شرح أخلاق حملة القرآن
باب ذكر أخلاق أهل القرآن

قال المؤلف -رحمه الله: (بَابُ ذِكْرِ أَخْلاَقِ أَهْلِ الْقُرْآنِ).

قال محمد بن حسين(1): (يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمُوا كِتَابَهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، وَأَهْلِ اللهِ وَخَاصَّتِهِ، وَمِمَّنْ وَعَدَهُ اللهُ مِنَ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ(2). قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، وَمِمَّا قَالَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ»(3).

وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ(4): سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ(5) يَقُولُ: إِذَا خَتَمَ الْعَبْدُ الْقُرْآنَ قَبَّلَ الْمَلَكُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ(6). فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعًا لِقَلْبِهِ، يُعَمِّرُ بِهِ مَا خَرَبَ مِنْ قَلْبِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِ الْقُرْآنِ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلاَقِهِ الشَّرِيفَةِ، يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ مِمَّنْ لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ).


في هذا الباب يذكر المؤلف أخلاق أهل القرآن، وأن الله -جل وعلا- قد فضلهم على غيرهم من سائر الناس، حيث مَنَّ الله عليهم بتلاوة القرآن، وحفظه ومدارسته، فإذا كانوا كذلك، فإنه ينبغي عليهم أن يتخلقوا بما في هذا القرآن من الأخلاق، والقرآن هو منهج الأخلاق الفاضلة، ومنهج الأخلاق الكاملة، فما من خلق حسن إلا دَلَّ عليه، وما من خلق سيئ إلا حذر منه، وكل هذا جاء في القرآن الكريم.

وتكفي هذه الآية التي جاء الفضل فيها، في سورة البقرة: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ(7). والتفسير هذا يروى عن مجاهد(8)، قال: يعملون به حق عمله، كما تقدم، ثم استشهد المؤلف بالحديث المخرج في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ». وفي رواية: « وَهُوَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ»(9). أَيْ: يشق عليه تلاوته، فقوله: « وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ». الماهر هو القارئ الحاذق الحافظ، المتقن، الضابط لتلاوة آيات القرآن الكريم، ولا تشق عليه القراءة في أية سورة، أو في أية آية.

فيعرف الأحكام المتعلقة بألفاظ الكلمات من الحسن والجودة والضبط والإتقان؛ ولهذا يقولون -إذا كان القارئ جيدًا: القارئ متقن، أو محرر. كما ذكرابن الجزري(10) في كتابه: (غاية النهاية)، حيث ترجم فيه لنحو من خمسة آلاف عَلَم من أعلام القرآن، على مر العصور إلى عهده، وقد تُوفِّي سنة اثنين وثلاثين وثمانمئة من الهجرة.

وكذلك الذهبي(11) أيضًا أَلَّف في طبقات القراء، وذكر فيها جملة وعددًا كبيرًا من القراء، يصفون القارئ الحاذق، هو الضابط المتقن المحرر، والذي يقيم الحروف إقامة عربية صحيحة، ويخرج كل حرف من مخرجه، فهذا هو معنى الماهر، سواء أكان ذلك في الوقف أم الابتداء، أو ما يتعلق بأنواع القراءة من الأحكام التجويدية.

فالماهر بالتلاوة المتقن الحافظ الضابط لها، جاء في الحديث الثوابُ الذي يناله، والمنزلة التي يختص بها، والرفعة التي ينالها، وهي أنه يكون مع الكرام السفرة، في رواية: « الْبَرَرَةِ».

والكرام السفرة هم الملائكة، والسفرة: هم الرسل الذين يأتون من عند الله -تعالى- إلى الأنبياء بالرسالات، فالملائكة -عليهم السلام- هم رسل الله إلى أنبيائه؛ ولأنهم يسافرون بين الله وبين الأنبياء، ويحملهم الله -تعالى- الأمانة، ويوحي بها إلى النبي.

وقيل: إنهم سموا: سفرة؛ لأنهم يسافرون إلى الناس برسالات الله، ولأنهم يتنزلون بالوحي من عند الله، فهم سفراء الله إلى الأنبياء؛ ليبلغوا عن الله رسالاته.

والمعية التي في هذا الحديث: « مَعَ الْكِرَامِ السَّفَرَةِ». يقول أهل العلم: إنها تحتمل أن يكون لقارئ القرآن منازل يكون فيها رفيقًا مع الملائكة، الذين هم السفرة، لاتصافه بصفاتهم؛ لأنهم هم الذين حملوا كتاب الله، وحملوا هذا القرآن وبلغوه، فحمله جبريل، وبلغه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام، فقارئ القرآن يحمل هذا القرآن في جوفه، ويحفظه، ففيه شبه بهؤلاء السفرة وهم الملائكة، فهو يعمل بعملهم، ويسلك مسلكهم، ويتصف بصفاتهم، ومَن اتصف بصفات قوم فهو معهم.

والمرء يحشر مع مَن أحب؛ ولهذا وصف الحديثُ القراءَ المهرةَ الحافظون المتقنون، أنهم مع السفرة الكرام البررة، وسموا بررة -كما في بعض الروايات- لأنهم على طاعة؛ لأن البر هو الطاعة لله -تعالى.

وقد بَيَّن الحديث فضلَ الماهر بالتلاوة، وما له من الأجر، وما للقارئ الذي تصعب عليه القراءة ويتعتع فيها، وما له من الأجر أيضًا، فقال: «لَهُ أَجْرَانِ». أما الأول: فلم يذكر شيئًا، إنما قال: «مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ». وليس معنى هذا أن الذي يقرأ القرآن وهو شاق عليه، أكثر أجرًا من الماهر بالتلاوة، فإن الماهر بالتلاوة له أجور متعددة وكثيرة، فبلغت هذه الأجور أنه هو والملائكة في معية واحدة، الذين ذكرهم الله -تعالى- في سورة عبس: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ(12). وهم الملائكة؛ لأن الحافظ المتقن الضابط الماهر، لا يمكن أن يكون أقل ثوابًا ممن هو أدنى منه وأقل، ولا يمكن أن يكون مَن هو أدنى منه أكثر منه ثوابًا، بل هو أكثر.

فلا يفهم من هذا أن الذي يقرأ القرآن بإتقان وضبط فله أجر، والمتتعتع له أجران، بل الماهر فاق الأجرين، وزاد على ذلك، فهي أجور كثيرة متعددة، وهذا فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.

ثم ساق أثرًا عن عيسى بن يونس، قال: (وقالَ بشرُ بنُ الحارثِ). وبشر بن الحارث ثقة، تُوفَِّي سنة سبع وعشرين ومئتين، وهو عابد زاهد، وعالم جمع بين الإخلاص والورع والتقوى، يقول: (سمعتُ عيسى بنَ يونسَ). وعيسى بن يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي، المتوفى سنة سبع وثمانين ومئة، وهو ثقة حجة حافظ، وهو حفيد الإمام أبو إسحاق السبيعي(13)، المحدث المشهور، الذي اسمه: عمرو بن عبد الله بن أبو إسحاق السبيعي، وقد تُوفِّي سنة تسع وعشرين ومئة، وهذا حفيده، فهم بيت علم وأهل حديث.

وأبو إسحاق السبيعي قيل: إنه اختلط آخر حياته، ولكن الصواب هو ما حققه بعض طلبة أهل العلم، وهو أنه لم يختلط في آخر حياته.

يقول: (إذَا ختمَ العبدُ القرآنَ، قبَّلَ الملكُ بينَ عينيه). وهذا أيضًا من الفضل العظيم الذي يناله قارئ القرآن، وهذا الأثر موقوف على عيسى بن يونس السبيعي، فإذا كانت هذه الكرامة تنال قارئ القرآن، فالذي ينبغي عليه أن يعمر حياته بهذا القرآن، وأن يخلص لله -تعالى- في تلاوته، وأن يتقرب به إلى الله، وأن يكون متميزًا في حياته عن سائر الناس.

فإذا علم أنه سيكون مع الملائكة، ومع السفرة الكرام البررة، وسينال هذا الفضل العظيم، فينبغي أن يكون له تميز في حياته، وخصوصية في حياته، ليس كسائر الناس، كما سيأتي بيانه من أبي بكر محمد بن الحسين، مما ينبغي على قارئ القرآن.


(1) محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر البغدادي الآجري. الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، صاحب التصانيف الحسان؛ منها: "الشريعة"، و"الأربعين". توفي سنة ستين وثلاث مئة. انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 133 ترجمة 92)، والوافي بالوفيات (2/ 267 ترجمة 847).

(2) البقرة: 121.

(3) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب عبس وتولى كلح وأعرض (4937)، مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر في القرآن والذي يتعتع فيه (798) من حديث عائشة.

(4) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء، الإمام العالم المحدث الزاهد الرباني القدوة، شيخ الإسلام، أبو نصر المروزي، ثم البغدادي، المشهور بالحافي، ابن عم المحدث علي بن خشرم. ولد سنة اثنتين وخمسين ومئة. ارتحل في العلم، فأخذ عن: مالك، وشريك، وحماد بن زيد، وعدة. حدث عنه: أحمد الدورقي، ومحمد بن يوسف الجوهري، ومحمد بن مثنى السمسار، وخلق سواهم. قال ابن حجر في التقريب: ثقة قدوة. مات سنة سبع وعشرين ومئتين. انظر: تهذيب الكمال (4/ 99 ترجمة 682)، وسير أعلام النبلاء (10/ 469 ترجمة 153).

(5) الإمام القدوة، الحافظ، الحجة عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، أبو عمرو، وأبو محمد الهمداني، السبيعي الكوفي، المرابط بثغر الحدث، كان سنة في الغزو وسنة في الحج. وكان واسع العلم، كثير الرحلة، وافر الجلالة. قال ابن حجر في التقريب: ثقة مأمون. مات سنة سبع وثمانين. انظر: تهذيب الكمال (23/ 62 ترجمة 4673)، وسير أعلام النبلاء (8/ 489 ترجمة 130).

(6) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان(2074) من طريق بشر بن الحارث عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة به، قال البيهقي: قال بشر بن موسى قال ليعمر بن عبد العزيز فحدثت به أحمد بن حنبل فقال لعل هذا من هنات سفيان واستحسنه أحمد بن حنبل جدا

(7) البقرة: 121.

(8) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، الإمام، شيخ القراء والمفسرين. روى عن: ابن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه. كان يقول: يقول: "عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أقفه عند كل آية، أسأله: فيم نزلت؟ وكيف كانت؟". وكان من أعلم التابعين بالتفسير. قال ابن حجر في التقريب: ثقة إمام في التفسير. توفي سنة ثلاث ومئة وقد نيف على الثمانين. انظر: تهذيب الكمال (27/ 228 ترجمة 5783)، وسير أعلام النبلاء (4/ 449 ترجمة 175).

(9) سبق تخريجه.

(10)محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، أبو الخير، شمس الدين، العمري الدمشقي ثم الشيرازي الشافعي، الشهير بابن الجزري: شيخ الاقراء في زمانه. من حفاظ الحديث. ولد ونشأ في دمشق، وابتنى فيها مدرسة سماها (دار القرآن) ورحل إلى مصر مرارا، ودخل بلاد الروم، وسافر مع تيمورلنك إلى ما وراء النهر. ثم رحل إلى شيراز فولي قضاءها. ومات فيها سنة 833 هـ.

(11) محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. الإمام، المحدث، مؤرخ الإسلام، صاحب العبارة الرشيقة، والجملة الأنيقة. من شيوخه: ابن دقيق العيد، وابن تيمية. مولده في سنة ثلاث وسبعين وست مئة، ووفاته سنة ثمان وأربعين وسبع مئة. له من مؤلفات حسان جياد؛ منها: "سير أعلام النبلاء"، و"معرفة القراء الكبار". انظر: طبقات الشافعية الكبرى (9/ 100 ترجمة 1306)، وانظر مقدمة الدكتور/ بشار للجزء الأول من كتابه السير.

(12) عبس: 13 - 16.

(13) عمرو بن عبد الله بن عبيد أو على أو ابن أبى شعيرة، الهمدانى، أبو إسحاق السبيعى الكوفى، الحافظ شيخ الكوفة وعالمها ومحدثها. توفي سنة تسع وعشرين ومئة. وقيل قبل ذلك، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة مكثر عابد، اختلط بأخرة. انظر: التهذيب (22/ 102 ترجمة 4400)، وسير أعلام النبلاء (5/ 392 ترجمة 180).

 

 

 

 


 مواد ذات صلة: