بحث متقدم   
 
الصفحة الرئيسة / المكتبة الإلكترونية / الدروس / من أحكام الصيام
من أحكام الصيام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن ِالرَّحِيمِ

أَسْعَدَ اللهُ أَوْقَاتَكُمْ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَتَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ فِي سَعْيِنَا وَعَمَلِنَا، وَرَزَقَنَا جَمِيعًا الإِخْلَاصَ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ.

وَبَعْدُ:

مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ وَفَوَائِدِهِ وَآثَارِهِ:

نَحْنُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الشَّرِيفَةِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ نَتَسَابَقُ إِلَى الخَيْرَاتِ، نَرْجُو إِنْ شَاءَ اللهُ أَنْ نَكُونَ مِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ أَنْ نَكُونَ مِنَ السَّابِقِينَ السَّابِقِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِدَارِ كَرَامَتِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ(1)، وَمِنَ المُسَارِعِينَ فِي الخَيْرَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(2) وَرَدَ فِي بَعْضِ الآثَارِ: أَنَّ اللهَ جَعَلَ رَمَضَانَ مِضْمَارًا لِلنَّاسِ يَتَسَابَقُونَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ فَسَبَقَ قَوْمٌ فَفَازُوا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ فَخَابُوا، وَالمِضْمَارُ هُوَ مَيْدَانُ السِّبَاقِ الَّذِي يَتَسَابَقُ فِيهِ أَهْلُ الخَيْلِ وَأَهْلُ الإِبِلِ، فَرَمَضَانُ مَيْدَانٌ لِهَذَا السِّبَاقِ يَتَسَابَقُونَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْ ذَلِكَ المُسَابَقَةُ إِلَى المَسَاجِدِ يَحْرِصُ كُلُّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْبِقَ غَيْرَهُ، يُحْزِنُهُ إِذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى مَسْجِدٍ سَوَاءٌ كَانَ لِفَرِيضَةٍ أَوْ لِنَافِلَةٍ، كَذَلِكَ أَيْضًا السِّبَاقُ بِكَثْرَةِ القِرَاءَةِ يَحْرِصُ المُسْلِمُ عَلَى أَنْ يَسْبِقَ غَيْرَهُ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ القُرْآنِ، كَذَلِكَ السِّبَاقُ بِالصَّدَقَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ يَحْرِصُ أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّابِقِينَ إِلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ وَنَحْوِهَا.

وَهَكَذَا السِّبَاقُ بِكَثْرَةِ الأَذْكَارِ، وَهَكَذَا السِّبَاقُ بِكَثْرَةِ الأَدْعِيَةِ، وَهَكَذَا السِّبَاقُ بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ، وَهَكَذَا السِّبَاقُ بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَهَكَذَا السِّبَاقُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَهَكَذَا بِبَقِيَّةِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَكُونُ رَمَضَانُ مِضْمَارًا يَتَسَابَقُ النَّاسُ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَسَبَقَ قَوْمٌ فَفَازُوا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ فَخَابُوا.

فَهَكَذَا يَكُونُ المُسْلِمُ فِي هَذَا الشَّهْرِ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ السَّابِقِينَ.

الأَعْمَالُ فِي هَذَا الشَّهْرِ مِنْهَا مَا هُوَ عَمَلٌ عَامٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَمَلٌ خَاصٌّ، أَيْ: يَفْعَلُهُ البَعْضُ دُونَ البَعْضِ، فَالصِّيَامُ مِنَ الأَعْمَالِ العَامَّةِ الَّتِي يَصُومُهَا النَّاسُ يَصُومُهَا جَمِيعُ المُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّوْمَ، وَهُوَ قَادِرٌ، وَلَكِنْ يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي هَذَا الصِّيَامِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ هَذَا الصِّيَامَ عِبَادَةٌ سِرِّيَّةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: إِنَّهَا لَا تَكْتُبُهُ الحَفَظَةُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ العَبْدَ الصَّائِمَ يَعْرِفُ أَنَّ رَبَّهُ يُرَاقِبُهُ يَعْرِفُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرَاهُ فِي كُلِّ الحَالَاتِ يَرَاهُ، فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، فَيُرَاقِبُ اللهَ تَعَالَى، فَلَا يُقْدِمُ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى أَكْلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ رَبَّهُ يَرَاهُ.

يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ مُخَالف لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَيَتَنَاوَلُ المُفْطِرَاتِ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ، وَلَكِنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ بِمَرْأَى مِنَ اللهِ تَعَالَى وَمَسْمَعٍ؛ وَلِهَذَا المُؤْمِنُ التَّقِيُّ لَوْ ضُرِبَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَامْتَنَعَ وَأَصَرَّ عَلَى إِكْمَالِ صَوْمِهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَا يُفْطِرْ بِهِ، أَوْ مَا يُبْطِلُ صِيَامَهُ، شَرَعَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الصِّيَامَ؛ لحِكَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْهَا:

وُجُوبُ الإِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يُخْلِصَ للهِ تَعَالَى، وَيُصْلِحَ عَمَلَهُ للهِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الصِّيَامِ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى يَتَذَكَّرُ الصَّائِمُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(3)، يَتَذَكَّرُ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(4)، يَتَذَكَّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(5)، ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(6)، فَيُرَاقِبُ اللهَ تَعَالَى، وَيَخَافُهُ أَشَدَّ الخَوْفِ. فَالصِّيَامُ سَبَبٌ فِي إِخْلَاصِ العَمَلِ، وَالخَوْفِ مِنَ اللهِ وَمُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى، وَفِي طَاعَتِهِ طَاعَةً كَامِلَةً هَكَذَا يَكُونُ الصِّيَامُ، ثُمَّ فِيهِ أَيْضًا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ هَذِهِ الحِكْمَةُ هِيَ تَعْوِيدُ الإِنْسَانُ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَعْوِيدُهُ عَلَى الامْتِثَالِ لَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا عَوَّدَ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ، فَإِنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى بَقِيَّةِ الضَّرَرِ؛ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ هَذَا الشَّهْرِ: أَنَّهُ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الجَنَّةُ، يَقُولُ العُلَمَاءُ: إِنَّ الصَّبْرَ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَصَبْرٌ عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَصَبْرٌ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ، وَهِيَ تَجْتَمِعُ فِي الصِّيَامِ.

صَبْرٌ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَهِيَ هَذَا الامْتِثَالُ الَّذِي هُوَ الإِمْسَاكُ، فَإِنَّهُ طَاعَةٌ وَصَبْرٌ عَنْ مَعَاصِي اللهِ: أَنَّ الصَّائِمَ يَصْبِرُ عَنِ المُفْطِرَاتِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَصْبِرُ عَنْ تَنَاوُلِ المُحَرَّمَاتِ، وَهَكَذَا أَيْضًا صَبْرٌ عَلَى الآلَامِ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ ظَمَأٍ وَجُهْدٍ وَجُوعٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيُعْتَبَرُ هَذَا شَهْرَ الصِّيَامِ، وَيُعْتَبَرُ الصِّيَامُ مِنَ الصَّبْرِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(7)، كَذَلِكَ أَيْضًا مِنَ الحِكَمِ فِيهِ: أَنَّ الصَّائِمَ إِذَا تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَتَقَرَّبَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ، فَيَتَقَرَّبُ بِتَرْكِ الفَوَاحِشِ، وَيَتَقَرَّبُ بِتَرْكِ كَبَائِرِ اللِّسَانِ، وَيَتَقَرَّبُ بِتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ البَدَنِيَّةِ وَالمُحَرَّمَاتِ المَعْنَوِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَيَكُونُ الصِّيَامُ مِفْتَاحًا لِتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا هَكَذَا يَكُونُ الصِّيَامُ فِي حَقِيقَتِهِ لَهُ هَذِهِ الآثَارُ.

ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ: تَرَاحُمُ المُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنَّ الغَنِيَّ وَالثَّرِيَّ يَحُسُّ بِالجُوعِ إِذَا أَمْسَكَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإِذَا أَحَسَّ بِأَلَمِ الجُوعِ، وَبِأَلَمِ الظَّمَأِ تَذَكَّرَ الفُقَرَاءَ الَّذِينَ يَمَسُّهُمُ الجُوعُ فِي طُولِ العَامِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَرْحَمَهُمْ، وَأَنْ يُشْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَمُدَّ لَهُمُ الصِّلَةَ يَمُدَّ لَهُمْ يَدَ المَعُونَةِ، هَكَذَا ذَكَرَ العُلَمَاءُ مِنْ حِكَمِ اللهِ تَعَالَى خِلَالَ الصِّيَامِ، وَلَهُ حِكَمٌ وَمَصَالِحُ عَظِيمَةٌ.

وَأَمَّا أَحْكَامُهُ، فَإِنَّهَا مَعْرُوفَةٌ، وَالحَمْدُ للهِ وَمُتَكَرِّرَةٌ، يَعْنِي: المُفْطِرَاتِ، وَالمَكْرُوهَاتِ، وَالمَنْدُوبَاتِ، وَمَا أَشْبَهَهَا، مِنَ الأَعْمَالِ فِي هَذَا الشَّهْرِ هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ. هَذِهِ أَيْضًا مِنَ السُّنَنِ المَنْدُوبَةِ مِنَ السُّنَنِ المُؤَكَّدَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ فَقَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(8)، هَكَذَا رَغَّبَ فِي قِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّهُ قَالَ: «شَهْرٌ جَعَلَ اللهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا»(9)، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَّ لَكُمْ قِيَامَهُ»(10)، فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ مَرَّتَانِ، فَصَلَّى مَعَهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهِمْ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، أَوْ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، وَتَنَاقَلُوا الخَبَرَ، فَجَاءَ عَدَدٌ أَكْثَرُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَصَلَّى بِهِمْ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَنَاقَلُوا وَانْتَشَرَ الخَبَرُ، فَجَاءَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ عَدَدٌ أَكْثَرُ، فَصَلَّى بِهِمْ إِلَى ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا -يَعْنِي: لَوْ كَمَّلْتَنَا لَيْلَتَنَا- فَقَالَ: «إِنَّ المُسْلِمَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»(11)، فَصَلَّوْا فِي اللَّيْلَةِ الأُولَى ثُلُثَ اللَّيْلِ، وَفِي الثَّانِيَةِ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَفِي الثَّالِثَةِ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَمَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ(12)، فَتَارَةً يَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَتَارَةً يُنْقِصُ مِنْهُ قَلِيلًا، وَتَارَةً يَزِيدُ عَلَيْهِ، فَهَكَذَا كَانَ قِيَامُهُ، وَكَانَ تَهَجُّدُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، وَاسْتَمَرَّ عَدَدُ المُسْلِمِينَ إِلَى هَذَا اليَوْمِ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَكَذَبُوا، فَقَدْ فَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَخَافَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَيَعْجَزُوا عَنْهَا، وَصَارُوا فِي زَمَانِهِ يُصَلُّونَ جَمَاعَاتٍ يُصَلِّي جَمَاعَةٌ بِوَاحِدٍ مَثَلًا عَشَرَةٌ مَثَلًا فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَيُصَلِّي فِي نِصْفِ اللَّيْلِ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ، وَيُصَلِّي بَعْدَهُمْ مِثْلُهُمْ فَيُصَلُّونَ أَوْزَاعًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ جَمَعَهُمْ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ وَاسْتَمَرَّ العَمَلُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى هَذَا الَّمَانِ.

هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ، وَأَيُّ عِبَادَةٍ حَيْثُ أَنَّ فِيهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ العِبَادَاتِ القَوْلِيَّةِ وَالفِعْلِيَّةِ القِيَامُ فِيهَا عِبَادَةٌ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عِبَادَةٌ، وَالجُلُوسُ فِيهَا عِبَادَةٌ، وَالقِرَاءَةُ، وَالدُّعَاءُ، وَالذِّكْرُ عِبَادَاتٌ شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى فَرِيضَةً وَنَافِلَةً؛ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ العِبَادَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ تَعَالَى، وَالَّتِي يَرْضَاهَا مِنْ عِبَادِهِ، وَفِيهَا أَيْضًا الخُشُوعُ وَالخُضُوعُ، وَفِيهَا حُضُورُ القَلْبِ، وَفِيهَا الإِخْفَاتُ وَالإِنَابَةُ، وَفِيهَا التَّوْبَةُ وَالاسْتِغْفَارُ، وَفِيهَا حُضُورُ أَوْ سُكُونُ الجَوَارِحِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى، فَهِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ بِكُلِّ أَنْوَاعِ العِبَادَةِ؛ فَلِذَلِكَ اللهُ تَعَالَى يُحِبُّ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ بِهَذِهِ العِبَادَةِ، أَيْ: بِجِنْسِ هَذِهِ العِبَادَةِ يُحِبُّهُمُ، وُيُثِيبُهُمْ، وَيُجْزِلُ ثَوَابَهُمْ فِي حَدِيثِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»(13)، أَيْ: بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(14)

 أَيْ: يَقْطَعُونَ لَيْلَهُمْ كُلَّهُ سُجَّدًا وَقِيَامًا، يَبِيتُونَ يَعْنِي: يَمْكُثُونَ اللَّيْلَ كُلَّهُ، يَتَنَقَّلُونَ بَيْنَ سُجُودٍ، وَرُكُوعٍ، وَقِيَامٍ، وَقُعُودٍ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَدْحِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَهَذِهِ مِنَ العِبَادَاتِ فِي هَذَا الشَّهْرِ.

مِنَ العِبَادَاتِ أَيْضًا فِيهِ كَثْرَةُ الصَّدَقَاتِ كَثْرَةُ بَذْلِ المَالِ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ المَشْهُورِ: قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ، قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: الجُودُ كَثْرَةُ العَطَاءِ، وَكَثْرَةُ البَذْلِ، وَاللهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالجُودِ، فَهُوَ أَجْوَدُ الأَجْوَدِينَ، وَيَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ لَاسِيَّمَا فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَقَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ(15)، فَمِنْ جُودِهِ أَنَّهُ يُجِيبُ مَنْ دَعَاهُ وَيُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ، وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ، وَيُعْطِي وَيُوَسِّعُ عَلَى عِبَادِهِ، فَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَضَاعَفُ جُودُهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ كَمَا فِي بَعْضِ الأَحَادِيثِ لَا يُسْئَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ كُلُّ مَا كَانَ يَجِدُهُ، فَإِنَّهُ يَبْذُلُهُ، وَلَا يُمْسِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَكَانَ يَعِيشُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ عِيشَةَ الفُقَرَاءِ، وَكَانَ يُعْطِي عَطَاءً يَعْجَزُ المُلُوكُ عَنْ إِعْطَائِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ رَجَبٍ أَبْيَاتًا يُمْدَحُ بِهَا بَعْضُ الأَجْوَادِ قَالَ: لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَو أنَّهُ *** ثَنَاهَـا لِقَبْـضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهْ

وَلَوْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ *** لَجَادَ بِـهَا فَلْيَـتَّقِ اللهَ سَائِلُـهْ

تَــرَاهُ إِذَا مَـا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا *** كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُـهْ

هُوَ البَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْتَهُ *** فَلُجَّتُهُ المَعْرُوفُ وَالجُودُ سَاحِلُهْ

وَهَذَا وَصْفٌ يَنْطَبِقُ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شَكَّ أَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِي أَنْ نَبْذُلَ، وَنَتَصَدَّقَ مِمَّا أَعْطَانَا اللهُ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ زَكَوِيًّا، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاتَهُ؛ فَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِ المَالِ لَا يُبَارَكْ إِلَّا إِذَا أَخْرَجَهُ، وَأَعْطَاهُ لِمُسْتَحِقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، وَلَكِنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ فَضْلٍ مِنَ المَالِ، فَإِنَّهُ يَجُودُ بِهِ عَلَى الفُقَرَاءِ يَجُودُ بِهِ عَلَى المُسْتَضْعَفِينَ، وَهُمْ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ البِلَادِ، وَفِي سَائِرِ البِلَادِ الإِسْلَامِيَّةِ.

يَتَسَأَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَنِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ يَقُولُونَ:لَا نَعْرِفُ فَقِيرًا، لَيْسَ هُنَاكَ فَقِيرٌ، لَيْسَ هُنَاكَ أَحَدٌ مِنَ الفُقَرَاءِ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ، وَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الوَصْفُ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ هُنَاكَ فُقَرَاءُ كَثِيرُونَ إِذَا بُحِثَ عَنْهُمْ وُجِدُوا فِي هَذِهِ البِلَادِ فِي هَذِهِ الضِّيَاعِ، يَعْنِي: هُنَاكَ أَهْلُ الجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ وَمَبَرَّاتِ الإِحْسَانِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا البِلَادُ الأُخْرَى فِي كُلِّ البِلَادِ غَالِبًا جَمْعِيَّةٌ يَمْنَحُونَ الصَّدَقَاتِ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الأَمْوَالِ العَيْنِيَّةِ مَا يُوَسِّعُونَ بِهِ عَلَى أُولَئِكَ الفُقَرَاءِ وَالمُعْوَذِينَ، وَبَعْضُهُمْ أَشَدُّ حَاجَةً مِنْ بَعْضٍ، وَبِالمُنَاسَبَةِ نَقُولُ: إِنَّ مِنْطَقَةَ نَجْرَانَ فِيهَا المَكَارِمُ الَّذِينَ هُمُ الإِسْمَاعِيلِيَّةُ هَدَى اللهُ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَتَابُوا مِنْ هَذِهِ العَقِيدَةِ، وَلَمَّا هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَادَتْهُمْ قَبَائِلُهُمْ، وَقَاطَعُوهُمْ فَاضْطَرُّوا إِلَى تَرْكِ دِيَارِهِمْ اضْطَرُّوا إِلَى تَرْكِ بِلَادِهِمْ، وَوُجُودِهِمْ، وَاسْتَأْجَرُوا فِي أَمَاكِنَ خَاصَّةٍ بِأَهْلِ السُّنَّةِ، وَصَارُوا فِي حَاجَةٍ، فَإِنَّهُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى دَفْعِ أُجْرَةِ السَّكَنِ، وَكَذَلِكَ إِلَى نَفَقَةِ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَنَحْوِهِمْ، وَيَعْرِفُهُمْ رَئِيسُ المَكْتَبِ التَّعَاوُنِيِّ الشَّيْخُ صَالِحُ بْنُ خَلِيفَةَ، وَكَذَلِكَ رَئِيسُ المَحْكَمَةِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ العَسْكَرِيُّ، وَهَكَذَا أَيْضًا فِي مِنْطَقَةِ جِيزَانَ الفَقْرُ فِيهِمْ كَثِيرٌ، وَيُعَرِفُ بهم أَيْضًا رَئِيسُ المَكْتَبِ التَّعَاوُنِيِّ، أَوْ مَكْتَبِ الدَّعْوَةِ الَّذِي هُوَ الشَّيْخُ مُوسَى بْنُ مُوسَى الأَمِينُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ البِلَادِ فِيهَا كَثِيرٌ وَكَثِيرٌ، فَنَقُولُ: إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَحُسَّ بِحَاجَةِ إِخْوَانِنَا فِي كُلِّ البِلَادِ، وَأَنْ نَرْفُقَ بِهِمْ وَأَنْ نَرْحَمَهُمْ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَّلَ المُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»(16)، فَهَكَذَا يَكُونُ المُسْلِمُونَ. اللهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ هَذَا الصِّيَامَ إِلَّا لِيَتَذَكَّرَ الغَنِيُّ حَاجَةَ الفَقِيرِ، الفُقَرَاءُ الَّذِينَ يَعُوذُهُمْ تَحْصِيلُ القُوتِ فِي طَوَالِ السَّنَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَهُمْ إِذَا أَحَسَّ بِأَلَمِ الجُوعِ فِي زَمَانٍ، أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ سَاعَةً فِي هَذَا الوَقْتِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي صِلَةِ إِخْوَانِنَا وَنُخَفِّفَ عَنْهُمْ، كَذَلِكَ أَيْضًا ذَكَرْنَا هَذَا الحَدِيثَ حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ فِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ القُرْآنَ عَلَى جِبْرِيلَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيالِي رَمَضَانَ؛ لِذَلِكَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُكْثِرَ المُسْلِمُونَ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ فِي هَذَا الشَّهْرِ يُكْثِرُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، يَتَأَمَّلُونَهُ وَيَتَدَبَّرُونَهُ يَقْرَؤُونَهُ فِي كُلِّ الحَالَاتِ يَجْعَلُونَ لَهُ جُزْءًا كَافِيًا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَمُرُّ بِهِمْ، فَلَا يُضَيِّعُونَ أَيَّامَهُمْ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ بَلْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَغِلُّوهَا، فَمَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ بِتَيَسُّرِ القُرْآنِ؛ لَقَدْ أَتَذَكَّرُ قَبْلَ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ سَنَةً أَنَّ القَرْيَةَ لَا يَكُونُ فِيهَا إِلَّا وَاحِدًا، أَوْ اثْنَانِ يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، وَالبَقِيَّةُ أُمِّيُّونَ، وَلَا يَقْرَأُ القُرْآنَ أَكْثَرُهُمْ يُخْطِؤُونَ فِيهِ، وَلَا يُقِيمُونَهُ إِلَّا القَلِيل مِنْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَتْ تَعُوذُهُمُ المَصَاحِفُ، فَنَجِدُ أَنَّ المَصَاحِفَ مُمَزَّقَةٌ كَثِيرٌ مِنَ المَسَاجِدِ لَا تُوجَدُ فِيهَا المَصَاحِفُ الجَدِيدَةُ فِي هَذِهِ الأَزْمِنَةِ، أَيْ: كُلَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوِهَا، وَالحَمْدُ للهِ قَدْ كَثُرَتِ المَصَاحِفُ.

وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَثُرَ القُرَّاءُ، وَقَرَؤُوا القُرْآنَ، وَفُتِحَتِ المَدَارِسُ أَيْ: مُنْذُ نَحْوِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَالمَدَارِسُ مَفْتُوحَةٌ، وَكَذَلِكَ دَوَالِيبُ المَسَاجِدِ مَلِيئَةٌ بِالمَصَاحِفِ، وَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَفِي كُلِّ بَيْتٍ فَلَا عُذْرَ لِلْمُسْلِمِ حِينَ يَتْرُكُ القُرْآنَ، يَتْرُكُ قِرَاءَتَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً.

نَتَسَاءلُ مَعَ بَعْضِ الإِخْوَةِ فِي كَمْ تَخْتِمُ القُرْآنَ؟ يَذْكُرُ أَنَّهُ يَمُرُّ عَلَيْهِ عَشْرَةُ أَشْهُرٍ لَا يَخْتِمُهُ، أَوْ أَحَدَ عَشْرَ شَهْرًا، وَلَا يَخْتِمُهُ إِلَّا فِي رَمَضَانَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ نَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ هُجْرَانِ القُرْآنِ الَّذِي ذَمَّ اللهُ تَعَالَى أَهْلَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا(17)، فَالإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَطُولُ التَّغَافُلِ عَنْهُ يُعْتَبَرُ هُجْرَانًا لَهُ.

عَلَيْكَ أَيُّهَا المُسْلِمُ أَيُّهَا القَارِئُ، أَلَّا تَمَلَّ مِنَ القُرْآنِ، فَإِنَّ هَذَا القُرْآنَ يُعْتَبَرُ دَلِيلَ المُؤْمِنِينَ، وَيُعْتَبَرُ نُورًا، وَيُعْتَبَرُ ضِيَاءً لَهُمْ، يُعْتَبَرُ قُوتًا وَغِذَاءً لِلْقُلُوبِ الحَيَّةِ لَا يُرْوَوْنَ مِنْهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: الظَّمْآنُ يُرْوَى، وَالجَائِعُ يَشْبَعُ، وَأَنَا لَا أَشْبَعُ مِنَ الصَّلَاةِ لِمَا فِيهَا، مِنَ التَّلَذُّذِ بِالقِرَاءَةِ وَبِالذِّكْرِ، وَهَكَذَا أَيْضًا القُرْآنُ، فَعَلَيْنَا الاهْتِمَامُ بِهِ عَلَيْكَ. أَيُّهَا القَارِئُ: أَنْ تَجْعَلَ لَكَ وِرْدًا وَحِزْبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ تَقْرَأُ مَثَلًا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَا تَيَسَّرَ جُزْأَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَكَذَا بَعْدَ الظُّهْرِ، وَكَذَا بَعْدَ العَصْرِ، وَكَذَا قَبْلَ الفَجْرِ، وَهَكَذَا حَتَّى تَخْتِمَ القُرْآنَ فِيمَا تَيَسَّرَ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا.

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا صِيَامَنَا، وَقِيَامَنَا، وَقِرَاءَتَنَا، وَصَدَقَاتِنَا، وَحَسَنَاتِنَا، وَأَنْ يُضَاعِفَ لَنَا الحَسَنَاتِ، وَيُكَفِّرَ عَنَّا السَّيِّئَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ أَصَابَ الشَّهْرَ، وَاسْتَكْمَلَ الأَجْرَ، وَأَدْرَكَ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَفَازَ بِجَائِزَةِ اللهِ، وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْ إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ، وَيُضَاعِفَهَا لَهُمْ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَأَنْ يُصْلِحَ أَحْوَالَ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُصْلِحَ أَئِمَّتَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، وَيَجْعَلَهُمْ وُلَاةً مُهْتَدِينَ، هَذَا وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الأَسْئِلَةُ

السُّؤَالُ: الَّذِي لَدَيْهِ مَبْلَغٌ مُؤَجِّرٌ مَنْزِلًا مَثَلًا، أَوْ مُسْتَوْصَفًا لَمْ يَتَحَصَّلْ عَلَى الأَجْرِ هَلْ يُزَكِّيهِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَلِمُهُ أَمْ مَاذَا؟ مَعَ العِلْمِ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ عَلَيْهِ لَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ الحَوْلِ؟

الجَوَابُ: إِذَا قَبَضَهُ وَحَالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ يُزَكِّي، وَإِذَا صَرَفَهُ قَبْلَ أَنْ يُزَكِّيَهُ، فَلَا زَكَاةَ فِي مَالٍ لَمْ يُؤده مل لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الحَوْلُ.

السُّؤَالُ: رَجُلٌ تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَالصِّيَامَ حَيْثُ كَانَ يَشْرَبُ الخَمْرَ لِمُدَّةِ سَنَتَيْنِ، وَخَرَجَتْ زَوْجَتُهُ وَأَطْفَالُهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَالآنَ بِفَضْلٍ مِنَ اللهِ رَجَعَ إِلَى اللهِ، وَتَرَكَ شُرْبَ الخَمْرِ، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي وَللهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ، وَيُرِيدُ إِرْجَاعَ زَوْجَتِهِ، فَهَلْ يَلْزَمُ عَقْدُ نِكَاحٍ جَدِيدٍ؟

الجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّ إِصْرَارَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَتَرْكِ الصِّيَامِ يُعْتَبَرُ مِنْ فِعْلِ الكُفَّارِ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ رِدَّةً يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَإِذَا رَغِبَتْهُ وَتَرَاضَيَا تَعَاقَدَ مَعَهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ بِشَرْطِ إِصْلَاحِ مَا بَيْنَهُمَا.

السُّؤَالُ: هَلْ يَجُوزُ لِأَصْحَابِ المَحَلَّاتِ أَوِ المُؤَسَّسَاتِ خَصْمُ قِيمَةِ الخُصُومِ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَلَدِيَّاتٍ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ مَبَالِغُ طَائِلَةٌ تَصِلُ إِلَى حَوَالِي عِشْرِينَ أَلْفَ رِيَالٍ أَوْ أَكْثَرُ حَسْبَ نَشَاطِ المُؤَسَّسَةِ هَلْ تُخْصَمُ الزَّكَاةُ مِنْ تِلْكَ المَحَلَّاتِ أَوْ لَا؟

الجَوَابُ: لَا تُخْصَمُ إِلَّا إِذَا تَحَقَّقَ بِأَنَّهَا تُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِمَصْلَحَةِ الزَّكَاةِ وَالدَّفْع، فَإِنَّ هَذَا يُحْسَبُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَأَمَّا الرُّسُومُ هَذِهِ تُدْفَعُ مَثَلًا عَلَى اللَّافِتَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ عَلَى البَضَائِعِ هَذِهِ لَا تُحْسَبُ مِنَ الزَّكَاةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَهَا إِلَى رَأْسِ المَالِ، فَأَحَدُهُمْ مَثَلًا يَشْتَرِي سَيَّارَةً تَتَكَلَّفُ عَلَيْهِ بِثَلَاثِينَ أَلْفٍ ثُمَّ تُؤْخَذُ مِنْهُ الرُّسُومُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ، فَيَكْتُبُ رَأْسَ المَالِ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، فَيُضِيفُهَا إِلَى رَأْسِ المَالِ، وَيَفْرِضُهَا عَلَى المُشْتَرِي هَذِهِ لَا تُخْصَمُ مِنَ الزَّكَاةِ.

السُّؤَالُ: لَقَدْ أَوْصَى أَبِي رَحِمَهُ اللهُ بِثُلُثِ مَالِهِ بِتَفْطِيرِ الصَّائِمِينَ فِي مَسْجِدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، وَثَلَاثٍ مِنَ الشِّيَاةِ وَصِيَّةً لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ، وَقَدْ يَبْقَى مِنْ هَذَا المَبْلَغِ قَدْرٌ، فَهَلْ يُصْرَفُ فِي مَجَالِ الدَّعْوَةِ، أَمْ مَدَارِسِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ؟

الجَوَابُ: يُصْرَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ، يَعْنِي: مَدَارِسَ تَحْفِيظِ القُرْآنِ مِنَ الأَعْمَالِ الخَيْرِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الدَّعْوَةُ، وَكَذَلِكَ النَّشَرَاتُ العِلْمِيَّةُ وَالأَشْرِطَةُ الإِسْلَامِيَّةُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

السُّؤَالُ: لَقَدْ اعْتَمَرْتُ فِي العَامِ المَاضِي فِي رَمَضَانَ، وَأَعْلَمُ أَنَّ النِّقَابَ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنَ الإِحْرَامِ، وَلَكِنْ لَبِسْتُ النِّقَابَ عَلَى شَكْلِ الغِطَاءِ الَّذِي نَلْبَسُهُ نَحْنُ النِّسَاءَ، ثُمَّ لَمَّا اشْتَدَّ الزِّحَامُ بِنَا فِي المَسْعَى، وَخِفْتُ عَلَى نَفْسِي مِنَ الضَّيَاعِ، وَلَمْ أَعُدْ أَرَى أَخِي مِنَ الرِّجَالِ، فَفَتَحْتُ الغِطَاءَ الصَّغِيرَ عَلَى العَيْنَيْنِ لِأَرَاهُ، ثُمَّ لَمْ أُعِدْهُ فِي وَضْعِهِ الطَّبِيعِيِّ مِنْ شِدَّة الزِّحَامِ، وَنِسْيَانِي لِذَلِكَ ثُمّ نَبَّهَ أَحَدُ الإِخْوَةِ أَخِي بِذَلِكَ فَمَا الحُكْمُ؟

الجَوَابُ: النِّقَابُ هُوَ الغِطَاءُ الَّذِي يُفَصَّلُ عَلَى الوَجْهِ، وَيَكُونُ فِيهِ فُتْحَتَانِ حِذَاءَ العَيْنَيْنِ، وَيُسَمَّى البُرْقُعَ، وَهَذَا النِّقَابُ لَا يَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُ فِي حَالِ الإِحْرَامِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُمْنَعُ مِنْ لُبْسِ الخِمَارِ، وَمِنَ الجِلْبَابِ أَنْ تَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهَا، وَلَهَا أَنْ تُبْدِيَ عَيْنًا وَاحِدَةً تَنْظُرُ بِهَا الطَّرِيقَ أَوْ تَنْظُرُ بِهَا مَنْ تُرِيدُ مَعْرِفَتَهُ، فَإِذَا لَبِسَتِ النِّقَابَ، فَإِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالحُكْمِ، فَعَلَيْهَا فِدْيَةٌ أَيْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ صَدَقَةٌ لِثَلَاثَةِ أَعْسُرٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ بُرٍّ أَوْ أُرْزٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ جاهِلَةً فَالجَاهِلُ مَعْذُورٌ.

السُّؤَالُ: قُلْتُ: مَرَّةً عَلَيَّ عَهْدُ اللهِ إِنْ رَزَقَنِي اللهُ بِوَلَدٍ؛ لَأُسَمِّيَنَّهُ عُمَرَ فَلَمْ أُوَفِّي بِالعَهْدِ هَلْ عَلَيَّ شَيْءٌ فِي ذَلِكَ؟.

الجَوَابُ: عَلَيْكَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَسْتَعْمِلْ هَذَا الدُّعَاءَ عَلَى نَفْسِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ وَرَدَ فِي الحَدِيثِ: «لَا يَدْعُو أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا عَلَى مَالِهِ، فَيُوَافِقُ سَاعَةَ إِجَابَةٍ؛ فَيُجِيبُ اللهُ دَعْوَتَهُ»(18).

السُّؤَالُ: مَا رَأْيُكُمْ فِي أُنَاسٍ مُسْتَأْجِرِينَ فِي عُمَارَةٍ لِي وَوَاضِعِينَ فِيهَا دِشًّا، فَمَاذَا أَفْعَلُ مَعَهُمْ هَلْ أُخْرِجُهُمْ أَمْ مَاذَا؟

الجَوَابُ: إِنْ كُنْتَ شَرَطْتَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ العَقْدِ أَلَّا يُدْخِلُوهُ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُلْغِيَ عَقْدَهُ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَشْتَرِطْ، فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ، وَلَكِنْ تَقْدِرُ عَلَى أَلَّا تُجَدِّدَ العَقْدَ لَهُمْ إِذَا تَمَّتِ السَّنَةُ، فَلَا تُجَدِّدْ لَهُمْ حَتَّى يُطَهِّرُوا البَيْتَ مِنْهُ.

السُّؤَالُ: أَنَا أُعَانِي مِنْ كَثْرَةِ التَّبَوُّلِ، فَأَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَبَعْدَ الوُضُوءِ أُشَاهِدُ قَطَرَاتٍ خَفِيفَةً، فَأُعِيدُ الوُضُوءَ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ، وَإِنَّنِي رَاجَعْتُ بَعْضَ الأَطِبَّاءِ، وَمَا زِلْتُ أُعَانِي مِنْ ذَلِكَ، فَمَاذَا أَفْعَلُ مَعَ أَنَّنِي خَائِفٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ لَوْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي شَيْءٌ؟

الجَوَابُ: يَحْدُثُ مَعَ كِبَارِ السِّنِّ الَّذِينَ فَوْقَ السَّبْعِينَ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ يُعْتَبَرُونَ مَعْذُورِينَ إِذَا حَصَلَ مَعَهُمْ هَذَا السَّلَسُ، وَلَكِنْ يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَا يَضُرُّهُ إِذَا خَرَجَ أَوْ تَقَاطَرَ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا أَنَّهُ يَتَحَرَّجُ حَتَّى لَا يُنَجِّسَ ثِيَابَهُ، وَأَمَّا الَّذِينَ دُونَ ذَلِكَ، يَعْنِي: الشَّبَابَ وَالفُحُولَ وَالَّذِينَ هُمْ دُونَ السِّتِّينِ، فَغَالِبًا أَنَّهُمْ لَا يَحْصُلُ مَعَهُمْ هَذَا السَّلَسُ، وَلَكِنْ يَحْدُثُ مَعَهُمْ وَسَاوِسُ كَثِيرًا مَا تَحْدُثُ هَذِهِ الوَسَاوِسُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ تَقَاطَرَ مِنْهُ، فَيُعِيدُ الوُضُوءَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَيُكَلِّمُ نَفْسَهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِذَا انْتَهَى مِنَ التَّبَوُّلِ، فَإِنَّهُ يُحَرِّكُ ذَكَرَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مَا فِيهِ وَيَنْتُرُهُ، وَلَكِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ شَيْخُ الإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفُوا مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الأَحَادِيثِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا العَمَلَ يُسَبِّبُ السَّلَسَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ شَابًّا؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ النَّتْفَ وَالسَّلْتَ وَالقَذْفَ مَثَلًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَيَكْثُرُ التَّخَيُّلَاتُ عِنْدَهُمْ، فَيَحْدُثُ هَذَا المَرَضُ الَّذِي هُوَ السَّلَسُ أَنَا أَنْصَحُكَ أَلَّا تَتَوَهَّمَ، وَأَنْ تَدْفَعَ هَذِهِ التَّوَهُّمَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا حَقِيقِيًّا فَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقِيًّا فَصَلَاتُكَ وَطَهَارَتُكَ صَحِيحَةٌ صَلِّي وَلَوْ خُيِّلَ لَكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْكَ، وَلَوْ أَحْسَسْتَ مَثَلًا بِقَطْرَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِنْ كَانَتْ حَقِيقَةً، يَعْنِي: بَوْلٌ، فَأَنْتَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ تَخَيُّلَاتٌ فَلَا تُعِرْهَا انْتِبَاهًا.

السُّؤَالُ: حَصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَعْضِ النَّاسِ خُصُومَةٌ، وَهَجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا الآخَرَ؟ فَهَلْ هَذَا العَمَلُ جَائِزٌ؟

الجَوَابُ: عَلَيْكُمُ الصُّلْحَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَلَا يَجُوزُ التَّهَاجُرُ بِأَيِّ خُصُومَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ، إِنْ كَانَتْ خُصُومَةً دِينِيَّةً، يَعْنِي: خِلَافَاتٍ دِينِيَّةً ارْجِعْ إِلَى أَهْلِ العِلْمِ حَتَّى يُبَيِّنَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ حَتَّى تَصِلُوا إِلَى الحَقِّ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ خِلَافًا دُنْيَوِيًّا، فَأَنْصَحُكُمْ بِأَنْ تَصْطَلِحُوا، وَأَنْ تَتَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ، وَأَلَّا تَتَقَاطَعُوا وَلَا تَتَهَاجَرُوا: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ يَلْتَقِيَانِ؛ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»(19).

السُّؤَالُ: عِنْدِي مَبْلَغٌ مِنَ المَالِ حَالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ، وَلَكِنْ هَذَا المَالُ عُبَارَةٌ عَنْ مُسَاهَمَةٍ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ مُسَاهِمِينَ، وَلَا أَدْرِي مَتَى يَعُودُ لِيَ المَالُ، فَلَا أَدْرِي هَلْ تَكُونُ فِيهِ زَكَاةٌ، هَلْ تَكُونُ مَعَ الرِّبْحِ عِلْمًا بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ عِنْدِي الآنَ مِنَ المَالِ مَا أُزَكِّي بِهِ؟

الجَوَابُ: فِي هَذِهِ المُسَاهَمَاتِ تُعْتَبَرُ خَرَجَتْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهَا أَهْلُ الشَّرِكَةِ، فَصَارَتْ فِي أَيْدِيهِمْ لَا يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهَا أَنْ يَسْتَرِدَّهَا، وَلَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا؛ فَلِذَلِكَ إِنْ كَانَتْ فِي تِجَارَةٍ يَتَّجِرُونَ بِهَا، فَإِنَّ أَهْلَ الشَّرِكَةِ يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ مِنْ كُلِّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسَاهَمَةً مَثَلًا فِي أَرْضٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِضُوهَا لِلْبَيْعِ وَلَمْ يَبِيعُوا، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تُبَاعَ، وَتُسْتَوْفَى وَتُقَدَّرَ، وَيعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ حَتَّى يُزَكِّيَ نَصِيبَهُ، وَهَكَذَا إِذَا كَانَتْ شَرِكَةً مُسَاهِمَةً فِي صِنَاعَةِ شَرِكَةٍ صِنَاعِيَّةٍ، وَمِعْمَارِيَّةٍ، أَوْ زِرَاعِيَّةٍ، أَوْ فِي كَهْرَبَاءٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَالحَاصِلُ: أَنَّ هَذِهِ لَا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى تَقْبِضَ، وَإِذَا كَانُوا يُفَرِّقُونَ الأَرْبَاحَ سَنَوِيًّا، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ لِلَّذِينَ يَسْتَحِقُّوهَا.

السُّؤَالُ: اعْتَادَ النَّاسُ أَدَاءَ رَاتِبَةِ العِشَاءِ قَبْلَ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَهَلْ تُجْزِئُ التَّسْلِيمَةُ الأُولَى مِنَ التَّرَاوِيحِ بِالنِّيَّةِ عَنْ ذَلِكَ؟

الجَوَابُ: إِذَا صَلَّى التَّرَاوِيحَ أنها تُسَمَّى صَلَاةَ اللَّيْلِ، فَإِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الرَّوَاتِبِ، وَأَنَّ سُنَّةَ العِشَاءِ مِنَ الرَّوَاتِبِ يُحَافَظُ عَلَيْهَا فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا التَّهَجُّدُ وَصَلَاةُ العِيدِ فَإِنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الرَّوَاتِبِ نَرَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَي بِرَكْعَتَيْنِ مَعَ التَّرَاوِيحِ، وَيَجْعَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ.

السُّؤَالُ: مَا حُكْمُ الالْتِفَاتِ لِلْمُؤَذِّنِ عِنْدَ قَوْلِهِ: (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ)؟ وَهَلْ يُسْتَغْنَى فِي الوَقْتِ الحَاضِرِ بِالمُكَبِّرِ عَنْ ذَلِكَ؟

الجَوَابُ: يُسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الالْتِفَاتَ يُضْعِفُ الصَّوْتَ.

السُّؤَالُ: إِذَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَمَا حُكْمُ ذَلِكَ؟ وَمَا هِيَ كَفَّارَتُهُ؟

الجَوَابُ: ذَنْبٌ كَبِيرٌ إِذَا أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا لَا يَكْفِي عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ إِذَا صَامَهُ، لَكِنْ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ اليَوْمِ وَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ.

السُّؤَالُ: وَالِدِي رَجُلٌ كَبِيرٌ فِي السِّنِّ وَأُصِيبَ بِعَارِضٍ صِحِّيٍّ نُقِلَ عَلَى أَثَرِهِ إِلَى المُسْتَشْفَى لِمُدَّةِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَدَاءَ الصَّلَوَاتِ فِي وَقْتِهَا، وَلَمْ يُؤَدِّهَا أَبَدًا، وَتَحَسَّنَتْ صِحَّتُهُ حَالِيًا بِفَضْلِ اللهِ، فَكَيْفَ يَقُومُ بِأَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي عَلَيْهِ؟

الجَوَابُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُذَكِّرُوهُ بِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا كَانَ جَاءَ وَقْتُهَا حَتَّى يُصَلِّيَهَا، وَلَوْ بِالإِشَارَةِ، وَلَوْ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ.

السُّؤَالُ: إِنِّي أَصُومُ وَأُصَلِّي وَأَعْمَلُ جَمِيعَ الوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ وَللهِ الحَمْدُ، وَلَكِنَّنِي وَطِئْتُ زَوْجَتِي فِي الدُّبُرِ لِأَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَلَقْدْ نَدِمْتُ نَدَمًا شَدِيدًا، وَلَكِنِّي أَعُودُ لِهَذَا العَمَلِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، فَهَلْ هَذَا مَرَضٌ نَفْسِيٌّ؟ وَهَلْ عَلَيَّ ذَنْبٌ؟ وَمَا كَفَّارَتُهُ؟ وَمَا نَصِيحَتُكُمْ لِي؟

الجَوَابُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ عَمَلٌ سَيِّئٌ، وَذَنْبٌ كَبِيرٌ أَنْصَحُكَ بِالتَّوْبَةِ، وَعَدَمِ العَوْدَةِ، وَالبُعْدِ عَنْ هَذَا العَمَلِ المُسْتَقْذَرِ الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ، وَتَسْتَبْشِعُهُ الأَسْمَاعُ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقُ التَّوْبَةِ مَعَ عَدَمِ العَوْدَةِ.

السُّؤَالُ: هَلْ يُفَطِّرُ رَائِحَةُ الزَّنْجَبِيلِ، وَالرَّيْحَانِ، وَدُهْنِ العُودِ، وَغَيْرِهِ مِنَ العُطُورِ؟

الجَوَابُ: لَا تُفَطِّرُ، وَلَكِنْ لَا يَتَعَمَّدُ شَمَّهَا.

السُّؤَالُ: هَلْ يُشْرَعُ أَنْ يَؤُمَّ الرَّجُلُ أَهْلَ بَيْتِهِ فِي التَّرَاوِيحِ؟

الجَوَابُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، يَعْنِي: مَعَ نِسَائِهِ مَثَلًا وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَصَلَّى بِهِمْ هَذِهِ التَّرَاوِيحَ، فَذَلِكَ جَائِزٌ إِنَّ فِي ذَلِكَ مُسَاعَدَتَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ كَمَا فِي الحَدِيثِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ»(20) وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ(21).


(1) سورة الواقعة: 10، 11.

(2) سورة المؤمنون: 61.

(3) سورة الشعراء: 218، 219.

(4) سورة طه: 46.

(5) سورة الأعلى: 7.

(6) سورة طه: 7.

(7) سورة الزمر: 10.

(8) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان- باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين- باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (759)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(9) أخرجه ابن شاهين في «فضائل شهر رمضان» (1/18/16)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1887)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/305)، وضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (871)، وقال: «منكر».

(10) أخرجه النسائي في كتاب الصيام- باب ذكر اختلاف يحيى بن أبي كثير والنضر بن شيبان (2210)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها- باب ما جاء في قيام شهر رمضان (1328)، من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» (1562)، وقال: «ضعيف».

(11) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة- باب في قيام شهر رمضان (1375)، والترمذي في كتاب الصوم- باب ما جاء في قيام شهر رمضان (806)، والنسائي في كتاب السهو- باب ثواب من صلى مع الإمام ثم انصرف (1364)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها- باب ما جاء في قيام شهر رمضان (1327)، وصححه الألباني «صحيح الترمذي».

(12) سورة المزمل: 1- 3.

(13) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة- باب فضل السجود والحث عليه (489)، من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه.

(14) سورة الفرقان: 64.

(15) سورة البقرة: 186.

(16) أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب رحمة الناس والبهائم (6011)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(17) سورة الفرقان: 30.

(18) أخرجه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (3014)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(19) أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب الهجرة (6077)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي (2560)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

(20) أخرجه أبو داود  كتاب الصلاة- باب قيام الليل (1309)، وابن ماجه  كتاب إقامة الصلاة والسُنَّة فيها (1335)، من أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (1238).

(21) سورة الأحزاب: 35.