شرح رسالة القيرواني
مقدمة الكتاب

(أَمَّا بَعْدُ:

أَعَانَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهِ، وَحِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ.

فَإِنَّكَ سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ، مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، وتَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ؛ مِنْ مُؤَكَّدِهَا وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا، وَشَيْءٍ مِنَ الآدَابِ مِنْهَا، وَجُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَطَرِيقَتِهِ، مَعَ مَا سَهَّلَ سَبِيلَ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاسِخِينَ، وَبَيَانِ الْمُتَفَقِّهِينَ؛ لِمَا رَغِبْتَ فِيهِ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلْوِلْدَانِ، كَمَا تُعَلِّمُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ؛ لِيَسْبِقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ فَهْمِِ دِينِ اللهِ وَشَرَائِعِهِ، مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ، وَتُحْمَدُ لَهُمْ عَاقِبَتُهُ - فَأَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ؛ لِمَا رَجَوْتُهُ لِنَفْسِي -وَلَكَ- مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلَّمَ دِينَ اللهِ أَوْ دَعَا إِلَيْهِ.


هذه مقدمة المؤلف، هي مقدمة للكتاب كله، وقد تضمنت ذكر سبب هذا التأليف، وأنه طلب منه أحد المعلِّمين للقرآن أن يكتب له من فنون العلم الشرعي؛ عقائده، وأعماله، وأخلاقه، وآدابه، وفنون العلم من الأصول والفقه ما يُلقِّنُه ويعلمه للأولاد؛ ليجمع لهم بين تعليم القرآن، وتعليم الأحكام والآداب.

ومعلومٌ أن هذا المطلب على صفة الاختصار، وقد فعل المؤلف، فألف هذا الكتاب المعروف الذي سبقت الإشارة إلى أنه قد صار له شهرة وعُنِيَ به علماء المالكية؛ شرحًا، ونظمًا، ودراسة. فالله يجزي فاعل الخير ومن كان سببا فيه؛ فالكل أهلٌ لثواب الله، والله -سبحانه وتعالى- يجزي كلَّ من سعى في الخير ودعا إليه وكان سببا فيه.

وقد ذكر في هذه المقدمة أنه قد أجاب إلى ما طُلِبَ منه، وفصل ذلك، وضمن هذه الرسالة ما طُلب منه من بيان الواجبات الشرعية والسنن بأنواعها، والآداب، ومن فنون العلم الشرعي كذلك؛ أصوله وفروعه. وقد تضمنت جمل هذه المقدمة معانيَ جميلة، فأريد -كما صنعت بالأمس في جُمَلِ الخطبة- أن نقف مع جمل المقدمة؛ لأن لها دلالات ومعاني تستحق الوقوف عندها، والاستفادة منها، وما ترمي إليه.

(أما بعد). أولاً قال: (أما بعد) هذه الجملة يؤتى بها وتستعمل في أساليب التأليف والخطابة، في التأليف وفي الْخُطبة سواءً كانت الخطب الشرعية المقيدة أو الخطبة غير مقيدة، كما لو أراد من يُلقي درسًا أو يلقي يتحدث عن موضوع؛ فإنه يقدم له ويقول: أما بعد.

وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي بها في خطبه ويقول: « أَمَّا بَعْدُ».

إذن: فاستعمالها في الكلام سُنَّةٌ، استعمالاها في الخطبة أما بعد، يقول: أما بعد، بعدما يثني على الله، فإنه يقول: "أما بعد" وهي جملة يؤتى بها للانتقال من افتتاح الكلام إلى بيان المقصود، وتقرير المقصود.

ويفسرها النحويون يقولون: أما بعد معناها: مهما يُذكر من شيء بعد؛ فهو كذا وكذا، ولهذا يؤتى بعدها بالفاء الجوابية، مهما يذكر من شيء؛ فهو الأمر الفلاني.

(أما بعد) إلا أن المؤلف لم يأت بالفاء، فكان من المناسب أن يقول أما بعد؛ فأعاننا الله وإياك.

(أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه، وحفظ ما أودعنا من شرائعه).

هذه دعوة حسنة، (أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه). الأمانات التي اؤْتُمِنَّا عليها، وربما أن المؤلف يشير إلى أن هذا الْمُعَلِّمَ مستودعٌ؛ أن الأولاد وديعة عنده، قد عُهِدَ إليه بتعليمهم، أو يريد ما هو أعم من ذلك.

(أعاننا الله وإياك) دعاء استعانة، (أعاننا الله).

أعان: فعل ماض، لكنه يؤتى به ويساوي: أسأل الله أن يعينني وإياك، فالدعاء تارة يأتي بفعل الطلب اللهم أعني، أو أستعينك يا الله، أو بصيغة الفعل الماضي.

(أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه، وحفظ ما أودعنا الله من شرائعه): هذا تخصيص بعد تعميم، يعني الإنسان مودع لودائع كثيرة، نعم الله وديعة، ما استرعي عليه من أهل وولد هم وديعة، وما عُهِدَ إليه بحفظه وديعة.

ولكن أعظم هذه الودائع ما استودع الله عبادَه من دينه وشرعه، التكاليف الشرعية أمانة؛ ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(1) العلم أمانة، والتكاليف الشرعية أمانة. ولهذا قال: (على رعاية ودائعه، وحفظ ما استودعنا من شرائعه) فالإنسان مسؤول عن علمه وعن عمله؛ فكله أمانة، وعليه أن يقوم بواجب علمه، وأن يقوم بشرائعه؛ أوامره ونواهيه، وحفظها: بالقيام بها كما أمر الله.

(فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانة، مما تنطِق به الألسنة وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح).

هذا تصريح بسبب التأليف: (وأنك سألتني أن أكتب لك مختصرا) فيما توجبه (أمور الديانة)؛ يعني في أمور الديانة. الديانة: التدين، ديانة مصدر مثل العناية، والصناعة. ديانة، يفعل هذا ديانة؛ يعني تَدَيُّنًا وعبادة، ديانة مثل العبادة، تدينًا.

(مما توجبه أمور الديانة، مما تنطق به الألسن، وتعتقده القلوب وتعمل به الجوارح)؛ فإن الدين يتعلق بهذه الجوانب، الدين مثلما نقول في الإيمان: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان بالجوارح.

(مما تنطق به الألسن، وتعتقده القلوب، وتعمل به الجوارح). فأمور الديانة تتعلق بهذه الجوارح والجوانح، وتحقيق القيام بدين الله إنما يكون بالاعتقاد الصحيح والقول الحق، والعمل الصالح ظاهرا وباطنا.

(وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبها، وشيء من الآداب منها، وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- وطريقته).

أيضاً يقول: إنه لا يقتصر على ذكر ما توجبه أمور الديانة، لا يقتصر فيما سيذكره ويدونه ويحققه ويفصله، لا يقتصر على الأمور الواجبة، على الواجبات الشرعية اعتقادا وقولاً وعملاً، بل وما يتصل بالواجب من السنن؛ مؤكدها ونوافلها وآدابها ورغائبها. ويضيف إلى ذلك بيان ما قرره أهل العلم من أهل الأصول والفقهاء، فهذه يعني أن الرسالة قد تضمنت -على اختصارها- جنسَ جميع أنواع المعاني الشرعية؛ اعتقادية، وقولية، وعملية، من واجبات، ومن سنن، وآداب وفضائل. وفعلاً هذا مختصر -مع اختصاره- قد تضمنه.

ولا بد أنه قد اقتصر على ما رآه من المهمات، وإلا؛ فالعلم واسع، ومما يُبَيِّنُ أنه قد قصد إلى ذكر هذه الجوانب على وجه الاختصار أنه كتبه للأولاد الذين يتعلمون القرآن صغار السن، يعني يكونون من ثمان أو من سبع فما فوق، وتسع وعشر إلى ما قبل البلوغ، وهؤلاء لا يناسبهم إلا الاختصار والإيجاز.

ويقول أيضا: إنه في هذا كله قد مشى على مذهب الإمام مالك وطريقته -رحمه الله-.

وأهل العلم لهم مذاهب، واختيارات، واجتهادات، وطرائق في فهم الأدلة، وأئمة السلف لا تُنَافِي طرائقُهم واجتهاداتُهم طريقةَ غيرهم؛ كُلٌّ له اجتهاده. مثلاً الإمام أحمد له أصول في فهم الأدلة وفي الاستدلال وفي الفتوى، ولأبي حنيفة له أصول. لكنْ مَرَدُّ هذا كله الاجتهاد، وهذا أكثر ما يجري في الأمور العملية، في العمليات.

أما الأصل: أن مسائل الاعتقاد الأصل أنهم فيه على منهج واحد وطريق واحد هذا هو، إنما هذا التباعد وهذا الاختلاف إنما يجري في المسائل العملية كما هو ظاهر. يعني أهل السنة والجماعة ليس بينهم خلاف في مسائل الاعتقاد، لكن يختلفون في المسائل العملية؛ في أبواب الطهارة؛ مسائل وفاق ومسائل خلاف، وفي الصلاة، وفي الزكاة، وفي الصيام وفي المعاملات، مسائل كثيرة موضع إجماعات، ومسائل كثيرة موضع اتفاق.

والإمام ابن تيميّة(2) يقرر في كتابه "الاستقامة" أن ما يتفق عليه أهل العلم أعظم وأكثر مما يختلفون فيه؛ خلافا لمن يظن خلاف ذلك. فيبدو للقارئ أن مسائل الخلاف أكثر من مسائل الاتفاق والأمر بالعكس، وارجعوا إلى هذا الموضع؛ فإنه نافع في هذا المقام.

(مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك، من تفسير الراسخين، وبيان المتفقهين؛ لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان، كما تعلمهم حروف القرآن؛ ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه، ما ترجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته).

يقول: (إنه على مذهب الإمام مالك وطريقته مع ما سهَّل)؛ يعني مع ذكر ما سهل ما أشكل من ذلك، مع ذكر تفسير الراسخين وبيان المتفقهين، الراسخين في العلم المتمكنين، والمتفقهين، لا أظن أنه يريد المتفقه يعني بالمفهوم الشائع المتفقه يعني المحترف للفقه، الذي ليس على تمكن، لا.. المتفقه الأشبه أنه يريد المتفقه يعني المتمكن في علم الفقه؛ لأنه عطفه على الراسخين، والذين لديهم القدرة على بيان ما أشكل من المسائل، وهم الْمَعْنِيُّون بالفقه، المجتهدون فيه، اقرأ الجملة مرة أخرى (مع ما سهل سبيل ما أشكل).

(مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك، من تفسير الراسخين، وبيان المتفقهين؛ لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان، كما تعلمهم حروف القرآن).

يقول: (لما رغبت من ذلك لتعليم الولدان كما تعلمهم حروف القرآن): كما تقدم؛ ليجمع لهم بين تعليم حروف القرآن وألفاظه؛ ليتقنوا النطق به، ويضيف إلى ذلك تعلم أصول الاعتقاد ومسائل في أبواب الفقه.. وهكذا ينبغي أن لا يُقتصر في تعليم الشباب في حلق التحفيظ ما ينبغي أن يقتصر فيها على تعليم حروف القرآن، بل ينبغي أن يُعَلَّمُوا أيضا من الفقه، وأحكام العقيدة، يعني يقرر لهم بعض المختصرات في العقيدة، والمختصرات في الفقه؛ لتعليمهم أحكامَ دينهم؛ فإن هذا أيضا هو من مقاصد تعلم القرآن، ليس المقصود من تعليم الأولاد القرآن تَعَلُّمَ ألفاظ كما هو الحاصل من كثير من المسلمين؛ يقفون عند تعليم ألفاظ القرآن، ويعنون ببعض التجويد فقط، وينشغلون بدراسة التجويد ودراسة القراءات عن العناية بالأحكام المأخوذة من القرآن ومن السنة.

وقد كان السلف، الصحابة كانوا يتعلمون القرآن ولا يتجاوزون العشر آيات حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن، فينبغي أن يُلتفت إلى هذا المنهج وهو تعليم المعاني.

وليس المقصود من تعليم المعاني يعني ما في كتب التفسير من تشقيقات، والتوسع فيما يَخْرُجُ به الإنسان عن مقصود التفسير؛ باللغويات والإعرابات وما أشبه ذلك.

ولهذا: عندما نُسْتَنْصَحُ عن كتب التفسير؛ ننصح بتفسير ابن كثير، وبتفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ لأنهما أبعد عن التشقيقات. كثير من المفسرين في النواحي اللغوية؛ البيانية، والنحوية، وسر التقديم والتأخير، وما أشبه ذلك من الجوانب التي تَصْرِفُ العقل عن المعاني المقصودة للقرآن، لكن أصحاب التخصص والذين لهم -كما يُقال- تخصص، فهؤلاء الأمر في شأنهم -أو في حقهم- أوسع.

(ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركته، وتحمد لهم عاقبته).

هذا معنًى جميل، ليسبق إلى قلوبهم وعقولهم ما ترجى لهم بركته، وتُرجى لهم منفعته. لتسبق هذه العلوم العقيدة الصحيحة والأحكام الشرعية تسبق إلى عقولهم، قبل أن يسبق إليها هموم الدنيا، وأطماع الدنيا، أو يسبق إلى عقولهم أفكار دخيلة وآراء سقيمة يتلقونها من هنا وهناك. فأشار المؤلف إلى أهمية وفضيلة السبق وعظيم أثر السبق؛ أي سبق الخير إلى القلوب.

(فأجبتك إلى ذلك، لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من عَلَّم دين الله أو دعا إليه. واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير).

يقول: (فأجبتك إلى ذلك): أجبتك إلى ما طلبت رجاء ثواب الله الموعود لمن تعلم دين الله وعلمه، ودعا إليه، وهكذا ينبغي أن يكون الغاية من التعلم والتعليم هو الاحتسابَ؛ احتسابَ ثواب الله؛ فإن هذا عليه الْمُعَوَّلُ؛ « مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيـمَانًا وَاحْتِسَابًا..»(3)، «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيـمَانًا وَاحْتِسَابًا..»(4) ﴿لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(5)


(1) الأحزاب: 72.

(2) تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيميّة الحرّاني، ثم الدمشقي، الحنبلي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد. برع في العلوم الإسلامية والآلية، وقمع الله به أهل الضلال، ونصر به أهل السنة. ولد سنة إحدى وستين وست مئة، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبع مئة. وله من المؤلفات: الواسطية، ومنهاج السنة. انظر الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 491 ترجمة 531)، والوافي بالوفيات (7/ 10 ترجمة 619).

(3) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان (38، 1901، 2014)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (37، 2008، 2009)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..

(5) النساء: 114.


 مواد ذات صلة: