إلى الزيادة، كما قال الله -تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ(36). وقال -تعالى: ﴿وَيزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى(37). يعني: أنهم يزدادون هداية على هداية، فإذا قرأ في الأسبوع -مثلاً- ثلاثة أجزاء، طلب الزيادة بأنه سيقرأ سبعة أو ثمانية أجزاء، إلى أن يختم القرآن في سبعة أيام، أو في ثلاثة أيام، وإذا أقبل على حفظ القرآن، ورغبت نفسه واستنار قلبه بهذا القرآن حفظ جزءًا، ثم تشتاق نفسه إلى حفظ أكثر، وهكذا إلى أن يُتِمَّ القرآن الكريم.

فالعبادة تدعو صاحبها إلى الزيادة، فالحسنة تنادي الحسنة كما أن السيئة -والعياذ بالله- تنادي السيئة، فالسيئة الخبيثة تجر صاحبها إلى سيئة أرفع، ثم إلى سيئة أعلى، ثم إلى سيئة أعظم، إلى أن يألف هذه السيئة، والحسنات كذلك.

فالإنسان يتبع الحسنة الحسنة دائمًا؛ لأن الإنسان لا يخلو من سيئات في حياته، لكن إذا كانت حسناته كثيرة غلبت على السيئات، كما قال الله -تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ(38). فاستماع القرآن الكريم يزيد في الهداية بوعد الله -جل وعلا، أيضًا قراءة القرآن الكريم يحصل بها اطمئنان القلب، وهذا من البُشْرى، قال الله -تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(39).

فإذا اطمئن قلبك اطمأننت في هذه الدنيا، ولو كنت فقيرًا أو مريضًا أو مبتلًى، فاطمئنان القلب سعادة عظيمة للإنسان، فإذا كان فقيرًا لا يدخل إليه قلق ولا اضطراب ولا خوف، وإذا كان مريضًا يكثر من تحميد الله -تعالى- وشكره على هذه النعمة، وعلى هذا الابتلاء، فلا يخاف ولا يقلق من الموت، بل اطمئن قلبه، فصارت لديه سعادة وهدوء بال، لا يشعر بها إلا مَن عايشها في حياته، ومن تأمل القرآن الكريم، وَجَد وجوهًا كثيرة لهذه البشرى في هذه الحياة الدنيا لمن يستمع القرآن الكريم.

ولا أدَلَّ على ذلك مما ذكره الله -تعالى، وساقه المؤلف من الجن المكلفين بعبادة ربهم، أولئك النفر الذين جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يقرأ، واستمعوا إلى تلاوته، وأثر فيهم ذلك القرآن الكريم، فانطلقوا إلى قومهم يبلغون هذا القرآن الكريم، وشهدوا بأنه مصدق لما بين يديه.

إذن حينما سمعوا القرآن ازدادوا، ولم يكتفوا بالسماع فحسب، بل ضموا إلى ذلك أن بَلَّغوا قومهم، ﴿ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ(40) ، فرجعوا إلى قومهم وبلغوهم ما سمعوه، وهذه هداية، وهي أن الله -تعالى- يوفق العبد ويهديه إلى أن يبلغ ما تحمله من علم وأمانة، ولا يكتفي به لنفسه، وهذا من حب الخير وفعله بإخوانك المسلمين.

البشارة الثانية: وتكون في الآخرة، وتقدمت البشارة الأولى وهي في الدنيا، ولها وجوه متعددة ذكرتُ بعضها، وفي الآخرة أيضًا لها وجوه متعددة منها: أن صاحب القرآن الذي قرأ القرآن واستمع إليه، يخاطب يوم القيامة، ويقال له: اقرأ وارقِ ورَتِّل كما كنت ترتل في الدني(41)، وأنه يوم القيامة في ذلك اليوم العظيم، تأتيه سورة البقرة وسورة آل عمران -وهما الزهراوان- كما أخبر بذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- تأتيان في ذلك اليوم العظيم كالغمامتين أو كالغيايتين تُحَاجَّان عن صاحبهم(42)، وقد جاء في بعض الأحاديث أن القرآن يأتي يوم القيامة بلسان وعينين يحاجُّ عن صاحبه، وهذا من البشارة له في الآخرة.

ومن البشارة أيضًا: أنه -أي القرآن- يكون شفيعًا له يوم القيامة، كما جاء في الحديث: «الْقُرْآنُ وَالصِّيَامُ يَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا، فَالْقُرْآنُ يَقُولُ: حَرَمْتُهُ النَّوْمَ فِي اللَّيْلِ. وَالصِّيَامُ يَقُولُ: أَظْمَأْتُهُ فِي النَّهَارِ وَجَوَّعْتُهُ فِيهِ، فَيَشْفَعَانِ لِصَاحِبِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(43). وهذه من البشارة العظيمة لأهل القرآن: التالين له، والمستمعين.

ثم تأتي المسألة الأخرى، وهي: التمثيل الذي ذكره المؤلف، وقد اكتفى بتمثيل سورة واحدة من سور القرآن الكريم، وهي سورة ق؛ وبَيَّن المؤلف بعضًا من مقاصدها وموضوعاتها التي جاءت فيها، والوجوه -والله أعلم- أن هذه السورة سورة عظيمة، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحافظ عليها ويقرأها، فقد قرأها في صلاة الجمعة، وقرأها في العيدين، وقرأها في صلاة الفجر؛ لما فيها من المواعظ والعبر والقصص، وفيها: إشادة بالقرآن الكريم وبيان فضله، وفيها: ذكر البعث والنشور، وإقامة الحجة على المشركين الذين أنكروه، وفيها: ذكر لبعض الأمم وقصصهم، وفيها: مِنَن من الله -تعالى- على عباده، مثل: هذه الأرض وهذه السماء، فالسماء تمطر، والأرض تنبت، وفيها: تذكير بالخلق الأول، ونهاية الناس في هذه الحياة الدنيا وهو الموت، وذكر الله -تعالى- فيها المحاضرة بين القرينين، وذكر الله -تعالى- فيها أيضًا: الجنة والنار، وما أعده الله -تعالى- لأهل الجنة، وما أعده الله لأهل النار، وخلق السماوات والأرض، ثم ختمها بما بدأها أيضًا، قال: ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ(44). وقال في آخرها: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ(45).

فبدأها بالقرآن، وختمها بالقرآن الكريم، فتأمل في مثل هذه السورة، وما فيها من المواعظ، وما فيها من العبر، وما فيها من المناسبات والدلالات العظيمة، فعلى الإنسان أن يقرأها، ويقرأ ما جاء فيها من التفسير؛ حتى يقف على المعاني، ويتدبر ذلك.

من المسائل أيضًا: الحث على تدبر هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله، وبَيَّن فضله وشرفه، وبَيَّن مكانته وقدره، وأمرنا بأن نتدبره، والتدبر هو التفكر والتأمل والتذكر لما في هذا القرآن من العبر والمواعظ والأوامر والنواهي والقصص، وما جرى للأقوام السابقة، وما أعده الله لأهل الإيمان، وما توعد به أهل الكفر.

فالذي يقرأ القرآن عليه أن يقرن ذلك بالتدبر كما قال الله -تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ(46)، وقال -تعالى- منكرًا على أولئك القوم على المنافقين الذين أعرضوا عن القرآن: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ(47)، وكذلك أنكر عليهم استفهام إنكار فقال في سورة محمد: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(48)، وهاتان الآيتان جاءتا في سياق ذكر أحوال المنافقين الذين يستمعون ولا ينتفعون، فكانوا يجلسون مجلس النبي -عليه الصلاة والسلام- ويستمعون القرآن والمواعظ، لكنهم معرضون بقلوبهم، فإذا خرجوا كما أخبر الله: ﴿ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا(49)، ماذا قال حين في كلامه؟! ألم تعلموا ما تكلم به وهو كلام عربي تعرفونه فكيف لا تفهمونه؟! إذن هم أعرضوا عن القرآن وأعرضوا عن أمر الله -تعالى-؛ ولهذا فإن التدبر الوارد في قوله -تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ(50)، يحتمل أمرين:

الأمر الأول: أن القارئ عليه أن يتدبر المعاني والدلالات والمقاصد التي أرشد الله -تعالى- عباده إليها، وهي كثيرة، فكل هذا الدين قائم عليها؛ كالصلاة والزكاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة التوحيد ونبذ الشرك ونبذ الفسق والنفاق، هذه أوامر فلا يليق بقارئ القرآن أن يخالفها، فهو يقرأ قوله -تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(51)، ثم هو يكذب في حديثه، فهذا لم يتدبر القرآن، فمهما كانت الأحوال فإنه لا يكذب في الحديث بل عليه أن يصدق؛ لأن الصدق صفة أهل الإيمان؛ ولهذا ذكر الله -تعالى- في هذه الآية الإيمان وصفة أهل التقوى، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾.

فالصادق في قوله اتصف بصفة التقوى والإيمان، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن الكريم، لكن هذا نوع من أنواع تدبر المعاني والدلالات والمقاصد لكل ما يقرأه الإنسان، لا أن يقرأ حروفًا وكلمات فحسب، وإنما يقرأ كلام الرب -جل وعلا- ﴿ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(52).

الأمر الثاني: وهو أن يتأمل القارئ دلالة بلاغة القرآن الكريم في اللفظ، وأنه من عند الله، وأن الذي جاء به صادق فيما قال، إذن نتأمل بلاغة هذا القرآن الكريم، وأنه جاء على أفصح اللغات، فلا يدانيه كلام ولا تدانيه بلاغة ولا فصاحة ولا بيان؛ ولهذا فالله -جل وعلا- تحدى العرب وهم اللد البلغاء والألسن الفصحاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال -تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(53)، أي: معينًا في البيان والبلاغة وتنميق العبارات، وهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله.

ولهذا إذا وقفت على آيات جامعة مانعة لها دلالة عظيمة كقوله -تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة(54)، إذا وقفت على هذه الآية تجدها قد جمعت معاني عظيمة ودلالات كبيرة، والعرب كانوا يقولون: القتل أنفى للقتل، والآية جاءت بشيء أوسع وأعم وأشمل من هذا، حياة للناس جميعًا، حياة لهم في أنفسهم وفي دينهم وفي أموالهم وفي اجتماعهم وفي سياستهم وفي أمنهم وفي أوطانهم، في كل شأن من شؤون الحياة؛ ولهذا فالله -سبحانه وتعالى- ذكر الحياة فقال: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، وأيضًا الحياة نكرة وليست معرفة، لو كانت معرفة لكانت محصورة على جزء من الحياة، لكن اللفظ جاء نكرة فتذهب فيه النفس كل مذهب من أنواع الحياة التي تخطر ببال الإنسان، فألفاظه قليلة وعباراته معانيها عظيمة.

هذا نوع من التدبر؛ ولهذا هنا فائدة في التدبر: أن التدبر للقرآن الكريم يورث العلم، كيف يكون ذلك؟ لا يحصل لك علم بالقرآن الكريم وما فيه من الهداية والدلالات إلا بالتدبر والتأمل والتفكر، فإذا تدبرت هذه الآيات ازددت علمًا، ومعنى التدبر أنك إذا قرأت الآية فاذهب واقرأ تفسيرها في كتب التفسير، وراجع ما قاله أهل العلم من الصحابة والتابعين أولاً من تفسير القرآن، فكل آية لها تفسير تأخذه من القرآن أو من السنة أو من أقوال الصحابة أو من أقوال التابعين أو من الاستنباطات التي يستنبطها أهل العلم في كتبهم ومؤلفاتهم في التفسير، فيزول عنك الإشكال وتزداد بذلك العلم؛ ولهذا قالوا: التدبر يورث العلم، ذكر هذا ابن القيم(55) -رحمه الله تعالى.

كما أن اتباع القرآن يورث العمل، فنحن بين تدبر وبين اتباع، قال الله -تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ(56)، وقال -تعالى- في آية أخرى عن الاتباع: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم(57)، وقال: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(58)، فرتب على الاتباع حصول التقوى فقال: ﴿ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

فاتباع القرآن الكريم يدفعك إلى العمل به، هذا هو الاتباع الحقيقي، فالاتباع ليس أقوالاً جوفاء فحسب، وإنما هو أعمال، فإذا حرم الله -تعالى- عليك الربا، فاتبع هذا الأمر، ولا تحدثك نفسك أو تميل بك شهوتك في الدنيا وحب المال إلى أن تقترف هذا المحرم.

فالربا حرمه الله -تعالى- بكل صوره فقال: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا(59)، فمن كانت تنازعه نفسه بين ربا أو غيره فإذا جاءه أمر القرآن ترك الربا، ولا يتردد في ذلك، واتبع أمر الله -تعالى- وسلك المسلك الصحيح، وهذا الأمر وقع فيه في هذا الزمن كثير من الناس؛ ولهذا بيَّن الله -جل وعلا- في آيات الربا دلالات عظيمة لمن تأملها لأن ذلك:

أولاً: مرتبط بالإيمان بالله، فمن ارتكب شيئًا من المعاملات الربوية فقد خالف مقتضى الإيمان، ورد هذا في آيتين من القرآن الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا(60)، فصدرها بالإيمان، وقال -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا(61)

ثانيًا: أنه -تعالى- ذكرنا باليوم الآخر في آخر السياق فقال: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ(62)، وأنه سيكون هناك حساب وعقاب ومسائلة على هذا العمل وعلى هذا الفعل، فالإنسان يتبع القرآن، فالاتباع يورث العمل، والتدبر يورث العلم، فإذا أردت أن تعلم ما في هذا القرآن من الدلالات والمعاني والدقائق ولطائف التفسير عليك بالتدبر وقراءة التفسير حول هذه الآيات التي تقرأها.

لذا؛ يقول المؤلف: (منْ تَدبرَ كلامَه -أي كلام ربه- عَرفَ ربَّه -عزّ وجلّ)، أي: حق المعرفة، فعظم الله في نفسه؛ لأنه يقرأ كلام ربه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، وعظَّم كلامه -جل وعلا- وعظَّم أمره ونهيه، لأنه إذا تدبر القرآن واتبعه وعمل بما فيه أعزه الله ولو كان ذليلاً، وأغناه ولو كان فقيرًا، ورفعه ولو كان حقيرًا، هكذا يكون أهل القرآن دائمًا، فهم مرفوعون عند الله في الدنيا وفي الآخرة، قال الله -تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ(63).

قال أهل العلم: إن المراد بهم أهل القرآن، كما ذكر ذلك أهل التفسير، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال في صحيح مسلم في قصة عمر بن الخطاب: « إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»(64)، إذا كان ثمة تدبر واتباع للقرآن الكريم فثم السعادة حينئذ والحياة الطيبة.


(1) فاطر: 29- 30.

(2) الإسراء: 9- 10.

(3) الإسراء: 82.

(4) يونس: 57.

(5) النساء: 174- 175.

(6) آل عمران: 103.

(7) الزمر: 23.

(8) ص: 29.

(9) طه: 113.

(10) الزمر: 17- 18.

(11) الزمر: 54- 55.

(12) الأعراف: 204.

(13) ق: 45.

(14) الجن: 1 - 2.

(15) الأحقاف: 29 - 31.

(16) ق: 1.

(17) ق: 35.

(18) ق: 37.

(19) محمد: 24.

(20) النساء: 82.

(21) فاطر: 29 - 30.

(22) الأنعام: 115.

(23) صحيح: أخرجه الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر (2910). قال الترمذي: حسن صحيح غريب. قال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح.

(24) المائدة: 16.

(25) الفاتحة: 6.

(26) الإسراء: 82.

(27) النساء: 175.

(28) آل عمران: 103.

(29) الزمر: 23.

(30) الأعراف: 204.

(31) الأعراف: 156.

(32) الأعراف: 56.

(33) العلق: 19.

(34) الزمر: 18.

(35) يوسف: 3.

(36) محمد: 17.

(37) مريم: 76.

(38) هود: 114.

(39) الرعد: 28.

(40) التوبة: 122

(41) صحيح: أخرجه أحمد في المسند (6799)، أبو داود: كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل في القراءة (1464)، الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من كتاب الله ما له من الأجر (2914)، قال الترمذي: حسن صحيح، من حديث عبد الله بن عمرو، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح.

(42) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) من حديث أبي أمامة الباهلي.

(43) حسن صحيح: أخرجه أحمد في المسند (6626)، الحاكم في المستدرك (1/740) من حديث عبد الله بن عمرو، قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح.

(44) ق: 1.

(45) ق: 45.

(46) ص: 29.

(47) النساء: 82.

(48) محمد: 24.

(49) محمد: 16.

(50) ص: 29.

(51) التوبة: 119.

(52) فصلت: 42.

(53) الإسراء: 88.

(54) البقرة: 179.

(55) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز، شمس الدين أبو عبد الله، الزرعي، ثم الدمشقي. الفقيه الأصولي، المفسر النحوي، العارف.ابن قيم الجوزية. تفقه في المذهب الحنبلي، وبرع وأفتى، ولازم شيخ الإسلام ابن تيميَّة. وكان ذا عبادة وتهجد، وطول صلاة، ولهج بالذكر. له تواليف حسان؛ منها: "زاد المعاد"، و"بدائع الفوائد". ولد سنة إحدى وتسعين وست مئة، وتوفي سنة إحدة وخمسين وسبع مئة. انظر: البداية والنهاية (18/ 523)، والذيل على طبقات الحنابلة (5/ 170 ترجمة 600).

(56) ص: 29.

(57) الأعراف: 3.

(58) الأنعام: 155.

(59) البقرة: 275.

(60) آل عمران: 130.

(61) البقرة: 278.

(62) البقرة: 281.

(63) المجادلة: 11.

(64) أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يؤم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمه، (817) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.


 مواد ذات صلة: