بحث متقدم   
 
الصفحة الرئيسة / المكتبة الإلكترونية / الخطب / الموت
الموت

بسم الله الرحمن الرحيم

المـــوت

الجمعة : 20 /5/1422

الحمد لله المتفرد بالعزة والبقاء، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ﴾ أحمده تعالى وأشكره ، وأثني عليه وأستغفره ، وأشهد أن لاإله إلاالله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :

فإن الإنسان يتقلب في هذه الحياة ، في حلوها ومرها ، في صفوها وكدرها ، في سعادتها وشقائها ، ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ ، وفجأة يجد الإنسان نفسه أمام حقيقة عظيمة ، طالما صرف نفسه عن التفكير فيها ، وطالما نسيها أو تناساها ، ذلكم هو الأمر الكبار ، إنه الموت ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ

أبى الموت إلا أن يكون لمن ثوى *** من الخلق طراً حيثما كان لا قياً

حسمت المنى يا موت حسماً مبرحاً وعلمت يا موت البكاء البواكي

ومزقتنا يا موت كل ممزق *** وعرفتنا يا موت منك الدواهي

ينطرح الإنسان على فراش الموت ، يقلب عينيه فيمن حوله ، يتذكر صبية صغاراً ، لا يجدون بعده مأوى ولا داراً ، من يعولهم بعده ، أمن يكسوهم إذا احتاجوا ، من يجيبهم إذا سألوا ، من يؤويهم ويحميهم ، من يساعدهم ويكفيهم ، ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾ ينطرح على فراشه ، لا يستطيع على حراك ، ولا يقدر على فكاك ، وقد أيقن بالهلاك ، وكأني به وقد أتاه رسول ربه ، لا يقرع له باباً ، ولا يهاب صحابا ، ولا يقبل منه بديلا ، ولا يأخذ منه كفيلا ، ولا يرحم صغيرا ، ولا يوقر كبيراً ،

ثم تأتي تلك اللحظة الحاسمة ، عندما لا يبقى له في الدنيا شربة إلا شربها ، ولا لقمة إلا أكلها ، ولا نفساً إلا تردد في صدره . ينزل عليه ملك الموت ، لنزع روحه ، ﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ﴾ ﴿ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ﴾ فلا تسأل عن تلك اللحظات ، فكم فيها من المعاناة ، وما أشد الكربات ، فقد عانا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول « إن للموت لسكرات » اللهم هول علينا السكرات ، ﴿ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ﴾ فيا سعادة من كان آخر كلامه لاإله إلاالله . ويا شقاوة عبد أعرض عن مولاه . وكان في الدنيا متبعاً لهواه .

عبدالله : تصور نفسك وأنت في تلك اللحظات ، وقد نزلت عليك ملائكة الرحمة ، تبشرك بروح وريحان ، ورب راضٍ غير غضبان ، تصور نفسك وأنت ملقى بين يدي المغسل ، وقد جردت من ملابسك ، يقلبك يمنة ويسرة ،لا تدري ما يفعل بك ، ثم تكفن ويصلى عليك ، ثم توارى في حفرة ، ويهال عليك التراب ، فتترك وحيداً فريداً .

وينزل داراً لا أنيس له بها *** لكل الورى منهم معاد وموئل

ويبقى رهيناً بالتراب بما جنى *** إلى بعثة من أرضه حين ينسل

أين من سعى واجتهد ، وجمع وعدد ، وبنى وشيد ، وزخرف ونجد ، وبالقليل لم يقنع ،وبالكثير لم يمتع . أين من شيد القصور ، ونسي القبور ، أين من قاد الجنود ، ونشر البنود ، أضحوا رفاتا تحت أطباق الثرى ، وأنتم عن قريب بكأسهم شاربون ، ولسبيلهم سالكون . وعلى آثارهم مقتفون . ثم تؤخذ إلى بيتك الموعود القبر وما أدراك ما القبر ،

القبر روضة من الجنان *** أو حفرة من حفر النيران

إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده

وإن يك شراً فما بعد أشد *** ويل لعبد عن سبيل الله صد

تصور نفسك وأنت في أول لحظة فيه ، تصور نفسك وقد أتاك الملكان فسألاك عن ربك ودينك ونبيك ، تصور نفسك وقد ألهمت الصواب ، وأحسنت الجواب ..

ثم تأمل فيما بعد القبر وشدته ، تأمل في يوم البعث والنشور ،

﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ﴾ ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً ﴾ ﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ﴾ ﴿ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ﴾ ﴿ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴾ ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً ﴾ ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴾ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ .

اللهم هون علينا سكرات الموت ، واجعل آخر كلامنا من الدنيا لاإله إلاالله

الخطبة الثانية:

الحمد لله المبدي المعيد ، الحمد لله الفعال لما يريد ، الحمد لله أذل بالموت العبيد ، أما بعد

فيا أيها الناس : اتقوا الله وراقبوه ، وأطيعوا أمره ولا تعصوه .

إلا ترون ألا تتفكرون ألا تنظرون ، تشيعون في كل يوم غادياً ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيبوه في صدع من الأرض ،خلع الأسباب ، وترك الأحباب ، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، وانتهى أمله وأجله ، تبعه أهله وماله وعمله ، فرجع الأهل والمال وبقي العمل . فارق الأحبة والجيران ،هجره الأصحاب والخلان ، ما كأنه عاش في هذه الدنيا ومشى على ثراها ، ما كأنه فرح يوما ولا ضحك ، بل صار فقيرا إلى ما قدم ،غنيا عما ترك .

عباد الله : اتقوا الله واعلموا أن الآمال تطوى ، والأعمار تفنى ، والأبدان تحت التراب تبلى ، والليل والنهار يقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، وفي ذلك ما يلهي عن الشهوات ، ويسلي عن اللذات ، ويرغب في الباقيات الصالحات .

تخير قريناً من فعالك إنما *** يزين الفتى في القبر ما كان يفعل

ألا إنما الإنسان ضيف لأهله *** يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل

عباد الله : كم من واثق في الدنيا فجعته ، وكم من مطمئن إليها صرعته ، سلطانها دول ، وحلوها مر ، وعذبها أجاج ، العمر فيها قصير ، والمقام فيها يسير ، وجودها إلى عدم ، وسرورها إلى حزن ، وكثرتها إلى قلة ، وعافيتها إلى سقم ، وغناها إلى فقر ، دار مكارة ، أيامها غرارة ، ولأصحابها بالسوء أمارة ، وهي إما نعم زائلة ، أو بلايا نازلة ، أو منايا قاضية ، عمارتها خراب ، واجتماعه فراق ، وكل ما فوق التراب تراب .

عباد الله : أكثروا من ذكر هادم اللذات ، فقد أمركم نبيكم صلى الله عليه وسلم بذلك ، ففي ذكره حياة للقلوب ، وقرب من علام الغيوب ، وتعجيل بالتوبة ، ونشاط في العبادة .