بحث متقدم   
 
الصفحة الرئيسة / الإصدارات والأعمال الدعوية / وقفات مع النبي صلى الله عليه وسلم
وقفات مع النبي صلى الله عليه وسلم

وقفات مع النبي صلى الله عليه وسلم

« خيركم من تعلم القرآن وعلمه»

بقلم الشيخ

عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السرحان

هدية من مدرسة تحفيظ القرآن الكريم

بجامع شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله بسلطانه


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا، أما بعد:

فهذه مجموعة وقفات أحببتُ أن أعلِّقَها على الحديث الذي رواه الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه»(1)، سائلاً الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقائها ومن تبلغُه من المسلمين.

الأولى:

في الحديث: تفاضل العُلوم.

الثانية:

فيه: أن أفضل العلوم تعلم معاني القرآن والعمل بذلك العلم وليس الحفظ المجرَّد من فهم المعاني. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه – رضي الله تعالى عنهم – معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا».

الثالثة:

فيه: أن خيرية معلم القرآن ومتعلمه ليست مقصورة على حال دون حال أو زمان دون زمان، بل هي خيريةٌ دائمة في كل مكان وزمان وعلى كل حال. فهي خيرية في الدنيا وفي البرزخ – القبر – وفي الآخرة؛ يؤكد ذلك ويصدقه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: « يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» الحديث(2).

فموقف الإمامة موقفٌ شريف ونبيل، وأولى الناس وأحقهم به صاحب القرآن، فلم يتقدم أصحاب الأموال لأموالهم، ولا أصحاب الأنساب والأحساب لأنسابهم وأحسابهم، وإنما تقدم أصحاب القرآن لشريف علمهم ورفعه منزلتهم.

وأمَّا خيرية البرزخ فيشهد لها ما وقع في غزوة أُحُد عندما كثُر القتلى في تلك الغزوة وشق على الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يدفنوا كل ميت في قبر واحد، فكانوا يجمعون بين الرجلين في القبر الواحد، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جيء بالموتى يقول: « أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟»، فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد(3).

وأما الخيرية في الآخرة فيشهد لها قول النبي صلى الله عليه وسلم: « يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه»(4).

وفي لفظ آخر: « يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها»(5).

فاحرص – رعاك الله تعالى – على أن تنال هذه الخيرية، وابذل جهدك في ذلك، وقبل ذلك ومعه وبعده سل ربك التوفيق والثبات، وسترى من الله تعالى ما يسرك ويشرح صدرك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

الرابعة:

فيه: الحرص على المداومة على تعلم القرآن وتعليمه؛ لبقاء هذه الخيرية العظيمة والحذر مما يشوبها أو يكدرها.

دخلوا على كرز بن وبرة وهو يبكي فقال: « إن الباب لمجاف وإن الستر لمرخي وما دخل علي أحدٌ وقد عجزت عن جزئي، وما أظنه إلا بذنب وما أدري ما هو؟!»(6).

الخامسة:

فيه: أن من ثمرات تلك الخيرية أنها تسهل انتزاع الأدلة والشواهد من القرآن. قال أبو عبد الله بن بشر القطان: « ما رأيت أحسن انتزاعًا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه»(7).

السادسة:

فيه: من ثمرات تلك الخيرية أيضًا البركة في التحصيل العلمي وغيره. أوصى الفقيه إبراهيم ابن عبد الواحد المقدسي عباس بن عبد الدايم فقال: « أكثر من قراءة القرآن ولا تتركه، فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ. قال: فرأيت ذلك وجربته كثيرًا فكنت إذا قرأت كثيرًا تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير، وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي»(8).

السابعة:

فيه: أن من لزوم الظفر بتلك الخيرية – مع الإقراء – ظهور أثر القدوة في معلم القرآن.

وصف الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بعض المقرئين الذين أدركهم فكان مما قال عنهم:

- إبراهيم بن فلاح: كان صالحًا خيرًا وقورًا مهيبًا، حسن السمت، جيد المعرفة بالحديث، كثير الفضائل، معروفًا بالعدالة والديانة(9).

- يحيى بن أحمد: كان بصيرًا بالقراءات... تامَّ السكينة، حسن الديانة، كثير التواضع والحياء(10).

- أبو بكر بن محمد: كان شيخًا حسنًا خيِّرًا، موطأ الأكناف، مجموع الفضائل، له حرمة وجلالة، ونعم الشيخ كان(11).

- أبو بكر بن يوسف: كان عارفًا بالقراءات، قائمًا عليها، جم الفضائل، كثير المحاسن، حسن التودد، حسن السمت، متين الديانة، تام العدالة(12).

- أحمد بن مؤمن: كان من خيار الشيوخ؛ دينًا وتواضعًا وفضيلةً ومعرفةً بالقراءات(13).

الثامنة:

قوله صلى الله عليه وسلم: « تعلم القرآن وعلمه»: فيه: الصبر والمصابرة للمعلم والمتعلم، فهذا من مواطن مجاهدة النفس، ويعقب ذلك الفوز والظفر. ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

مكث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بضع سنين في سورة البقرة(14).

وقال أبو بكر بن عياش: « قرأت القرآن على عاصم بن أبي النجود فكان يأمرني أن أقرأ عليه في كل يوم آيةً لا أزيد عليها ويقول: إن هذا أثبت لك. فلم آمن أن يموت الشيخ قبل أن أفرغ من القرآن، فما زلت أطلب إليه حتى أذن في خمس آيات كل يوم»(15).

قلت: هذا يختلف بحسب ما يراه المعلم لنفع المتعلم، فرحم الله تعالى سلفنا ما أعظم هممهم!

ومن عظيم الهمم في تعليم القرآن: ما جاء في ترجمة محمد بن أحمد المقرئ: « أنه مكث مدةً طويلةً يعلم العميان القرآن لوجه الله تعالى... فختم عليه القرآن خلقٌ كثير... وتواتر عنه إقراء الخلق الكثير في السنين الطويلة. قال القاضي أبو الحسين: أقرأ بضعًا وستين سنة ولقن أممًا»(16).

ومن لطيف ما يذكر في همة المتعلم والصبر والمصابرة على التعلم: ما ذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة سليم بن أيوب ما نصه: « قال سهل بن بشر: حدثنا سليم أنه كان في صغره بالري وله نحو من عشر سنين، فحضر بعض الشيوخ وهو يلقن، قال: فقال لي: تقدم فاقرأ. فجهدت أن أقرأ الفاتحة فلم أقدر على ذلك لانغلاق لساني، فقال: لك والدة؟ قلت: نعم. قال: قل لها تدعو لك أن يرزقك الله قراءة القرآن والعلم. قلت: نعم. فرجعت فسألتها الدعاء، فدعت لي، ثم إني كبرت ودخلت بغداد قرأت بها العربية والفقه، ثم عدت إلى الري، فبينا أنا في الجامع أقابل « مختصر المزني» وإذا الشيخ قد حضر وسلم علينا وهو لا يعرفني، فسمع مقابلتنا وهو لا يعلم ماذا نقول، ثم قال: متى يتعلم مثل هذا؟ فأردت أن أقول: إن كانت لك والدةٌ فقل لها تدعو لك، فاستحييت»(17).

التاسعة:

فيه: فضل مجالس تعليم القرآن، ومما يزيد ذلك تأكيدًا قوله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده»(18).

العاشرة:

فيه: أن تعلم القرآن وتعليمه في المساجد مما تواتر عليه عمل المسلمين جيلاً بعد جيل مع اختلاف أعصارهم وتباعد أمصارهم، ومن شواهد ذلك عند الرعيل الأول: قول سويد بن عبد العزيز: « كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرةً عشرة وعلى كل عشرة عريفًا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك. وكان ابن عامر عريفًا على عشرة – كذا قال سويد – فلما مات أبو الدرداء خلفه ابن عامر».

وعن سام بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء: اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفًا وستمائة ونيفًا، وكان لكل عشرة منهم مقري.

وكان أبو الدرداء يكون عليهم قائمًا، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء رضي الله عنه(19).

الحادية عشرة:

فائدة: من الآثار العظيمة الجليلة لتعليم القرآن الكريم:

« عندما دخل العرب المسلمون بلاد المغرب الإفريقي كان أول ما أنشأوا الدور والمساجد، ثم التفتوا إلى تعليم صبيانهم فاتخذوا لهم محلاً – مكانًا – بسيط البناء يجتمعون فيه لقراءة كتاب الله العزيز، وكان إنشاء هذه الكتاتيب منذ زمن مبكر في بلاد المغرب سببًا في سرعة انتشار اللغة العربية بين سكانها الأصليين، وذلك بفضل الله عز وجل ثمَّ بفضل ما تحلى به العاملون فيها من خلق رفيع وإخلاص في العمل، فترك أولئك المدرسون أثرًا طيبًا في نفوس أبناء البربر الذين ظلوا يرددون المآثر الجليلة التي شاهدوها في أولئك المدرسين، فقد قال أحد رجال البربر»:

« كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بنا ونحن غلمة بالقيروان فيسلم علينا في الكتاب وعليه عمامة قد أرخاها من خلفه». وأسهمت هذه المعاهد التعليمية التثقيفية في انتشار اللغة العربية سريعًا بين جموع البربر الغفيرة الذين استجابوا – توًا – لتلك اللغة الفصحى – لغة كتاب الله الحكيم – ووجدوا فيها سبيلاً يجمع كلمتهم، ذلك أن أهل المغرب كانوا في مسيس الحاجة إلى لغة يتفاهمون بها ويتخاطبون وطريقة يكتبون بها ليعبروا عما يريدون، ولما كانت اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم فإن شدة إيمانهم بالإسلام ورغبتهم الشديدة إلى قراءة الكتاب الكريم مما دفعهم على الإقبال إلى تعلمها – اللغة – وإجادتها، كما وجد البربر في العرب الذين أقاموا بين ظهرانيهم نماذج رفيعةً في أداء اللغة العربية السليمة والنطق بها، إذا أجاد العرب الخطابة والتعبير وتركوا للبربر صورًا ناصعةً يمكن محاكاتها في ميدان اللغة العربية، وكانت النتيجة الهامة لهذه السياسة اختفاء العنصر اليوناني والروماني من بلاد المغرب حتى اختفت آثارهم من البلاد ولم تبق إلا آثار قليلة من مظاهر الحضارة القديمة في نواحٍ ساحلية أخرى(20).

والله أسأل أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبة أجمعين.


(1) أخرجه البخاري.

(2) أخرجه أحمد وأهل السنن.

(3) أخرجه البخاري.

(4) أخرجه أحمد.

(5) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي.

(6) « تاريخ جرجان» للسهمي (ص 338).

(7) « سير أعلام النبلاء» (15/ 521).

(8) « الذيل على طبقات الحنابلة» (2/ 98).

(9) « معرفة القرَّاء الكبار» (ص 569).

(10) « معرفة القرَّاء الكبار» (ص 594).

(11) « معرفة القرَّاء الكبار» (ص 595).

(12) « معرفة القرَّاء الكبار» (ص 595- 596).

(13) « معرفة القرَّاء الكبار» (ص 598).

(14) « مقدمة في أصول التفسير» لشيخ الإسلام ابن تيمية.

(15) « طبقات الحنابلة» (1/42).

(16) « الذيل على طبقات الحنابلة» (1/ 95- 96).

(17) « سير أعلام النبلاء»: (17/ 645- 646).

(18) أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(19) « معرفة القرَّاء الكبار» (ص 38- 39).

(20) « موسى بن نصير مؤسس المغرب العربي» (ص 56) نقلاً عن مقال بعنوان: « ورقات تاريخية عن حياة البربر الدينية والخلقية في المغرب العربي» د. علي عبد السلام سيد أحمد، نشر « المجلة التاريخية المصرية» (الجزءان 30، 31 ص 113 - 114).