بحث متقدم   
 
الصفحة الرئيسة / المكتبة الإلكترونية / الخطب / العشر الأواخر
العشر الأواخر

بسم الله الرحمن الرحيم

العشر الأواخر

الجمعة : 22/9/1422

فإن من حكمة الله تعالى ، تخصيص بعض الأزمنة بالفضل على غيرها ، وتشريفها وجعلها مواسم للتجارة الرابحة مع الله سبحانه وتعالى ، تضاعف فيها الحسنات ، وتقال فيها العثرات ، فاختار من الساعات الثلث الأخير من كل ليلة ، فيغفر للمستغفرين ، ويتجاوز عن المذنبين ، ويجيب دعوة الداعين ، ويعطي السائلين .

واختار من الأيام يوم الجمعة ، فجعله عيداً لأهل الإسلام ، فيه ساعة مباركة لا يوافقها عبد مسلم يدعوه ويسأله إلا أعطاه مسألته وغفر له ذنبه . واختار من الشهور شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . واختار من رمضان العشر الأواخر منه فخصها بليلة هي خير من ألف شهر , من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن حرم خيرها فهو المحروم .

أيها المسلمون : هاهو شهر رمضان المبارك ، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن ، شهر الصدقة والجود والإحسان ، يتهيأ للرحيل ، تصرمت أيامه ، وانقضت لياليه ، وكأنها أضغاث أحلام وأطياف سراب ، مضى أوله وأوسطه ولم يبق منه إلا القليل من العشر الأواخر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها بمزيد من الاجتهاد في الطاعة حتى قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها :- « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله » .

فيا من فرط فيما مضى من الشهر ، تب إلى الله وارجع إليه مقبلا خائفاً ، تائباً خاشعا ًوجد في طاعته فإن العمر قصير ، والسفر طويل ، والزاد قليل .

ويا من أحسن فيما مضى داوم على طاعة الله تعالى وتزود من الصالحات

لقد كثرت أسباب المغفرة في رمضان من صيام وصدقة وقيام ، واستغفار وتوبة وتلاوة للقران ، فيا عجبا من حال أقوام تمر عليهم تلك الليالي وهم في غفلة عنها ، لا يقدرون لها قدرا ، ولا يعرفون لها وزنا ، فالمحروم حقا من فاتته المغفرة والرضوان في هذه الأيام . صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : « إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت : آمين » .

لقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يخلط أول ليالي رمضان وأوسطها ، بالنوم والقيام ، فإذا دخلت العشر الأواخر عكف على العبادة ، وطوى فراشه ، واعتزل نساءه ، فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بالعصاة الذين تلوثوا بالذنوب ، وتدنسوا بالآثام ، بل كيف بالذين يبيتون على المحرمات والمنكرات ، عن ربهم غافلون ، وعلى المعصية مصرون ، ومن مكر الله آمنون ، وهل يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ؟ ليلهم ونهارهم في سبات وغفلة ، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، لا بعبادة يتلذذون ، ولا بذكر يشتغلون ، ولا بالحق يتواصون .

أيها المسلمون : إنكم في عشر رمضان الأخيرة ، فيها الخيرات والأجور الكثيرة ، فيها الفضائل المشهورة ، والخصائص العظيمة . فمن خصائصها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها ، يدل لذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره . رواه مسلم وهذا دليل صريح على فضيلة هذه العشر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرها ، وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة من صلاة وقراءة للقران وذكر ودعاء وصدقة وغير ذلك .

ومن الأعمال التي تشرع في هذه العشر الاعتكاف : ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى» ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام . فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين » . وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر ، قطعا لأشغاله ، وتفريغاً لباله ، وخلوة لمناجاة ربه وذكره ودعائه . فلا يخالط الناس ولا يشتغل بهم ، ولهذا ذهب الإمام احمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن ، وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية وإنما يكون في المساجد ، لئلا يترك به الجمع والجماعات . فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره ، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه .

فمعنى الاعتكاف وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق

الخطبة الثانية:

فيا أيها الناس :

اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى ، وتزودوا من الأعمال الصالحة للأخرى ، وتأهبوا ليوم العرض الأكبر على الله ، وتذكروا حق الله تعالى عليكم ؛ فحقه أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ؛ .

أيها المسلمون :

اتقوا الله واعلموا ان مما اختص الله تعالى به عشر رمضان الأخيرة أن جعل فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر قال تعالى ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ …… ﴾ و قال سبحانه ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ .

والتي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم « من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه » . وفي ( الصحيحين ) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) وفي ( المسند ) عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قامها ابتغاءها ، ثم وقعت له ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر » وفي ( المسند ) و ( النسائي ) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في شهر رمضان : « فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم » . قال جويبر : قلت للضحاك : أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب ؟ قال : نعم ، وكل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر، وعلى المسلم أن يتحراها في هذه العشر

لما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال صلى الله عليه وسلم « التمسوها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر - فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي ».

ويستحب الدعاء فيها والإكثار من الاستغفار والطاعة قالت عائشة - رضي الله عنها : - يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها . قال : « قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني » .

. يا من أعطاه الله صحة وعافية بعد العشرين ، يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين ، يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين ، يا من هو في معترك المنايا بين الستين والسبعين ، ما تنتظر إلا أن يأتيك اليقين ، يا من ذنوبه بعدد التراب ، أما تستحي من الكرام الكاتبين ، فتعود إلى رشدك وتصدق مع ربك ، لعلك تفوز يوم الدين .

إلهنا أنت ملاذنا إذا ضاقت الحيل ، وملجؤنا إذا انقطع منا الأمل ، فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا وأقر أعيننا بصلاح ذرياتنا و أعمالنا ، ولا تؤاخذنا بما كسبت قلوبنا ، وجنته جوارحنا ، وتوفنا وأنت راض عنا . اللهم طهر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء و ألسنتنا من الكذب ، وأعيننا من الخيانة ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين .