بحث متقدم   
 
الصفحة الرئيسة / المكتبة الإلكترونية / الخطب / تأخر الأمطار
تأخر الأمطار

بسم الله الرحمن الرحيم

تأخر الأمطار

الجمعة 13/10/1422ه

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد ه وبعد : عباد الله :

إننا في هذا العام نشكوا من امتناع المطر وقلته ، الذي به حياتنا ، وحياة المواشي والزروع والأشجار ، في الأشهر الماضية القريبة استغثنا عدت مرات ، فما لنا نستغيث ونستغيث ونستغيث ، ولا يستجاب لنا ؟ ألقلة في خزائن الله جل وعلا ؟ حاشا لله وكلا ؛ فخزائنه ملأ لا تغيظها نفقة . إذن ما السبب ؟

لنقف عباد الله مع هذا الحدث وقفة متأمل متدبر متفكر مستفيد :

أولاً : لنسأل أنفسنا ، من الذي ينزل الماء من السماء ؟ أليس الله رب العالمين ؟ بلى والله ، والله لولا الله لما سقينا ولا تنعمنا بما أو تينا ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ ﴿ اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا﴾ ـ أي : قطعاً ـ ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ ـ أي : فترى المطر ينزل من خلاله ـ ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ ـ ولا يعرف حقيقة الاستبشار إلا من كان يعتمد على الأمطار ، فيصف الله حالهم بقوله ـ ﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ﴾ ـ أي : قانطين ـ ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ .

ثانياً : ما سبب عدم نزول الأمطار ؟ ما سبب القحط؟ ما سبب جدب الأرض ؟ هل فكرنا في ذلك ؟ هل تأملنا في قوله سبحانه : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ وفي قوله جل شأنه :﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾ قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ :" وقوله ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ أي : أمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقاً ، والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء ، وله سبحانه في ذلك الحجة البالغة ، والحكمة القاطعة

قال ابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ ليس عام بأكثر مطراً من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ .

أي: ليذكر من منع المطر ، أن ما أصابه ذلك بذنب أصابه ، فيقلع عما هو فيه "أ.ه

فلنعلم يا عباد الله أن ما أصابنا إنما هو بسبب ذنوبنا : ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ ﴿ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ .

فليس سبب تأخر الأمطار :

رياح تأتي من الشمال أو الجنوب ! أو تغير في الأحوال المناخية ! لا هذا ولا ذاك .

بل هو ما أخبر الله جل وعلا به ، وما أرشد إليه النبي … ، فإذا ما أقلعنا عن معاصينا ، ورجونا رحمة ربنا اللطيف الرؤوف الرحيم ، وفعلنا ما أمرنا الله تعالى به ، فلنبشر بالغيث والرحمة ، وتغير الأحوال .

ثالثاً: لنعلم أن علاج تأخر الأمطار وامتناعها ، وسبب نزولها ، بينه الله جل وعلا في كتابه الكريم ، فها هم لأنبياء الله يرشدون أقوامهم إليه ، فهذا نوح عليه السلام يقوا لقومه مرشداً وناصحا :﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ﴾ وهذا هود عليه السلام يقول لقومه واعظاً وموجها :﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه ﴾ِ ـ الثمرةـ ﴿ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ

فيا قوم : استغفروا ربكم ثم توبوا إليه من جميع الذنوب والمعاصي صغيرها وكبيرها ، ينزل عليكم الأمطار ، ويفتح عليكم من بركات السماء والأرض .

ولكن اعلموا يا عباد الله أن الاستغفار والاستغاثة ، ليسا مجرد لفظ يردد على الألسنة فحسب ، بل هما توبة وندم ، وعبادة وخضوع لرب العالمين ، وتحول من حالة فساد إلى حال صلاح ، فلا بد أن تكون حال المسلمين بعد صلاة الاستسقاء أحسن من حالهم قبلها ، إذا كانوا صادقين في توبتهم ، معترفين بذنوبهم .

أما إذا دعونا الله جل وعلا بألسنة كاذبة ، وقلوب غافلة ، وأفعال فاسدة ، ونحن مصرون على الذنوب والمعاصي ولا نغير من أحوالنا شيئاً ، فلن يستجاب لنا ، إلا أن يشاء ربنا شيئا . عباد الله :

أما ترون الصلاة قد ضيعت ؟ أما ترون المحرمات قد انتهكت ؟ أما ترون الأمانات قد أهملت ؟ أما ترون المعاملات قد فسدت ؟ أما ترون المعازف والمزامير قد شريت ؟ وعلت أصواتها في الأسواق والسيارات ، والبيوت والطرقات ؟ أما ترون الغيرة قد ذهبت ؟أما ترون المنكرات والملاهي في البيوت قد تركت ؟ أما ترون المساجد والمصاحف قد هجرت ؟أما ترون جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ترك أو كاد ؟ أما ترون الربا قد فشا وانتشر ؟ أما ترون الآباء قد أهملوا الأبناء والأبناء قد عقوا الآباء ؟؟؟؟ هل غيرنا من هذه الأمور شيئاً قبل أن نستسقي ؛ حتى يغير الله جل وعلا ما بنا ؟ ﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ عباد الله :

لا نقول إن هذه الأوصاف قد عمت جميع المسلمين ، فهناك من عباد الله الصالحين من هم سالمون منها في أنفسهم ، ولكن العقوبة إذا نزلت عمت قال سبحانه :﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ

عباد الله : يقول سبحانه :﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا …. ﴾ ويقول :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي : أصابهم سبحانه بالجدب والقحط وأصاب ثمارهم وغلاتهم بالآفات والعاهات ؛ ليتعظوا بذلك ويتوبوا ، فلم يستجيبوا ويؤوبوا . وهاهي سنة الله لا تتبدل ولا تتغير ! فهذا واقعنا المعاصر : كم أصاب الناس اليوم في شتى الأرض وبقاعها من احتباس الأمطار ، واجتياح الثمار ، والأمراض والمجاعات ، وما ذاك إلا ليرجعوا إلى دينهم ويتوبوا ، فهل غيروا من حالهم ؟ أو أصلحوا ما فسد من أعمالهم ؟ هل تذكروا ذنوبهم ، فأصلحوا عيوبهم ؟؟؟

إن الكثير والكثير في غفلة معرضون ، ونخشى أن يصيبنا ما أصاب الأولين من قبلنا .

رابعاً : إن بعض الناس اليوم قد لا يستشعر عظم مصيبة امتناع الأمطار وقلتها ؛ لأجل وجود مياه بعض البحار والآبار ، فنقول لهؤلاء :

اعلموا أن الله سبحانه قوي قادر ، حكيم عليم ، فالذي قدر على منع الأمطار ، قادر على تغوير المياه والآبار قال جل وعلا مخوفاً عباده :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَّأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ ﴾ وقال :﴿ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ أي : لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدائر والعيون ، وقال :﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ فاتقوا الله عباد الله ، وتوبوا إلى ربكم واحذروا من هذه التهديدات والتخويفات ولا تكونوا كمن قال الله فيهم :﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا

بارك الله

الخطبة الثانية :

 الحمد لله : عباد الله :

أخرج الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي … قال : « بينما رجل بفلاة من الأرض ، إذ سمع صوتاً في سحابة يقول : اسق حديقة فلان . قال : فانقطعت قطعة من السحاب حتى إذا أتت على حرة ، فإذا شرجة من تلك الشراج فاستوعبت الماء كله ، فتتبع الماء فرأى الماء يأتي إلى رجل في حديقته يدير الماء بمسحاته ، فقال الرجل : يا عبد الله ، ما اسمك ؟ قال : اسمي فلان للاسم الذي سمع في السحاب ، فقال : يا عبد الله لم تسألني عن اسمي ؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب يقول : اسق حديقة فلان ، فماذا تفعل ؟ قال الرجل : أما إذا قلت هذا فإني آخذ ما يخرج منها ، فأتصدق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثه ، وأرجع ثلثاً إلى الأرض ».

فانظروا عباد الله إلى من يشكر نعمة الله عليه ، فيخصه الله عز وجل بالكرامة ، الرجل يقسم الرزق الذي يرزقه إلى ثلاثة أثلاث ، ثلث يتصدق به ، وثلث يأكله هو وعياله ، وثلث يرجعه إلى الأرض ، فما يضرنا إن فعلنا مثل ذلك الرجل ؟ ما يضرنا إذا أخرجنا من أموالنا شيئاً في كل يوم أو أسبوع أو شهر ؟ وإن كان قليلا ، نتصدق به على من يحتاجه ، أليس ذلك من موجبات رحمة الله ؟ أليس ذلك من موجبات نزول الغيث من السماء ؟ كيف يتقلب أحدنا في النعيم وأخوه معدم فاقد ؟ أين أهل الرحمة والشفقة ؟ بل أين من يقتحم العقبة ؟ ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ . عباد الله :

ثقوا بوعد من لا يخلف الميعاد ، ومن ليس لخيره وفضله نقص ولا نفاد ، فإن الله وعد على الإنفاق : الأجر ومضاعفة الثواب ، ومدافعة البلايا والنقم والعذاب ، والخلف العاجل في المال ، والبركة في الأعمال ، ووعد بفتح أبواب الرزق وصلاح الأحوال ، فكونوا بوعده واثقين وببره وجوده طامعين .

ولنكن ممن إذا ذكر تذكر ، وإذا وعظ اتعظ ، وإذا أذنب استغفر ، ولا نكن ممن قست قلوبهم ، فما ينفع فيها وعظ ولا تذكير ، وقلت رغبتهم في الخير ، فما يؤثر فيها تشويق ولا تحذير ، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ