بحث متقدم   
 
الصفحة الرئيسة / المكتبة الإلكترونية / الكلمات والمحاضرات / إنما الأعمال بالخواتيم
إنما الأعمال بالخواتيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد..

بداية أحييكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أشكر لمكتب الدعوة بسلطانة، والقائمين على هذا المسجد، على ترتيب مثل هذه اللقاءات القصيرة الطيبة، التي أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن ينفع بها السامع والمتكلم.

ثم إني أذكر نفسي وإياكم، وإن كان إمامنا حفظه الله، أحسن الظن، فقال إنها محاضرة، والواقع إنها كلمة قصيرة، وبعبارات يسيرة، أذكر نفسي وإياكم بموضوع أهمَّ الأنبياء، وأقض مضاجع الصالحين والأتقياء، هذا الموضوع، وهذا الأمر الذي نغفل عنه كثيرًا، وننشغل بحياتنا وما فيها من طيبات وملهيات، هذا الموضوع المهم والموضوع الخطير الذي جعل مثل الإمام الكبير سفيان الثوري رحمه الله يقوم ليلة يبكي حتى الصباح، فقيل له: كل هذا الجذع، وهذا الخوف من الذنوب؟ فالتفت إلى شيء من القش بجواره، ورفعه، وقال: والله ما الذنوب تسوى عندي مثل هذا، ولكن أخاف من سوء الختام.

يخاف رحمه الله أن تزل قدمٌ بعد ثبوتها، لست بصدد الكلام عن سوء الخاتمة، ولا عن صور سوء الخاتمة، والبعض قد يتساءل ويقول: أولسنا مأمورن بحسن الظن بالله، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله»، وفي الحديث القدسي، يقول الله تبارك وتعالى: « أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء».

هذا الكلام طيب، هذا التساؤل طيب، وخصوصًا وأني أتحدث عنه في هذا الموسم المبارك، حيث نعيش مع الصيام والقيام ساعات طويلة، متى يتيسر للمسلم أن يتلبس بالعبادة لمدة أربعة عشرة ساعة متواصلة، فهو يصوم من الصباح إلى غروب الشمس أربعة عشرة ساعة وهو في عبادة، متى يتسنى هذا الحال، متى تتسنى هذه الفرصة أن تكون في عبادة يحبها الله سبحانه وتعالى، يقول الله سبحانه وتعالى عنها: « كل عمل ابن آدم – الصلاة، والحج، والصدقة، وصلة الرحم، والذكر، والاستغفار – كل عمل ابن آدم له، إلا – واحد من هذه الأعمال – إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به».

ففرصة عظيمة أن نتحدث في مثل هذا الموضوع، ونحن نقضي ساعات طويلة، من يومنا وليلتنا في عبادة، في أمر يحبه الله سبحانه وتعالى.

أخي الحبيب! الإنسان له واحد من نهايتين، ليس هناك نهاية ثالثة، ولذا لما حضرت الوفاة أحد الصحابة، قال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صباحها إلى النار.

نعم أحبتي ليس هناك طريق ثالث، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ(1)، ما به إلا واحدة من نهايتين، إما خاتمة طيبة، ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ(2)، يعني الخاتمة تظهر فيها علامات العاقبة في الدار الآخرة.

عند الختام عند احتضار الموت، تظهر علامات، على أهل السعادة، وعلى أهل الشقاوة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾، يعني عند حضور الأجل، عند سكرات الموت، ﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(3)، يعني يأخذ شهادة البشارة عندما ينزل به الأجل.

أحبتي في الله، الخواتيم ميراث السوابق، ومن شب على شيء شاب عليه، ومن شاب على شيء شب مات عليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « أعذر الله إلى امرئ أجله، أو آخره إلى ستين سنة». انتبه أخي الحبيب، الأمر خطير، لا يستهان به، حسن الظن بالله لا يكون إلا مع إحسان العمل، لا يكون مع التفريط، لا يكون مع الغفلة، لا يكون مع الغرق في أوحال المعاصي، حسن الظن بالله لا يكون إلا مع العمل والاجتهاد، وهنا يكون حسن الظن بالله، ويكون التفاؤل.

روى الشيخان عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا حديث عظيم – ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم مبتدأ خلق الإنسان، منذ أن لم يكن شيئًا، إلى أن تنتهي به حياته، جمع هذا العمر الطويل في عبارات، في أسطر.

روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: « حدثنا الصادق المصدوق أن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون نطفة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح ويُؤمر بكتب أربع كلمات: أجله، وعمله، ورزقه، وشقي أو سعيد».

يكتب أربع كلمات، فوالذي نفسي بيده – النبي صلى الله عليه وسلم حدد في هذا الحديث أن الملك سيكتب واحدة من اثنتين، إما شقي أو سعيد، ثم يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه النهاية، يقول: « فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإنما الأعمال بالخواتيم»، وإنما الأعمال بالخواتيم.

الله سبحانه وتعالى يقول – انتبه! يا من يغرك الشيطان، ويلبس عليك، ويقنعك بأن حالك حال من يحسن الظن بالله، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ(4)، قال المفسرون رحمهم الله: هؤلاء الذين يعملون، ويخافون من سوء الخاتمة.

أقول لمن يورد هذا الإشكال، أو أحيانًا ربما تكون شبهة أن هذه الغفلة، وهذا التفريط يكون من باب حسن الظن بالله.

إذا كان هذا الأمر صحيحًا، فكيف خاف الأنبياء من سوء الخاتمة، أين حسن الظن؟ أليسوا هم أولى منك بحسن الظن بالله، يقول الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم: ﴿ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ(5)، إبراهيم صاحب ملة التوحيد يخاف على نفسه وعلى أبنائه من عبادة الأصنام، فكيف أنت لا تخاف على نفسك من الفسوق والعصيان.

إذا كان إبراهيم خليل الله يقول صادقًا فيما يقول؛ لأن الله يطلع على ما في نفسه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ(6)، ويقول عن يوسف عليه الصلاة والسلام: ﴿أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا  وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(7).

حتى يوسف نبي الله يسأل الله سبحانه وتعالى الوفاة على الإسلام، وأن يلحقه بالصالحين، ما قال أنا نبي الله، وأنا الذي حصل لي ما حصل، لا، يخشى أيضًا على نفسه.

والنبي صلى الله عليه وسلم تقول عنه عائشة: كان إذا قام من الليل يكثر في سجوده من قول: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء. يقول الإمام السيوطي: المقصود بدرك الشقاء سوء الخاتمة، فانتبه لنفسك، فإذا كان هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الصالحين يخافون من أن تدركهم سوء الخاتمة، يقلقون، فكيف يكون حالك أيها المقصر، إذن علينا أن نتنبه ونعنى بأنفسنا وندرك أن الأمر يحتاج إلى يقظة، ويحتاج إلى انتباه، ويحتاج إلى اجتهاد، ولذا سأذكر لكم على سبيل الإيجاز والاختصار، بعض الأسباب والوسائل المهمة التي تعين بإذن الله على تحقيق حسن الخاتمة.

فمن هذه الأسباب: عدم الإعجاب بالنفس والغرور بالعمل، الله سبحانه وتعالى يقول عن أحد عباده: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا(8)، انتبه! واحد من عباد الله آتاه الله سبحانه وتعالى آيات، وقد يكون إيتاء هذه الآيات على سبيل الوحي والإلهام، ﴿ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾.

والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: « لا تعجبوا بعمل عامل، حتى تنظروا بما يختم له».

أيضًا من الأسباب: تذكر المعاد، وتذكر الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، فكلما ذكر المسلم ذلك الموقف العظيم وما فيه من الأهوال، كلما خاف من سوء المصير، وتعلقت نفسه وسأل الله سبحانه وتعالى الحصول على الخاتمة الحسنة.

أيضًا من الأسباب: الإلحاح على الله بالدعاء، ألح على الله سبحانه وتعالى بالدعاء، أن يوفقك للخير، وأن يثبتك عليه، وآنفًا ذكرت لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الدعاء في سجوده، وفي جوف الليل، مواطن يُتوقع فيها إجابة الدعاء: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».

أيضًا من الأسباب: الإخلاص في العمل، والاجتهاد في الإخلاص فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة» – في رواية: « فيما يبدو للناس» يعني فيما يظهر للناس، وإلا فالواقع ليس عنده إخلاص، فكلما اجتهدت في إخلاص عملك، وأن يكون لله سبحانه وتعالى خالصًا، كلما كان هذا من أسباب حصول الخاتمة الحسنة إن شاء الله.

أيضًا من الأسباب أن تُعنى قوة الإيمان في قلبك، ولقوة الإيمان في القلب أسباب كثيرة، من أهمها: المحافظة على الفرائض، والاستكثار من النوافل، وكثرة الذكر والاستغفار، والصلاة في جوف الليل، وصحبة الأخيار، والبعد عن مواطن المعاصي والسيئات، كل هذه من الوسائل التي تزيد في قوة الإيمان.

أيضًا من الأسباب: تقديم الأعمال الصالحة؛ لأن الخواتيم ميراث السوابق، والله سبحانه وتعالى يقول في الآية التي ذكرته في صدر كلامي: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ – عليها – ﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾، وأذكر قصة، ذُكرت لي عن أحد المشايخ، الذين لهم علاقة بتنفيذ القصاص، يقول بأنه في إحدى المرات التي كان يراد تنفيذ القصاص في أحد الجناة، صعدت إليه في سيارة السجن، بعد أن دخل وقت الصلاة، صلاة الظهر، لأذكره بالله سبحانه وتعالى وبالتوبة؛ لأنها لحظات وتذهب روحه، وأيضًا ذكرته أن يصلي هذه الفريضة التي حضرت، فإذا كان يحتاج إلى وضوء، زودناه بماء يتوضأ به، ويصلي؛ لأنه دخل عليه الوقت، فماذا قال؟ وبئس ما قال؟ قال: دعني من كلامك هذا كله، إذا كان لديك دخان تعطيني إياه الآن، فمات ولم يصلي.

بالطبع هذا إنسان استولى عليه الشيطان، وغلبه في هذه اللحظات الحرجة، الدقائق، الثواني، وتفوت روحه، ومع ذلك هو واقع تحت سيطرة الشيطان؛ لأنه إيمانه في هشاشة، وإلا كانت تلك اللحظات وتلك الكلمات من هذا الواعظ كانت كفيلة بأن تغير حياته، وتغير نهايته، لكن أبى الله إلا أن يدركه ما كتب له في اللوح المحفوظ.

والصحابة قلقلوا من هذه النهاية، قالوا: يا رسول الله إذا كنا نعمل في شيء مكتوب، فلماذا نعمل؟ قال: « اعملوا فكل ميسر لما خلق له». اجتهد أنت، وأبشر بالخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إني سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة»، فسلعة الله سبحانه وتعالى ما تنال بقلوب غافلة؛ الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا(9) فأنت إذا اجتهدت وخفت، وحرصت، وفقك الله سبحانه وتعالى لعمل الخير، ووفقك الله سبحانه وتعالى للتوبة.

آخر الأسباب: التوبة والاستغفار، والإقلاع عن الذنوب، بمجرد أن تشعر بأنك وقعت في الذنب، حتى لو تكرر منك وقوع الذنب؛ لأنك دائمًا تكون في حالة نظافة، وفي حال استعداد للأجل عند حصوله.

أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يغفر لنا خطأنا وجهلنا وتقصيرنا، وما هو أعلم به منا، كما أسأله سبحانه بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن صام هذا الشهر وقامه إيمانًا واحتسابًا، وأن نكون ممن وفق لليلة القدر، فقامها واحتسابًا، إنه سميع مجيب، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(1) آل عمران: 185.

(2) النحل: 32.

(3) فصلت: 30.

(4) المؤمنون: 60.

(5) إبراهيم: 35.

(6) إبراهيم: 35.

(7) يوسف: 101.

(8) الأعراف: 175.

(9) العنكبوت: 69.